من العبارات التي لا تنسى لجيل ديلوز: "وظيفة الفلسفة هي أن تبث الحزن. الفلسفة التي لا تُحْزِن أحداً، ولا تزعج أحداً ليست بفلسفة. فائدة الفلسفة أن تُلحق الأذى بالغباء، أن تحول الغباء إلى شيء مُخجل. وظيفتها أن تفضح كل صور الدناءة الفكرية".
هذا نص آخر يبين لنا كيف أن أفكار الفيلسوف الحقيقي لا تشبه أفكار بقية المثقفين والمفكرين، لأن الفيلسوف لا يقبل بإصلاح المنزل قبل هدمه، بينما يحمل الآخرون أفكارا نهضوية جاهزة يريدون تحقيقها على الأرض، ويمهدون الطريق إليها. النهضويون يقعون في الفخاخ كثيراً لهذا السبب، أن ثمة فكرة جاهزة في أذهانهم. الفيلسوف لا يقع في هذا الفخ. هم يردمون وهو يحفر في كل شيء لا يبدو له مستقيماً، غير مشغول بمسلماتهم التي يقفزون بها فوق سور الفكر. بقليل من النظر ستجد النهضوي يقول أشياء كثيرة من دون أن يبرهن عليها بشكل كافٍ.
وديلوز لا يتأمل في الأشياء، بل يدعو لمنع الفلاسفة من التأمل، فالفيلسوف مُبدع وليس بمتأمل. يبدع المفاهيم. هذا صلب فلسفة ديلوز بالإضافة إلى دراسة فرضيات الفلسفة والعلاقات بين الفلسفة والعلم والفن. وليس هناك بداية يجب أن يبدأ بها. لا قيد ولا شرط، وله أن يبدأ من أي موضع يرغب فيه.
وفي حالة ديلوز، الأمر يرتبط بالحزن، فلا فلسفة بلا حزن، لأن الفلسفة عاصفة لا تُبقي ولا تذر. تمسك بكل ما هو جوهري في حياة الإنسان فتهزه هزاً شديداً فيحزن حزناً عميقاً لأنه صار يعيش أزمة تهدد صميم وجوده وصار يشعر أنه بات بلا أرض يقف عليها، أصبح بلا انتماء، كخروف صغير ضل طريقه عن القطيع ولم ينتبه لاختفائه أحد. كيف لا تحزن وكل الأسئلة الوجودية لا زالت على المنضدة تنتظر منك جواباً وأنت لم تجب والوقت يمضي ومدة الامتحان محددة!
الفلسفة إزعاج لأنها هي من يطرح من خلالنا كل الأسئلة غير المحببة، مما اعتاد الأهل والمعلمون في المدرسة أن يسكتونا عن طرحها
من وظائف الفلسفة أن تعمل أحياناً كطائرة حربية تلقي الصواريخ لكي تدمر قلاع الغباء ما استطاعت. الغباء مستهدف في ذاته ولذاته. ولا بد أن يتجلى لنا الغباء على أنه شيء يجلب العار على كل من يتصف به. فائدة الفلسفة الجوهرية هي الفضح، أن تفضح كل صور دناءات البشر الفكرية. يعيش العالم اليوم تخمة فكرية لم تمر به في سابق عصورها، ولم يعد الزمن يسمح بمزيد من السرديات المطولة، بل يكفي الفلسفة اليوم أن تهدم ما لم يعد يصلح من هذه السرديات.
الفلسفة إزعاج لأنها هي من يطرح من خلالنا كل الأسئلة غير المحببة، مما اعتاد الأهل والمعلمون في المدرسة أن يسكتونا عن طرحها. هذا الإزعاج، وحده، سيسوقك إلى البهجة الحقيقية، أن تكون أنت أنت. بكل عيوبك وكل حسناتك. الأمر لا يتجاوز منح الإنسان القدرة على الرؤية، وهنا يحدث الفرح، فالفرح عند ديلوز يعني تمكنك من تحقيق إمكاناتك.
فلسفة لا تزعج ليست بفلسفة، بل تتحول إلى خطاب أيديولوجي يُبث في الجماهير فيهتفون به في غبطة لا يُحسدون عليها. الذي لا يقبل بهذا الإزعاج لا يستحق أن يحمل لقب الفيلسوف، ولن أقول ليس حريّاً بالحقيقة. ولو أن فلسفة ما جرى استئناسها عبر الزمن، بحيث تخلت عن عنصر الإزعاج فيها، أي تخلت عن بُعدها النقدي، فإنها بلا شك سوف تموت.