أثناء فترة عملي وزيراً للصحة في إثيوبيا، أردنا إحداث تحوّل في النظام الصحي للبلاد، فأخذت أبحث عن إرشادات بشأن السبيل إلى ذلك. واتضح أن منظمة الصحة العالمية (المنظمة) لديها ما أردت تماماً – ولكني لم أعرف ذلك عن طريق المنظمة، وإنما بالبحث على محرك البحث "غوغل".
ولم تكن تجربتي فريدة من نوعها. فالمنظمة تشتهر بمنتجاتها التقنية ذات المستوى العالمي - المبادئ التوجيهية والقواعد والمعايير - ولكن كثيراً ما يعوق ترجمتها إلى إجراءات واقعية الافتقار إلى التدريب المؤسسي. وأحياناً ما تقبع منتجاتنا غير مستخدمة على الرفوف أو تبقى ضمن رسائل البريد الإلكتروني غير المفتوحة. وفي حين أن المنظمة توفّر التدريب في البلدان، فأنه لم يُضف عليه الطابع المؤسسي أو يُوفَّر على النطاق اللازم.
وكان ذلك أحد الأسباب التي دفعتنا بعد انتخابي مديراً عاماً للمنظمة في عام 2017، إلى تنفيذ مجموعة من الإصلاحات تُعد الأشد طموحاً في تاريخ المنظمة، كي نجعل المنظمة أشد فعّالية وكفاءة واستجابة للاحتياجات والتحديات التي تواجهها البلدان.
ويتمثل أحد هذه الاحتياجات في بناء القدرة على مواجهة المخاطر الناشئة التي تهدّد الصحة، بما في ذلك مخاطر الأوبئة والجوائح. وقد أدركنا أنه على الرغم من أن المنظمة غنيّة بالمعارف والخبرات، فإننا نفتقر إلى طريقة منهجية أو مؤسسية لتقاسمها.
وهكذا وُلدت فكرة أكاديمية منظمة الصحة العالمية، وهي مؤسسة جديدة تسعى إلى تزويد العاملين في مجالي الصحة والرعاية وراسمي السياسات والقوى العاملة في المنظمة بالمهارات والكفاءات التي يحتاجون إليها لتوفير الصحة للجميع.
وفي أثناء اجتماع مجموعة العشرين في الأرجنتين في عام 2018، التقيت بالصدفة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أحد الممرّات، وعرضت عليه فكرتنا بشأن أكاديمية المنظمة. وقد أدرك المفهوم على الفور ودعاني إلى قصر الإليزيه لمناقشته معه بمزيد من التفصيل. وفي عام 2019 وقّعنا على خطاب النوايا لإنشاء الأكاديمية في ليون؛ وفي عام 2021 وضعنا حجر الأساس، واليوم سوف نفتح أبوابها معاً.
وبفضل الدعم السخي الذي قدمته حكومة فرنسا وإقليم أوفيرني-رون-ألب ومدينة ليون وليون الكبرى، تحظى الأكاديمية بحرم تعليمي حديث للتدريب الحضوري والتدريب عن بعد سواءً بسواء؛ ومنصّة إلكترونية ذكية للتعلم عبر شبكة الإنترنت باستخدام الذكاء الاصطناعي وسائر التقنيات لتوفير الإتاحة المجانية للدورات ذات المستوى العالمي التي تتناول الموضوعات الصحية ذات الأولوية.
لن توجد صحة في غياب العاملين الصحيين. إنهم حاضرون في اللحظات الأولى واللحظات الأخيرة من حياتنا
وفي حين أن أكاديمية المنظمة لن تقدم التعليم الأولي للأطباء أو المُمرّضات أو القابلات أو الصيادلة أو غيرهم من أصحاب التخصّصات المهنية، فإنها ستتيح فرص التعلم المستمر طوال الحياة من أجل مساعدة العاملين في مجالي الصحة والرعاية على مواكبة آخر التطوّرات في مجالاتهم.
وسيعود ذلك بالفائدة بصفة خاصة على العاملين الصحيين وراسمي السياسات في البلدان المنخفضة الدخل، الذين يفتقرون في كثير من الأحيان إلى فرص التدريب.
وتستند الأكاديمية إلى الشراكة الطويلة والوثيقة بين فرنسا والمنظمة. ففرنسا تُعد بشكل ما مسقط رأس المنظمة، حيث عُقد أول مؤتمر دولي للصحة في باريس في عام 1851، وتأسس المكتب الدولي للنظافة الصحية - الهيئة السابقة لمنظمة الصحة العالمية - في باريس في عام 1907.
ولذلك فإن إنشاء أكاديمية المنظمة في ليون له أهمية رمزية واستراتيجية سواءً بسواء. فليون تُشكِّل مركزاً نابضاً بالحياة للصحة العامة، حيث إنها تضم مراكز للبحوث وجامعات طبية عالمية، كما أنها تحتل موقعاً استراتيجياً حيث تقع على بعد ساعتين فقط من مقر المنظمة في جنيف بسويسرا، الذي يعمل فيه الخبراء الذين سيتولون تقديم معظم دورات التدريب الحضورية.
ويشكّل افتتاح الحرم التعليمي في ليون والاستهلال الشامل لمجموعة متنوعة من الدورات التدريبية الإلكترونية، تتويجاً لرحلة استمرت على مدى سبع سنوات، وبداية لرحلة أخرى. ولكي تحقّق الأكاديمية نجاحاً حقيقياً، يجب أن يتواءم عملها مع أولويات البلدان واحتياجاتها، وسيتطلب ذلك مشاركة جميع البلدان وتعاونها.
وعلى الرغم من أن الأكاديمية تمثل خطوة كبيرة إلى الأمام، فإنها لا تشكّل إلا جزءاً من الحل. فنحن نستهدف بناء قدرات القوى العاملة الصحية العالمية، ولكننا نواجه عجزاً في القوى العاملة نفسها؛ فهناك قصور متوقع بمقدار 10 ملايين عامل في العاملين اللازمين في مجالي الصحة والرعاية بحلول عام 2030، وستشهد أفريقيا أكثر من نصف هذا العجز.
ولا يمكن حل أزمة القوى العاملة الصحية العالمية من دون الإرادة السياسية والاستثمار المالي من قِبل الحكومات والمنظمات الدولية والقطاع الخاص. وتوفّر أكاديمية المنظمة المنصّة اللازمة للنمو، ولكن يجب على الحكومات أن تكثّف جهودها لمعالجة الأسباب الجذرية لنقص القوى العاملة. ويعني ذلك تحسين ظروف العمل، وضمان الأجور العادلة، وتوفير فرص العمل اللائق القادرة على جذب المواهب الجديدة إلى قطاع الصحة.
وفي النهاية لن توجد صحة في غياب العاملين الصحيين. إنهم حاضرون في اللحظات الأولى واللحظات الأخيرة من حياتنا، وفي اللحظات التي نكون فيها أضعف ما نكون، وفي أوقات الأزمة، سواء أكانت أزمة شخصية عند تشخيص السرطان أم جائحة تجتاح العالم بأسره. ولذا فإن الاستثمار في العاملين الصحيين لا يُعد استثماراً في عالم يتمتع بموفور الصحة فحسب، بل وفي عالم يحظى بمزيد من الاستقرار والأمن.