"رفعت عيني للسما"... أحلام البنات وحدود الواقع

أول فيلم مصري يفوز بـ"العين الذهبية" في "كان السينمائي"

Semaine de la Critique Cannes
Semaine de la Critique Cannes
ملصق فيلم "رفعت عيني للسما".

"رفعت عيني للسما"... أحلام البنات وحدود الواقع

تدور أحداث الفيلم التسجيلي المصري، "رفعت عيني للسما"، في قرية البرشا التابعة لمحافظة المنيا في صعيد مصر، وهي قرية تشتهر بتراثها القبطي. وسط المجتمع المسيحي للقرية، تظهر فرقة فتيات متحمسات يصنعن لونا من مسرح الشارع. يؤدين بين الناس، فقرات تتناول موضوعات تمسّ "البنات"، يشتبكن بكياسة مع النظرة المتحفزة ضد ثيابهن ومسلكهن.

يؤلفن أغنيات ويغنينها أمام جمهور بعضه لا يحبّ ما يرى، يقلن بصراحة: "أنا جسمي مش خطية، ولا لبسي خطية". يخلقن حراكا اجتماعيا على طريقتهن، يمررنه بنعومة عن طريق الفن، ولا يتوقفن عن الحلم. إنهن بطلات "رفعت عيني للسما": ماجدة، مونيكا، مارينا، مريم، وبعض أعضاء فريق بانوراما البرشا المنياوي، لمسرح الشارع. يتتبع الفيلم أحلامهن، وكوابيسهن، طوال أربعة أعوام، ويُرينا الواقع الذي تمخض عن الحالين المتطرفين، على حد سواء.

حلم مزدوج

إنه حلم مزدوج. حلم الفتيات للخروج بالفن الذي يتعبن في صناعته، من حدود القرية الضيقة (حتى الشوارع التي تسجلها الكاميرا هنا غائمة وخانقة)، إلى حدود أكبر، تطاول العاصمة القاهرة، وربما تتجاوزها. وهو كذلك حلم صانعَي الفيلم أيمن الأمير وندى رياض (إخراجا ومشاركة في الإنتاج إلى جانب مارك إرمر، وكلير شاسين، وبدعم جهات تمويل عديدة) في إنجاز فيلم يعبر عن رؤيتهما السينمائية والإنسانية، ويصل بهما إلى سماوات أبعد ربما، وهو ما تحقق فعليا بعرض الفيلم في الدورة الماضية من مهرجان كان السينمائي، وحصوله على جائزة "العين الذهبية"، إنجاز لم يحققه من قبل فيلم مصري آخر، منذ تأسيس المهرجان العريق.

يذكّرنا "رفعت عيني للسما" بفيلم تسجيلي مصري آخر هو "من وإلى مير"، 2021، للمخرجة ماجي مرجان، وفيه عادت صانعة الفيلم إلى القرية التي انحدرت منها عائلتها، قرية مير، التابعة لمحافظة أسيوط، في الصعيد أيضا، وتضم كذلك مجتمعا قبطيا واسعا. على مدار أعوام، تزور ماجي قرية مير، وتسجِّل ما تيسّر من المشاهد اليومية فيها، تنتبه إلى سقف الحياة المنحفض كما يختبره أهل القرية، وتبعاته التي تتجسد مستوياتها المعقولة في حلم الشباب بالهجرة إلى خارج مصر، وفي مستوياتها المفجعة في تفشي حالات الانتحار داخل القرية. إنها مجتمعات مهمشة خَدميا، لكن أيضا فكريا، إلى حد مثلا أنه يصعب متابعة لهجة فتيات البرشا في "رفعت عيني للسما" من دون المرور بترجمة الشاشة إلى الإنكليزية، بينما لا تحتاج فتيات البرشا إلى جهد كبير، للانتقال السلس للتعبير باللسان القاهري.

