بعد عقد على رحيله... ماركيز الحاضر برواية "جديدة" ومسلسل تلفزيوني

خيانتان جميلتان تستعيدان صوتا أدبيا فريدا

Ulf Andersen -Getty Images
Ulf Andersen -Getty Images
ماركيز خلال جلسة تصوير.

بعد عقد على رحيله... ماركيز الحاضر برواية "جديدة" ومسلسل تلفزيوني

يبدو أن الكاتب الكولومبي الشهير غبريال غارثيا ماركيز (1927- 2014) تلقى "خيانتين" خلال سنة واحدة، أولاهما صدور آخر رواية كتبها بعنوان "موعدنا في شهر آب"، بعدما كان طلب من عائلته عدم نشرها، والثانية تحويل روايته "مائة عام من العزلة"، إلى مسلسل تلفزيوني خلافا لرغبته، إلا أن هذين التوجهين لعائلته بدوَا للكثيرين خيانتين جميلتين، استطاعوا من خلالهما تذكّر بعض منجز ماركيز الفاتن.

في الرواية التي صدرت في مارس/ آذار الماضي وتُرجمت إلى عشرات اللغات، من بينها ترجمة وضاح محمود إلى العربية (صدرت عن "دار التنوير" في بيروت و"مكتبة تنمية" في القاهرة)، سيتلّمس القارئ أساليب ماركيز السردية التي ألفها في معظم أعماله، من خلال قصة آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة متزوجة في منتصف العمر، تذهب في السادس عشر من شهر أغسطس/ آب، في كل سنة، إلى إحدى جزر الكاريبي لتضع باقة من الزنابق على قبر أمها في ذكرى وفاتها، بعد أن تنظفه مما علق به من الحشائش وغيرها.

ولأنها تبقى ليلة أو ليلتين في الفندق من أجل إتمام ما جاءت من أجله، فإنها تتعرّف في كل مرة الى رجل جديد، سواء كان ذلك بالمصادفة، أو بسعي منها لتلبية رغبتها الشغوفة في إيجاد علاقة عابرة لا تحدّدها سطوة المشاعر. هكذا سنجدها تتمنّع عن علاقة مع شاب يصغرها سنا لكنها تجر إلى علاقة مع قسّ وشخص تكتشف بعد سنوات أنه قاتل ومطلوب للعدالة.

ومع المغامرات السنوية تزداد الشكوك الزوجية وتكاد تنهار العلاقة مع الزوج، إلى أن تبادر أخيرا بنقل رفات أمها إلى المدينة التي تسكن فيها.

هناك ملاحظات يمكن الخروج بها بعد إكمال قراءة العمل، وأبرزها الشعور أننا قرأنا رواية غير مكتملة

عثرات وتناقضات

ابنا ماركيز روديغو وغونثالو اعترفا في مقدّمة الرواية أنهما قاما بالخيانة حين وافقا على نشر هذا الكتاب الذي رغب أبوهما في تلفه، مبرّرين موافقتهما بالقول إن اضمحلال قدرات ماركيز "الذي حال بينه وبين إنهائه، حال أيضا بينه وبين رؤيته لمدى جودته"، إلا أن ماركيز الذي أعطى الذاكرة أهمية كبرى في عملية الكتابة واعتبرها مادّته الأولى وعدّة عمله في الوقت نفسه "ومن دونها لا وجود لأيّ شيء"، كان قرّر "هذا الكتاب لا نفع منه أبدا ولا بدّ من تمزيقه".

Vittoriano Rastelli -Corbis via Getty Images
ماركيز يتجول في ساحة نافونا مع زوجته وابنيه.

ومع أن ابنيه يقرّان بأن "هذا النص لا يبدو مصقولا كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى، ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه أي شيء يمنع القارئ من التمتع"، فإنهما من أجل هذه المتعة التي ألفناها في أعمال ماركيز سلّما الرواية الى المحرّر الأدبي كريستوبال بيرا لتظهر على ما هي عليه، وبالتأكيد دون تدخل كبير من قبله. فعلى الرغم من أن الرواية جاءت مطابقة لأسلوب ماركيز السردي، إلا أن هناك ملاحظات يمكن الخروج بها بعد إكمال قراءة العمل، وأبرزها الشعور أننا قرأنا رواية غير مكتملة، بحجم نوفيلا.

shutterstock
غلاف رواية لماركيز على رف مكتبة.

وإذا تفحصنا أكثر، فسنجد بعض الفجوات، في تقديم الشخوص؛ فالابن الموسيقي لا يظهر في النص إلاّ لماما على عكس أخته التي تعيش حياة لهو صاخبة تتعارض مع طموحها لتكون راهبة، وهو ما يحصل معها أخيرا. كما سنجد وصفا متعارضا لصخب الفندق وهدوئه في آن. ويلاحظ ظهور رجل مجهول فجأة، في نهاية النص، يضع الزهور على قبر أمها بشكل دائم. فيما لم تكن هناك إشارة في السنوات السابقة إلى أنها لاحظت هذه الزهور على القبر.

