دروس "أرشيف ستازي" الألماني قد تساعد السوريين على التصالح مع ماضيهمhttps://www.majalla.com/node/323545/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A3%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D9%81-%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%82%D8%AF-%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D9%85%D8%B9-%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A%D9%87%D9%85
ما يظهر من سلوك جماعي في دمشق وغيرها من المدن السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، من سطو على السجلات والوثائق في السجون التي كسرت بواباتها الحديد، وبعثرتها، بعد تداولها المحموم بين أيدي تلك الحشود المتلهفة لمعرفة مصير معتقل او مغيّب لها، ونهب بعض المقار الرسمية، من سجلات وحواسيب وغيرها، يستدعي قرائن من الماضي عن تجارب مشابهة.
تتشابه الديكتاتوريات، ويستفيد بعضها من تجارب بعض، تتعلم وتضيف، ولقد أنتجت الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية في القرن الماضي وثائق تشهد على أفعالها وإجراءاتها.
ويُعدّ فتح أرشيفات القمع التي وضعتها دوائر المعلومات في أجهزة الأمن والمخابرات، لدى الأنظمة الشمولية، وفي السجون الملحقة بها، أو بالنظام ككل، خطوة جديدة وضرورية للدول التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي لأنها أساسية للضحايا وللبناء المستقبلي. وهذا يتطلب حمايتها بداية في لحظة الهيجان وما يلحقها من فوضى عارمة، ثم تنظيمها وفتحها أمام الجمهور، فبفضل هذا الفتح يمكنهم الوصول إلى المزايا المنصوص عليها في ما يسمى بقوانين جبر الضرر.
مع ذلك، فإن فتح أرشيفات القمع هذه يمكن أن يكون أيضا مصدرا لصراعات مختلفة، إذا لم يكن المجتمع حقق العدالة الانتقالية وفهم فكرة التصالح مع الماضي.
شهد القرن العشرون ديكتاتوريات جبارة ترأسها طغاة عتاة، من هتلر إلى موسوليني إلى ستالين إلى ماو تسي تونغ، إلى آخرين، حاولوا عند اقتراب لحظة الحقيقة، لحظة انهيارهم، إتلاف محفوظاتهم، لكن ما سلم منها واستطاعت الشعوب تنظيمه في أرشيف لاحقا، يعدّ اليوم مصدرا وثائقيا أساسيا للمؤرخين بالطبع، ولكن أيضا للمواطنين، لأنها تسمح لهم بحماية حقوقهم. لا مجال هنا لسرد كل التجارب واللحظات التاريخية، إنما يمكن تسليط الضوء على تجربة من الماضي القريب نسبيا، والتجربة السورية التي تتشكل حاليا.
فتح أرشيفات القمع هذه يمكن أن يكون أيضا مصدرا لصراعات مختلفة، إذا لم يكن المجتمع حقق العدالة الانتقالية وفهم فكرة التصالح مع الماضي
في ألمانيا الشرقية
بداية، لا بد من الإشارة إلى نقطة جوهرية، هي أن الديكتاتورية المنهارة في سوريا ارتبطت باسم عائلة، أو باسم شخصين من عائلة واحدة، الأسد الأب المؤسس، والأسد الابن الوارث، فصارت سوريا بتاريخها وجغرافيتها وكيانها تسمى "سوريا الأسد".
