تقدم عودة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب إلى سُدة الرئاسة في الولايات المتُحدة الأميركية، وتحقيقه فوزاً انتخابياً واضحاً، عقب سنوات من خسارته للموقع، وإقدامه على أفعال سياسية غريبة للغاية عن العرف الأميركي "التقليدي"، وبعد تراكم كمي ونوعي لمعرفة المجتمع الأميركي بشخصه وأفكاره وأنماط سلوكه الذاتية ورؤاه الاستراتيجية، تقدم مادة معرفية/فلسفية، وإن ذات طابع سياسي/اجتماعي، تُظهر حصافة ما دافع عنه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو طويلاً، وبقيت طوال عقود أفكاراً وطروحات "غريبة" في أغلب الأوساط المحافظة، تحديدا في مجتمعاتنا وحتى في أوساطنا النخبوية.
فتعمق "الترمبية" وتحولها إلى تيار شعبي واسع الانتشار، في أكثر المجتمعات الإنسانية حداثة، تحديدا من حيث الإنتاج على كل المستويات، خصوصاً في القطاع المعرفي والإبداعي، كالذي في الولايات المتحدة، يؤكد الفكرة الأساسية التي بقي فوكو يدافع عنها لعقود، التي تقول إن "الإنسان اختراع نفسه"، بمعنى إصرار فوكو على نفي أن يكون لـ"الإنسان" أية هوية تاريخية مستدامة، ذات طابع ثابت الأركان والآليات. فرؤية الإنسان وتعريفه لنفسه شيء متغير وخاضع لمجموعة من الشروط والمناخات المتقادمة والمتبدلة بشكل سائل كل حين.
هل من شيء يوازي ويؤكد ذلك مثل أعضاء "القومية البيضاء" من "الترمبيين الأميركيين" راهنا. فلأكثر من قرن ونصف القرن مضى، كان مجموع السكان من المهاجرين الأوربيين "البيض" هؤلاء، يشكلون التجربة الإنسانية الأكثر رحابة وعطاء من حيث القيم السياسية الديمقراطية الحديثة، كما بشر المؤرخ الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في كتابيه الشهيرين عن التجربة الديمقراطية في الولايات المتحدة منذ أواسط القرن التاسع عشر!
راهناً، انتكس هؤلاء وأعادوا تعريف ذواتهم، وصاروا يعتبرون أنفسهم مجرد كتلة قومية تعيش "مظلومية كبرى"، وكتلة بشرية مصابة بهوس الاضمحلال، تصطف وراء شخص مثل ترمب، لا يملك إلا الخطابات التحذيرية.
على العكس من أغلب نظرائه، لم يكن فوكو يرى في "الثورة الخومينية" في إيران أواخر السبعينات مجرد "عابر سياسي/تاريخي"، بل يصنفها كواحدة من "الغرائب الطبيعية" التي قد ينتجها التاريخ في أية لحظة
في السياق نفسه، فإن عودة ترمب "المظفرة" تؤكد الفكرة الرئيسة الأخرى في مسيرة الفيلسوف فوكو، التي عارض عبرها تيارات فلسفية و"تأريخية" تقليدية، مثل الماركسية. التي ظلت تقرأ وتفهم التاريخ كخط مستقيم ومسار متقادم نحو "الحقيقة" و"القيم المتخيلة" لواضعيها. فبنجاح باراك أوباما في انتخابات عام 2008، كانت الولايات المتحدة قد وصلت ذروة ما قد ينتجه مجتمع ونظام سياسي ديمقراطي ما من "القيم النبيلة"، فالرئيس الجديد كان من "الأقلية الأفريقية/السوداء"، وذا خلفية اجتماعية وعرقية ودينية وحتى ثقافية من غير أبناء "الأغلبية البيضاء"، ومع كل ذلك حقق إجماعاً أميركياً مبهراً.
لكن، وبعد سنوات قليلة انقلب كل ذلك تماماً، وصارت دفتا الصراع السياسي/القيمي في البلاد منقسمة بين جبهة تدافع عن الحقوق الفردية والمساواة في المواطنة ودعم الحريات الجسدية وحق النساء بمضاهاة الرجال وجدارتهن في حقول الحياة كلها، وأخرى مبنية على المعايير القومية والذكورة السياسية والمركزية المحافظة والعنف الإلغائي، وهي التي انتصرت.
