إمبراطورية لا تريد الموت
أمام صعوبة الحفاظ على ممتلكات فرنسا في أفريقيا، سيسعى إيمانويل ماكرون إلى تثبيت أطروحة "ما بعد الاستعمار"، التي استقبلت في البداية ببرود واضح من طرف معظم الدوائر الأكاديمية والمجتمع المدني الفرنسي، بل إنها ووجهت بانتقادات شديدة في الصحافة والإعلام، إذ لم يتم استيعاب جهود ماكرون من أجل تجنب أن تتفكك الإمبراطورية الفرنسية العظمى المهددة بالاندثار والموت.. ضمن ما عبر عنه عنوان مجلد ضخم حمل عنوان: "الإمبراطورية التي لا تريد الموت"، ضم مجموعة من الأبحاث والدراسات لعدد من المؤلفين.
وبما أن الكيانات تشبه الكائنات الإنسانية، حيث تصل بعد الازدهار إلى مرحلة الانكسار والتراجع ثم الاضمحلال، فإن نهاية "فرنسا أفريك" ووفاتها إعلان سيظل يتكرر على ألسنة الكثير من السياسيين من النخب السياسية الفرنسية منذ عام 1990، ما استوجب ضرورة الانتباه إليه أمام "الإمبراطورية الفرنسية" التي استمرت بعد مرحلة الاستعمار التقليدي بلبوس وأقنعة "الاستعمار الجديد"، مرحلة هي اليوم على مشارف النهاية والزوال، بعد إفلاس الهياكل الاقتصادية والسياسية الداعمة للاستعمار الفرنسي الجديد.
وبالرغم من استمرار التزام كثيرين في باريس بمحاولات إعادة تشكيل العلاقات الفرنسية الأفريقية بطرق جديدة، والتأكيد على استدامة التبعية الاستعمارية الجديدة، ومحاولات الرهان على إيجاد حلول مبتكرة لاستمرار عمل الوكالة الفرنسية للتنمية وسابقاتها في أفريقيا، والمحافظة على المجموعة المالية الأفريقية، الموصوفة بأنها "آخر عملة استعمارية"، لم يعد هناك مجال كبير للشك في أن السياسة الاستعمارية الجديدة التي تنتهجها فرنسا محكوم عليها بالفشل، وأصبح من الصعب أن تشكل "فرنسا أفريك" الاستثناء عند مقارنتها مع أشكال الاستعمار الجديد البريطاني والبرتغالي.
لقد شهد القرن التاسع عشر هيمنة الغرب وسطوته باستعماره للشعوب وسلبها حريتها وثرواتها، واستطاعت فرنسا تشكيل إمبراطوريتها الشاسعة في أفريقيا. لكن كفاح حركات الاستقلال في الأقطار المحتلة سيفضي بعد الحرب العالمية الثانية إلى تفكيك تلك الإمبراطورية. إلا أن فرنسا حققت نجاحا في الاحتفاظ بنفوذها الكبير على مستعمراتها الأفريقية السابقة، خاصة في منطقة الساحل، وضمان مصالحها الكبرى في القارة السمراء، بدءا من الاقتصاد والأمن إلى الاستثمار والسياسة.
لكن بعد نهاية فترة الحرب الباردة وصعود قوى عالمية جديدة، سيتغير المشهد العالمي، ووجدت فرنسا نفسها في مواجهة مقاومات محلية بالمنطقة الأفريقية. والحديث هنا يهم على الأقل عشرة بلدان من غرب القارة، هي: موريتانيا ومالي وغامبيا والسنغال والنيجر وبوركينا فاسو وغينيا ونيجيريا والكاميرون وتشاد.
بموازاة ذلك تأججت المنافسة الدولية بصورة أكثر صعوبة، خصوصا بعد انغمار منطقة الساحل في حروب وقلاقل مختلفة، وانخراط الجيش الفرنسي في القتال من أجل وقف توغل الحركات الجهادية في المنطقة.
شيئا فشيئا بدأت هيبة الامبراطورية الفرنسية في التراجع، وتم الإضرار بصورة فرنسا على المستوى الدولي. لقد انطلق مسلسل التمرد على "الجمهورية الخامسة" الفرنسية من طرف بلدان اعتادت فرنسا على اعتبارها تقريباً ضمن ملكيتها الخاصة، والبداية كانت من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والنيجر ثم تشاد.. وتواصل العصيان والانتفاض في التوسع إلى أن امتد إلى إثارة بلدان الساحل الأخرى المجاورة ضد فرنسا، مثل كوت ديفوار والسنغال.
على هذا الأساس فقد تقبل الجميع حقيقة مفادها أن فرنسا على طريق خسارة مستعمراتها السابقة في أفريقيا، وبشكل نهائي هذه المرة، بعد عقود متواصلة من إرث استعماري ثقيل، إذ منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، عاشت البلدان الأفريقية سلسلة من التقهقر والتخلف والحروب الأهلية والانقلابات واغتصاب السلطة والأنظمة الاستبدادية، وتورط مسؤولين من القيادة الفرنسية في أساليب وصفت بـ"القذرة"، من بينها تقديم رشاوى لمسؤولين حكوميين ببلدان أفريقية.