حكم جمهورية ألمانيا الديمقراطية حزب الوحدة الاشتراكية الألماني (SED) لمدة 40 عاما – من دون الشرعية التي تضفيها انتخابات حرة وديمقراطية. وتمكن هذا الحزب من الحفاظ على سلطته من خلال حزب ضخم وجهاز أمني. كان حجر الزاوية المهم لهذا النظام هو وزارة أمن الدولة (MfS) التي تأسست في 8 فبراير/ شباط 1950، تحت التوجيه المباشر للجهاز السري السوفياتي في سياق تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وكانت هذه الوزارة شرطة سرية محلية ووكالة تحقيق وجهاز مخابرات أجنبيا في آن واحد، وكان لديها 17 سجنا احتياطيا خاصا بها، وكانت محاطة بالسلاح ولديها فوج حراسة خاص. كانت خاضعة حصريا لسيطرة قيادة الحزب الاشتراكي SED وليس للسيطرة البرلمانية أو سيطرة الصحافة الحرة، والتي لم تكن موجودة في النظام الإعلامي الذي تسيطر عليه الدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
دائما ما كان يفسّر موقف الأشخاص الذين رفضوا الاشتراكية، خاصة في السنوات الأولى، بأنه تحت تأثير "مراكز العدو" الغربية. من أجل تعقب "العناصر السلبية المعادية" والقضاء عليها، حاول جهاز ستازي (جهاز أمن الدولة) اختراق جميع مجالات حياة سكان جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ووضع هدفا يتمثل بأن يؤدي تجريد "أعداء الاشتراكية" من قوتهم في مرحلة مبكرة، إلى تأمين سلطة الحزب (الواحد) إلى الأبد.
راقب ستازي الناس واستجوبهم واعتقلهم وأحيانا قام بـ"تصفيتهم" جسديا، كونهم "أعداء" الدولة. وسجل كل هذه الممارسات بشكل منهجي في آلاف الملفات. كانت شبكة مراقبة ستازي حاضرة في كل جانب من جوانب الحياة اليومية، وكان من بين موظفيها البالغ عددهم 274,000 ما لا يقل عن 174,000 مخبر، يمثلون نحو 2.5٪ من القوى العاملة. فتش هؤلاء المخبرون كل مكتب وكل جمعية ثقافية ورياضية وكل مبنى. كانوا يراقبون الناس حتى في منازلهم ومنازل أصدقائهم، بل حتى في غرف نومهم، يقول البعض إن واحدا من كل ثلاثة مواطنين كان مدرجا في الملفّات. ربما من بين الأفلام العديدة التي أضاءت تلك الحالة، فيلم "حياة الآخرين" الذي اكتسب شهرة كبيرة وصار رديفا لألمانيا الشرقية في الأذهان.
غزت "لجنة المواطنين" في جمهورية ألمانيا الديمقراطية المبنى الذي كانوا يتظاهرون أمامه كل يوم. المبنى الذي كان مجرد ذكر الشارع الموجود فيه، يجعل الألمان يرتجفون. لمدة عشرين عاما قبل تلك اللحظة، وجد المتظاهرون مئات الموظفين مشغولين بإتلاف الملفات بإمعان. وضعوا جميع الوثائق في الحجز. منذ متى كان ستازي مشغولا بمحو آثار جرائمه؟ كم عدد الوثائق التي اختفت بهذه الطريقة؟ "لا نعرف"، تجيب سيلفيا داليتز، عضو مكتب المتحدث باسم BST الوكالة الفيديرالية التي تحتفظ الآن بالملفات التي عُثر عليها. "من المستحيل معرفة المدى الأصلي لأرشيف ستازي". لكننا نعرف ما تبقى. وهو عملاق بالفعل: أكثر من 180 كيلومترا من الرفوف، تخيلوا فحسب هذا الكم الهائل، الذي جمع.
كان جهاز أمن الدولة، ستازي، على دراية تامة بالأسباب التي دفعت الألمان الشرقيين إلى الفرار من بلادهم في صيف عام 1989: مشاكل الإمداد والافتقار إلى الحريات الفردية، واستحالة السفر المجاني إلى الغرب، وعدم كفاية الخدمات، وأوجه القصور في الإشراف الطبي، وظروف العمل السيئة وعدم المساواة في الترقيات، وركود الأجور، إلخ. السلوك البيروقراطي للمديرين التنفيذيين للدولة والشركات، والسياسة الإعلامية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. انهار النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية مع سقوط جدار برلين، الذي كان من المفترض أن يحميه. في حالة من الذعر والإلحاح، في مقر الشرطة السرية القوية في برلين، صدرت الأوامر بتدمير ملايين البطاقات والملفات التي تسجل عقودا من مراقبة الشرطة.