AlMajalla
غلاف رواية "موعدنا في شهر آب".

 وإذا قرئت الرواية في ضوء ما قاله ماركيز عنها، فإن الملاحظات النقدية ستأتي من تلقاء نفسها، أو من الشكوك التي تصاحب القارئ. مع هذا، سيظل النص مدهشا إذا ما قُرئ ككتل نصية متفرقة. فهو يأتي من كاتب عُرف عنه شغفه بالكتابة، والتدقيق في كل كلمة وحرف، إذ عرفنا من خلال مقالاته وحواراته كيف كان لا يستخدم بعض الحروف أو الكلمات، وكيف يركّب الجملة والفقرة تبعا لسياقات ومقتضيات السرد لديه. مما يعني أن وجود المحرّر الأدبي في حياته الأدبية كان للتنبيه، فقط، في حال وجود خطأ من الأصابع أو سهو معلوماتي هنا أو هناك.

أي دهشة يتلقاها المشاهد من خلال المسلسل لا تمثل سوى القليل مما جاء في نص الرواية الفاتن الذي يحتاج إلى قارئ متأنٍّ ومتفحص لمعرفة خباياه

إلى ذلك، فإن ماركيز تلقى "خيانة" أخرى، من خلال موافقة عائلته على تحويل روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة" إلى مسلسل تلفزيوني عُرض جزؤه الأول على "نتفليكس" الأسبوع الماضي بعدما بقي يعارض تحويلها إلى عمل درامي مرئي منذ نشرها عام 1967، مع أن بعض أعماله صُوّرت للسينما مثل "أيرلندا البريئة" و"قصة موت معلن" و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" و"الحب في زمن الكوليرا" و"ذكرى غانياتي الحزينات".

ماركيز، الذي أشرف على الكثير من ورش السيناريو وعمل على تأسيس معاهد للسينما في أميركا اللاتينية، كان يدرك أن هذه الرواية كُتبت للقراءة ولا شيء غير ذلك. لذا، فإن أي دهشة يتلقاها المشاهد من خلال المسلسل لا تمثل سوى القليل مما جاء في نص الرواية الفاتن الذي يحتاج إلى قارئ متأنٍّ ومتفحص لمعرفة خباياه وجواهره. فهو يُعد خلاصة أدبية وفنية لكل روايات وقصص ماركيز الأخرى باستثناء رواية "خريف البطريرك" التي نحَا، كما يبدو لي، في سردها الفني، منحى مختلفا وإن كان لا يبتعد عن الإطار الفني لتجربته في الكتابة.

أذا ما قارنا أي مشهد في المسلسل مع النص المكتوب في الرواية، فسنتأكد أن المسلسل عبارة عن دعاية ترويجية للرواية ليس إلا، أو يؤمل أن يكون كذلك، ولا يحول دون ذهاب المشاهد الى قراءة الرواية. فالمسلسل ينقلنا إلى ماكوندو المتخيّلة التي أسسها خوسيه أركاديو بوينديا ورفاقه، وهناك تتحول المصائر مع بدء اكتشاف العالم المحيط بهذه البلدة ومجيء أناس وأقوام وطيور، أولهم ملكياديس مع فرقته الغجرية وأسحاره الكيمائية. علاقات الحب وتوتراته، وكيف يؤدي فقد هذا الحب إلى المغامرة والسعي نحو السلطة، السلطة التي تبدو مشخّصة في معظم أعمال ماركيز بجنرالاتها وبطريركها.

ملصق مسلسل "مائة عام من العزلة" على "نتفليكس".

قال ميلان كونديرا مرّة: "على كل من يتوافر لديه القدر الكافي من الجنون لكي يستمر اليوم في كتابة الروايات، أن يكتبها بطريقة تجعل اقتباسها متعذرا، حماية لها. بعبارة أخرى، طريقة تجعلها غير قابلة لأن تروى". وأظن أن هذا القول ينطبق على عملية تحويل بعض الأعمال التي من الصعب نقلها إلى السينما ومنها أعمال كونديرا نفسه. صحيح أن هناك الكثير من الأعمال الروائية المتميزة التي قُدّمت في السينما ولقيت نجاحا لافتا مثل أعمال نجيب محفوظ ورواية "مالك الحزين" (الكيت كات) لإبراهيم أصلان، و"الفراشة" و"دكتور زيفاكو" و"البؤساء" و"ذهب مع الريح" و"الجريمة والعقاب" و"آنا كارنينا"، إلا أن هناك بعض الروايات من الصعب تخيّل إنتاجها خارج إطار الكتابة.

font change

مقالات ذات صلة