أثناء حياته، عايش ميشيل فوكو نموذجاً سياسياً مطابقاً لذلك. فعلى العكس من أغلب نظرائه، لم يكن فوكو يرى في "الثورة الخومينية" في إيران أواخر السبعينات مجرد "عابر سياسي/تاريخي"، بل يصنفها كواحدة من "الغرائب الطبيعية" التي قد ينتجها التاريخ في أية لحظة، على العكس من حسابات وتوقعات أصحاب النظرة والقراءة "المستقيمة" لمسار التاريخ وتحولاته. تلك "الغرائب" التي لها أن تحدث نتيجة تراكمات وعوامل شديدة التنوع ومستحيلة الضبط والملاحظة، لكنها تظهر فجأة على منصة التاريخ، لكنها تبقى وتتحول إلى واحدة من "حقائقه". الترمبية يمكن لها أن تكون شيئاً من ذلك تماماً، وإن في الحقل والمجتمعات "الديمقراطية".
على أن أعلى وأعمق أفكار فوكو التي صارت قابلة للملاحظة والمقاربة في "التجربة الترمبية"، هي تلك المتعلقة بقضايا مثل "الجنون" و"السلطة" و"العقاب".
كان فوكو ينطلق ليؤكد كيف أن "ناس السلطة" كانوا يفرضون ويحتكرون أنواعاً من آليات الهيمنة المركزية في وعي الإنسان وتعريفه، تكون لصالح مركزيتهم ومصالحهم على الدوام
فالفيلسوف الفرنسي الذي ألف كتابه المبهر "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، أنتج قراءة تاريخية هي الأعمق على الإطلاق لتحولات الوعي والتعريف البشري لمعنى وهوية "الإنسان"، من خلال متابعته الحثيثة لتاريخ تعريف وموقف المجتمعات البشرية من بعض أفرادهم "المجانين". فهؤلاء في أغلب حقب التاريخ لم يكونوا مجرد "مرضى" أو "أناس بنوعيات خاصة من آليات التفكير وإنتاج المعارف والأفكار"، كما يصر فوكو على تعريفهم، بل كانوا بالنسبة لمجتمعاتهم، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، أناسا وكائنات "مهلوسة"، مصابة بأنواع من المس الماورائي، غير قابلين للفهم والمعايشة، لذا كانت المجتمعات التقليدية تفضل عقابهم وتحييدهم. من تلك الفكرة، كان فوكو ينطلق ليؤكد كيف أن "ناس السلطة" كانوا يفرضون ويحتكرون أنواعاً من آليات الهيمنة المركزية في وعي الإنسان وتعريفه، تكون لصالح مركزيتهم ومصالحهم على الدوام.
هل من شيء مثل ذلك في أية محاولة لتحديد فهم ووعي ترمب لمجموعة من القضايا الثقافية والسياسية على مستوى العالم، في قضايا تتعلق بالحريات الجسدية ومسألة الإجهاض والمختلفين عرقياً والصراعات بين الأمم وتعريف دور ومساهمة الولايات المتحدة في الكل العالمي وقضايا المناخ وحقوق النساء.. إلخ. ففي كل واحدة من هذه، ينطلق ترمب ومؤيدوه من قوة سلطوية، تدفعهم للتعامل وتعريف كل واحدة حسب معايير تجمع المركزية بالريبة والنزوع للخرافة التفسيرية، وكل ذلك فقط للتخلص منها ووزر معرفتها بدقة. فالترمبية هي رفض القبول بمنهجيات وأفكار غير مركزية. لا مركزية إنسانية تعتبر هذه الأمور مشتركات عمومية كبرى، ليس لأحد أن يعرفها ويحدد أطرها ووظائفها ومعانيها وحده. وتالياً لا بد من شراكة وقبول متبادلين، لتكون أقل كلفة على الجميع، ولتصنع أوسع منصة من التعايش العام.