كان من بين موظفي شبكة مراقبة ستازي البالغ عددهم 274,000 ما لا يقل عن 174,000 مخبر
في سوريا
منذ استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في سوريا عام 1963، بانقلاب عسكري، جرى التركيز على الأجهزة الأمنية في السيطرة على المجال العام، وحماية الحزب الوحيد الذي استأثر بالسلطة، لكن انقلاب حافظ الأسد في العام 1970، يمكن عدّه العتبة الأساس في ترسيخ حكم الحزب الواحد، الرجل الواحد، وبدأت معه "جمهورية الصمت والخوف" تكبر وتزداد رسوخا. لقد حكم الأسد الأب والأسد الابن البلاد، عبر شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية التي عملت داخليا وخارجيا، واستأثرا بالقرارات الداخلية والخارجية، فأخذا البلاد، على مسار أكثر من نصف قرن، إلى الخراب.
من يمعن في تشكيلة الأجهزة الأمنية في سوريا، من حيث عددها والفروع المنبثقة منها، واستقلال بعضها عن بعض، مع تقاطعات ميادين استهدافاتها، يصاب بالإرباك، أو تعثر الفهم أحيانا. تتألف أجهزة الأمن والمخابرات السورية من أربعة فروع/ شعب: أمن الدولة أو المخابرات العامة والأمن السياسي والأمن العسكري والمخابرات الجوية، وجميعها مرتبط بمكتب الأمن القومي في حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، أو القائد العام للدولة والمجتمع، كما يعرّف نفسه في منطلقاته النظرية. كلٌّ من هذه الأجهزة يعمل بشكل مستقل، لا تجمع بينها إدارة مشتركة، وليست خاضعة لأي رقابة، في حين أن النظام السوري يجاهر بمؤسساته "الديمقراطية" أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، من دون أن يتوفر الحد الأدنى من الديمقراطية.
هذه الأجهزة السورية ذات الفروع التي فاقت فروع ستازي بكثير، لم تفعل شيئا خلال نصف القرن الماضي غير حفظ أمن النظام/ الأسرة الحاكمة، وبقائه، في سيطرة كاملة على المجتمع قائمة على الترهيب والقمع والاعتقالات والتصفية الجسدية. هيمنت على الحياة في سوريا، على الإعلام والتمثيل الديبلوماسي، والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمادت لتصل الى الجوانب الثقافية والنشاط الاقتصادي في سوريا. وتعدّت ذلك كله بالهيمنة على شخصية الفرد وتشكيلها على الولاء والخوف منذ طفولته.
مارست هذه الأجهزة الأمنية أبشع أشكال الترهيب والقمع ومحاصرة الحريات، بشكل ممنهج يجعل من الشعب كوادر تخدم النظام وتعلن الولاء في كل سلوك؛ من تناول لقمة الخبز إلى التعليم إلى كل الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، على أنها عطايا من القائد، في حين أنها حقوق بديهية. بل جرى استحداث نص قانوني يخوّل إطلاق يد عناصر الأمن والأجهزة الأمنية إلى مداها في التنكيل بالأشخاص والممتلكات والمصائر والحياة من دون محاسبة. فقد نصت المادة 16 من المرسوم التشريعي 14 تاريخ 25/1/1969، وهو قانون إحداث إدارة أمن الدولة: لا تجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير. والمدير هنا مربوط بخيوط يحرّكها الحزب القائد الممسوك بقبضة الحاكم القائد.