تتضاعف جاذبية الفعل الفني، حين تتمسك به الفتيات، وهو الذي يطلق صوتا واضحا وقويا، ووعيا مذهلا بالظرف الاجتماعي القاهر للمرأة

بسبب هذا التهميش، أو الاستبعاد إن جاز التعبير، تتضاعف جاذبية الفعل الفني، حين تتمسك به الفتيات، وهو الذي يطلق صوتا واضحا وقويا، ووعيا مذهلا بالظرف الاجتماعي القاهر للمرأة عموما والمرأة الصعيدية خصوصا. بالمثل تتجلى جاذبية "رفعت عيني للسما"، حين يرفض الامتثال في طبيعة الحال لمعادلة الأنواع الفنية السائدة في السينما المصرية حاليا، كضرورة أن يكون الفيلم روائيا، تجاريا، أبطاله من الذكور.

تتحدث ندى رياض، صانعة الفيلم، في مقطع فيديو على صفحة "المرأة والذاكرة"، تحت عنوان صانعات السينما، عن قرارها الالتحاق وهي لا تزال طالبة، بكلية الهندسة بعيدا من العاصمة، كي تكتشف آفاقا آخرى، وعن جولاتها العشوائية في محاولة للتعرف الى القرى المحيطة، بحثا عن حكايات، من شأنها أن تصلح لاحقا للسينما. بشكل أو بآخر، يبدو أن اكتشاف حكاية "رفعت عيني للسما"، كان وليد زيارة من هذا النوع، وطموحا في ذلك الاتجاه.

Semaine de la Critique Cannes
المخرجان ندى رياض وأيمن الأمير.

الأسلوب الفني

يبقى السؤال الحيوي هنا هو كيف؟ كيف اختار أيمن الأمير وندى رياض، أن يرويا حكاية البنات أو بالأحرى حكاياتهن العديدة والمتشعبة؟ تفادى الصانعان الحوارات التقليدية المباشرة مع شخصياتهن، أي أن الفتيات لا يجلسن ويتحدثن إلى الكاميرا مجيبات عن أسئلة المخرجَين. على العكس، تضع الكاميرا عينها على البطلات في عيشهن اليومي، كمكان عمل ماجدة مثلا في بيع منتجات البقالة، تستعرض الشد والجذب في حوارها مع أخيها، الساخر من شغفها بالمسرح، لا يتوقف عن محاولة ثنيها عن هذا الطريق. يخيفها من القاهرة الواسعة جدا، ومن المترو السريع جدا، حياة لا يصدق أن في إمكانهما مجاراتها أو احتمالها، ولو في سبيل المستقبل. تستدعي هذه الحميمية في "رفعت عيني" الاعتماد، أغلب الوقت، على مصادر الإضاءة الطبيعية، التي لا تجرح تجربة المعايشة أثناء مشاهدة الفيلم.

Semaine de la Critique Cannes
مشهد من فيلم "رفعت عيني للسما".

سوى الأعمال اليومية، تزور الكاميرا الفتيات في صومعتهن الفنية، حيث يجرين البروفات ويحضرن الفقرات، وعلى الباب نقرأ لافتة طريفة: "ممنوع دخول البني آدمين!"، هناك يتآلفن مع الحيوانات، مع الطبيعة، يؤدين تمارين التنفس، ويتشاركن المزاح والسخرية من النظرات اللائمة التي يصادفنها ليل نهار.

تستدعي هذه الحميمية الاعتماد، أغلب الوقت، على مصادر الإضاءة الطبيعية، التي لا تجرح تجربة المعايشة أثناء مشاهدة الفيلم

ثمة أيضا بيوت الفتيات، وهي مساحة تقضي فيها الكاميرا بعض الوقت، تستمع إلى حوارات الأهالي مثلا مع مريم وهي تقع في الحب وتنسحب تدريجيا من حلم الفن. هناك نرى دميانة نصار، التي لعبت من قبل دور البطولة في فيلم "ريش" الذي وصل مهرجان كان أيضا، لا كممثلة بل كوالدة، باسمة مشجعة مرة على الفن، ومرة على الحياة، وكأن حب الفن نوع من الوراثة ينتقل من الأم إلى الابنة.

Semaine de la Critique Cannes
مشهد من فيلم "رفعت عيني للسما".