تورط مثير، كان أحيانا موضوع جدل داخل الدوائر السياسية والأكاديمية الفرنسية. كما أن المشاعر المعادية لفرنسا في الأعوام الأخيرة، وبالتحديد في فترة الرئيس ماكرون، عرفت جملة من الخلافات حتى مع الجزائر والمغرب وتونس.
قطيعة غير تامة
استمرت باريس في استقبال الأخبار غير السارة القادمة من أفريقيا، والمتصلة بتنامي واقع الانفصال عن النفوذ الفرنسي، والتحرك نحو الاستقلال الحقيقي، بقطع العلاقات مع الشركات الفرنسية واستنكار اتفاقيات الدفاع مع فرنسا، كان من نتائجها انسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وقد تابع العالم موجة الانقلابات العسكرية التي اجتاحت أفريقيا الناطقة بالفرنسية، وعلى الرغم من أن كل حالة فريدة من نوعها، فإن معظمها متحد في حقيقة أنها حالات تعلن بدرجة أو بأخرى معارضة النفوذ الفرنسي. مثل إقدام تشاد بشكل مفاجئ إلغاء اتفاقية الدفاع مع فرنسا. وتشاد هي أيضًا من المستعمرات الفرنسية السابقة، التي أحجمت اليوم عن رؤية القوات الفرنسية فوق أراضيه، بعد أن كانت ضمن الصف التقليدي الموالي لباريس.
من جانبه صرح الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي، في الأيام القليلة الماضية، بأن باريس ستضطر إلى إغلاق قواعدها العسكرية في البلاد على المدى المتوسط. موضحاُ أن "السنغال دولة مستقلة". وأن "السيادة لا تتوافق مع وجود قواعد عسكرية أجنبية في البلاد". وترك موعدًا مفتوحًا لانسحاب القوات. ولا يزال لدى فرنسا رسميًا نحو 350 جنديًا في الدولة الساحلية الواقعة في غرب أفريقيا.
صورة من الارشيف للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مستقبلا رئيس النيجر المعزول محمد بازوم في قصر الاليزيه في باريس في 23 يونيو 2023
لا شك أنها خطوة تمثل "نقطة تحول تاريخية"، وإن كان إلغاء اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي مع تشاد والسنغال، حسب وكالة الأنباء الفرنسية، لا يعني القطيعة مع فرنسا "كما هو الحال في النيجر أو في أي مكان آخر".
كما رحب باسيرو ديوماي فاي برسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي يعترف فيها بارتكاب الجيش الفرنسي "مذبحة" ضد المقاتلين السنغاليين في ديسمبر/كانون الأول 1944. في الوقت الذي أعلنت فيه تشاد والسنغال عن رغبتهما في موازنة العلاقات مع الغرب.
إجمالا، فإن ما يجري حاليا على مسرح الأحداث من تطورات متسارعة، من شأنه إنهاء الوجود اللوجستي والعسكري المتبقي لفرنسا في وسط وغرب أفريقيا.
انهيار وتفكيك إمبراطورية
من المهم الحديث عن ظهور فاعلين جدد في القارة الأفريقية استفادوا من تأجيج الاستياء الإمبريالي الجديد من فرنسا، وبالأخص الصين وروسيا التي تعمل على توسيع نفوذها داخل القارة الأفريقية، وتوسيع التعاون مع الأفارقة في مجالات الدفاع والطاقة والبنية التحتية والزراعة، مع تقديم مساعدات عسكرية.
تقوم روسيا بتقديم مساعدة كبيرة لبوركينا فاسو والنيجر في جهودهما لمكافحة الإرهاب الدولي، ويُنظر إليها في مثل هذه الظروف على أنها شريك أكثر موثوقية وضامن لأمن الدول الأفريقية من فرنسا.
هكذا خسرت فرنسا المعركة بغطرستها وأسلوبها الاستعماري، أمام الأساليب الأكثر مرونة لمنافسيها في روسيا والصين، وهما البلدان اللذان ليس لديهما ماض استعماري مثل فرنسا صاحبة الذكرى السيئة أفريقياً، مما كان سبباً في تدهور وضعها بالقارة السمراء بشكل حاد.
بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 2020 التقى إيمانويل ماكرون برؤساء خمس دول من منطقة الساحل 2020، والآن الشخص الوحيد المتبقي في السلطة من أولئك الخمسة هو الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، بعد الانقلابات التي أسقطت الأربعة الآخرين.
وعلى هذا الأفول الدراماتيكي فقدت القوة الاستعمارية السابقة نفوذها في القارة تدريجيًا وبدأت في طي راياتها، بعدما كانت فرنسا ذات زمن تمتلك إمبراطورية تغطي ربع ثاني أكبر قارة على هذا الكوكب.
في خضم هذه الاضطرابات الجيوسياسية ظهر العميل الروسي الراحل يفغيني بريغوجين، الذي ساعد في تدمير وتفكيك النسخة الحديثة من الإمبراطورية الفرنسية القوية في أفريقيا.