كل السوريون الذين ولدوا في أول سبعينات القرن الماضي، والذين لم يعرفوا رئيسا إلا الأسد، يضمرون في ذاكرتهم، وفي بواطن نفوسهم، كل أشكال الخوف والذعر والرهبة من "المخابرات"، ويعرفون أيضا أن السجون والمعتقلات هي المسالخ البشرية التي تنتظرهم إذا قالوا لا لأي شكل من أشكال الظلم والقهر وانتهاك الحقوق والكرامة. لقد شكلت هذه المعتقلات الهيكل الأساس في بناء هذا النظام. السجون والمعتقلات هي أكبر الشواهد، عما كشفت عنه ساعة الصفر التي ابتدأت في سوريا لحظة سقوط النظام، من فنون الوحشية والسادية التي ربما تفرّدت في التاريخ.
هذه الأجهزة السورية ذات الفروع التي فاقت فروع ستازي بكثير، لم تفعل شيئا خلال نصف القرن الماضي غير حفظ أمن النظام/ الأسرة الحاكمة
السجون السورية ومقار ستازي
خلال الثورة السلمية عام 1989، قام المتظاهرون بحماية أرشيفات ستازي والملايين من وثائقها. لقد فعلوا ذلك لضمان الحفاظ على جميع سجلات المراقبة الواسعة النطاق لمواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية من عام 1949 إلى عام 1990، ولعبت هذه الأرشيفات دورا حاسما في مصالحة ألمانيا الشرقية مع ماضيها. أصبح مديرهم الأول، يواكيم غاوك، في ما بعد رئيسا لجمهورية ألمانيا الاتحادية في عام 2012.
كذلك الأمر في سوريا، إذ سقطت المدن السورية واحدة تلو الأخرى بشكل سلمي تقريبا، لكن مسيرة القتل والدماء المسفوحة على ترابها كانت لا تزال مستمرة بعد ثورة دامت أكثر من ثلاثة عشر عاما، دُفعت لأن تكون حربا أهلية في كثير من محطاتها. لذلك كان من الطبيعي ظهور هذا الفوران الانفعالي لدى الحشود، خاصة في لحظة فتح السجون وتكسير أقفال زنازينها، مما جعل نبش كل ما وقع تحت أيديها أمرا مفهوما. فالحشود المتلهفة تقودها مشاعرها، ومن الصعب لومها على تعجلها، ولا عقلانيتها، وغياب وعيها بقيمة ما تنبش وتبدّد، مما يصعّب تحقيق العدالة المرتجاة. السمة الأولى للحشود هي تلاشي الشخصية الواعية وتوجيه المشاعر والأفكار في الاتجاه نفسه. "في الروح الجماعية، يتم محو القدرات الفكرية للبشر، وبالتالي فرديتهم. يغرق غير المتجانس في المتجانس، وتهيمن الصفات اللاواعية"، كما يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير".
غالبا ما يلجأ الطغاة إلى إتلاف محفوظاتهم أو تهريبها، كي لا يتركوا وراءهم ما يمكن ان يدينهم، وربما منهم من يطمح بعودة أخرى، فالثورات لا تركز دعائمها إلا بعد مرحلة انتقالية، عادة ما تكون هشة أو قابلة للاختراق، ومنهم من لا يسعفه الوقت في طمس بصماته المحفورة كالوشم، فلا يستطيع إتلاف وثائقه السرية. دائما ما تحاول الدولة الأمنية إنقاذ نفسها، حتى من المساءلة بعد سقوطها. لكن ما شهدناه في سقوط ديكتاتور دمشق مختلف، ففي ساعات قليلة كان قد فرّ رأس النظام وكل ضباطه ورؤساء فروع أمنه وأجهزته الاستخباراتية، تاركين وراءهم أدلة تدينهم، فوق ما راكموا من أدلة على مدى العقود، لذلك انقضت الحشود المقهورة في فوران غضبها على ما وقعت عليه أيديها.