غير أننا نرى أيضا تكوين البيوت، وبناءها من الطوب الأحمر بلا تجميل. وقد نفاجأ حتى بصوت ثعبان حيّ يمر بين الشقوق. إنه نوع آخر من الحياة، يؤاخي بطريقة غريبة بين الهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت، وثياب أنيقة على الموضة، وبين جدران تخاصم بعنف هذه الحداثة الظاهرية، وتسائل معنى الحياة فيها. هذا الشق الأنثروبولوجي للفيلم، تخدمه كاميرا واعية بموقعها في السياق الاجتماعي والزمني، لا تكفّ عن التلفت ومحاولة الرؤية، بينما تتكلم شخصيات الفيلم أو تحلم أو تتشاجر حتى. في الفيلم لقطات واسعة للقرية، لسمائها، لنيلها، لسطوح بيوتها، لأشكال الملاهي فيها، للجماليات المشوهة أحيانا، أو الغائبة. هنا تلعب الطبيعة الدور الجمالي الأساسي في الإلهام، ويصبح شغف البنات بالفن، وتحايلهن لتقديم عروضهن الشعلة الحقيقية التي خلفها نسير.

Semaine de la Critique Cannes
مشهد من فيلم "رفعت عيني للسما".

الخوف من العودة

مع أن الفيلم يطرح أسئلة عديدة حول موقع الفن في مجتمعات تتسم بالمحافظة، وتُعلي شأن التخفي أو الاحتجاب، لا سيما بالنسبة إلى النساء، ومع أنه أحد الأعمال التي تقدم قصة ملهمة عن السير وراء حلم الفن والإيمان بقوته وقدرته على التغيير، إلا أنه يطرح في مستوى آخر، أسئلة حول الحياة نفسها.

إن الفن بالنسبة إلى فرقة بانوراما البرشا، يعني أيضا الحصول على حصة أكبر من الحياة، على فرصة للظهور خارج هذا الإطار القروي البعيد. مما يمكن أن يفسر إلى حد ما، تخلي بعض العضوات عن الفرقة، أو على أقل تقدير تخففهن من التزاماتهن معها، حين يقترب عرض واقعي بالزواج، ربما ينطوي أيضا على هجرة من القرية إلى المدينة.

الفن بالنسبة إلى فرقة بانوراما البرشا، يعني أيضا الحصول على حصة أكبر من الحياة، على فرصة للظهور خارج هذا الإطار القروي البعيد


على الرغم من أن هذا الانسحاب محبِط لنا، نحن مَن عشنا الحلم معهن، فإنه يبقى أشد وطأة مثلا على ماجدة، التي تتمسك بحلمها حتى النهاية، وتفكر في الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية بالقاهرة. وهي تقول في حوار لا يُنسى، على التلفون لإحدى صديقاتها: "خايفة أفشل وأرجع، صلي لي، صلوا لي كلكم".

ألم تعد دميانة نصار نفسها، بعد "ريش"، من حيث بدأت، ألم ترجع إلى البرشا، لتستأنف حياتها الأولى؟ مع ذلك لعلّ الفرقة مستمرة بطريقة ما، في أغنيات الفيلم، في أغنية تتر النهاية المستلهمة من التراث الصعيدي، بتوزيع مولوتوف "سيبو الهوى لأصحابه" من غناء فريق بانوراما البرشا، ومغنيتها مونيكا يوسف. لعلّها مستمرة كذلك في الأجيال الجديدة التي ستعتنق الحلم نفسه، وقد تحقق شيئا منه.

Semaine de la Critique Cannes
مشهد من فيلم "رفعت عيني للسما".

لطبيعة الفيلم التسجيلية، ربما يثور سؤال حول حجم التوجيه بغرض صناعة الفيلم، في أداء الفتيات مثلا للفقرات الفنية التي صُوّرت في الشارع، سؤال لا يفسد المشاهدة، ولا يقلل جمالية "رفعت عيني للسما" وأهميته، في اللحظة الحالية بالذات.

font change

مقالات ذات صلة