عشية لمّ الشمل بين الألمانيتين، تشكّل فريق من أمناء المحفوظات لمحاولة فهم هذا اللغز الورقي العملاق. النساء، بشكل أساسي، هنّ اللواتي كرسن أنفسهن على مدار الخمس والثلاثين سنة الماضية لهذه المهمة الضخمة. بإرادة وتضحية الرهبان الناسخين في العصور الوسطى، قمن بتجميع مزق الملفات بصبر، وبالتالي إعادة بناء تاريخ مواطنيهم. عمل نساء اللغز Puzzle femmes ضروري لفهم تاريخ جمهورية ألمانيا الديمقراطية (GDR)، لكن المهمة هائلة. تمت معالجة محتويات 500 كيس فقط من إجمالي 16,000 منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. نتخيل أن الأمر سيستغرق مئات من السنين لاستعادة محتوى 55 مليون صفحة يدويا لا تزال تنتظر تجميعها، ما لم تتفق التقنيات الجديدة والإرادة السياسية على فك تشفير هذه الكومة من القصاصات والغبار والذاكرة التي يرغب البعض في إعادة قراءتها في أسرع وقت ممكن.
عند زيارة متحف ستازي، يمكن للزائر رؤية أدوات وتقنيات التجسس في الماضي: آلات لفتح الحروف بالبخار، والتنكر (الشوارب الزائفة) والتدريب على التسلل إلى الجماعات "التخريبية"، بالإضافة إلى الكاميرات المخبأة في ربطات العنق أو علب السجائر أو جدران المنازل. فتح ستازي الرسائل على البخار، ونسخها، وقدمها وأرسلها. دخل عملاؤه المنازل في غياب سكانها لوضع الميكروفونات، لقد استغلوا البنية التحتية للهاتف في المباني.
أخذ ستازي المراقبة إلى مستويات غير مسبوقة، من أجل الحصول على معرفة شاملة بأفعال المواطنين، بهدف التلاعب بالسكان والسيطرة عليهم. لكن النظام السوري البائد تفوق عليه، خاصة لجهة تطور أساليب المراقبة والتدوين والحفظ، مستفيدا من التكنولوجيا الرقمية، وهذه تعرّضت في بعض منها إلى التخريب والسرقة والفوضى، وبالتالي من المرجح أن يضيع كثير من الوثائق التي تدينه.
لا يمكن بناء مستقبل من دون ماض، وهذا الماضي المترع بالجرائم لا بد من التصالح معه بعد تحقيق العدالة الانتقالية لكل المتضررين
إن نهب المحفوظات أو تدميرها ليس مجرد أضرار جانبية لفوضى يمكن فهمها واستيعابها في لحظات من هذا النوع. فالمحفوظات أدلة ووثائق تخصّ الشعب الذي عانى من أجهزة هذا النظام الأمني لأكثر من نصف قرن، وهي حجج تخدم العدالة التي أكثر ما نحتاج إليها في هذه المرحلة. إنها حق الضحايا علينا. هذه الأوراق والسجلات والوثائق التي نُبشت وسُفحت على الأرض، طعما للغبار والوحل والريح، وتلك الحواسيب التي سرقت من بعض المقار، فيها جزء من أسرار ذلك النظام ودلائل إدانته. لقد نجح الألمان الشرقيون في عزل ملفات أمن الدولة الرهيب بسرعة، وهي متاحة الآن للباحثين والأشخاص المذكورين فيها. هل نحلم بأن يكون لدينا "نساء بازل" أو "فرق بازل" تعيد تجميع القصاصات من أجل رسم التاريخ كما كان في هذه الحقبة السوداء من عمر سوريا؟
لا يمكن بناء مستقبل من دون ماض، وهذا الماضي المترع بالجرائم لا بد من التصالح معه بعد تحقيق العدالة الانتقالية لكل المتضررين، ومن كل فئات الشعب. لقد استغرق النقاش حول كيفية التعامل مع إرث جهاز أمن الدولة عامين بعد سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين، إلى أن أطلق قانون سجلات ستازي، وصار متاحا للمواطنين، في عملية تصالح مع الماضي. بالتأكيد هناك كثير من الشغل ينتظر السوريين.