إمبراطورية فرنسا الأفريقية تطوي رايتها

أمام صعوبة الحفاظ على ممتلكات فرنسا في أفريقيا، سيسعى إيمانويل ماكرون إلى تثبيت أطروحة "ما بعد الاستعمار"، التي استقبلت في البداية ببرود واضح من طرف معظم الدوائر الأكاديمية والمجتمع المدني الفرنسي

EPA
EPA
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس أركان الجيش تييري بوركارد في سيارة القيادة عند وصولهما إلى الشانزليزيه خلال العرض العسكري السنوي.

إمبراطورية فرنسا الأفريقية تطوي رايتها

وكأن الفيلسوف والعالم السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما، لما طرح نظرية "نهاية التاريخ"، كان يقصد بالتحديد نهاية الكيان الذي هيكلته الدولة الفرنسية على أنقاض مستعمراتها في القارة الأفريقية، بعد حصول بلدان جنوب الصحراء الكبرى الناطقة بالفرنسية على استقلالها في مستهل الستينات من القرن الماضي.

ويمكن لنا بهذا الصدد الحديث عن ذلك الفشل الاستراتيجي الكبير الذي منيت به فرنسا في أدغال أفريقيا خلال عهد الرئيس ماكرون، وهو فشل يفوق كل وصف، في الوقت الذي تتهاوى فيه "الماكرونية"، وهي الحركة السياسية التي ولدت من حطام اليمين واليسار، وصاغ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادئها الأيديولوجية الأساسية على مفاهيم الأمن والجدارة والأمل.

ففي الرابع من ديسمبر/كانون الأول الحالي، جرى حجب الثقة بأغلبية برلمانية ساحقة عن رئيس الوزراء ميشيل بارنييه، بعدما كانت المهمة الرئيسة له هي تأمين ميزانية للعام المقبل، من شأنها أن تحمي أجندة الرئيس في مواجهة المخاوف المتزايدة بشأن مالية الدولة الفرنسية.

إن "وقود ماكرون قد نفد". تدوينة مقتضبة لنائب فرنسي معارض تسلط بعض الضوء على تراجع شعبية الرئيس ماكرون إلى أدنى مستوياتها لدى الجمهور الفرنسي، حسب تقييمات مؤسسات الرأي العام.

ووفقا لتسريبات من أشخاص مقربين من ماكرون لوسائل إعلام فرنسية، فإن الرئيس يمر بفترة سياسية مضطربة، إنه يشعر بالعزلة والإحباط، خصوصا بعد أن صار رأسه مطلوباً من قوى اليسار، وقد تم التلويح علنا بدفعه لتقديم استقالته. وهو الآن يصارع من أجل إتمام مدة ولايته الثانية كاملة، التي من المفترض أن تنتهي في عام 2027، ولا يمكنه الترشح لولاية ثالثة.

وكأن الفيلسوف والعالم السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما، لما طرح نظرية "نهاية التاريخ"، كان يقصد بالتحديد نهاية الكيان الذي هيكلته الدولة الفرنسية على أنقاض مستعمراتها في القارة الأفريقية

إن الذي جرى هو أن فرنسا لم تكن لديها مطلقا نية مغادرة مستعمراتها السابقة، خصوصا أنها منطقة غنية بالطاقة، النفط والفوسفات والحديد الخام، وغيرها من الموارد الطبيعية والمعدنية التي يحتاجها الاقتصاد الفرنسي سريع النمو والذي يتطلب أسواقا جديدة. لذلك ارتأت فرنسا أن الإبقاء على تلك المستعمرات تحت جناحها أمرٌ في غاية الأهمية للحفاظ على استراتيجيتها الكبرى على الساحة الدولية.

هكذا خرجت فرنسا من النافذة لتعود من الباب، مدشنة عهدا جديدا لإمبراطورية شاسعة تمتد إلى "ما خلف البحار"، ضمن ما يطلق عليه اصطلاح "الاستعمار الجديد".

وعلى امتداد ستة عقود ماضية، لجأت فرنسا إلى كل الوسائل الدبلوماسية الممكنة، العلنية والسرية، المشروعة وغير المشروعة، لدمج نحو 14 دولة أفريقية في إمبراطورية استعمارية جديدة، ضمن منطقة فرنسية حصرية تسمى "Françafrica"، وهي منطقة شاسعة تغطي ربع أفريقيا وتمتد لنحو ثلاثة آلاف ميل من السنغال على ساحل المحيط الأطلسي إلى تشاد في وسط القارة.

في ظل هذه الإمبراطورية الكبرى، لم تسمح فرنسا قط لشعوب مستعمراتها السابقة باختيار قادتها بحرية، بل إن باريس دعمت الأنظمة الاستبدادية لتلك البلدان التي بالرغم من استقلالها الشكلي. وعلى المدى الطويل كانت عواقب الإمبريالية الفرنسية هي التخلف المزمن لمستعمراتها السابقة في جنوب الصحراء الكبرى، تحت هيمنة مطلقة من الفساد المستشري والحكم الاستبدادي الراسخ والاستغلال الاقتصادي العميق.

AP
جنود فرنسيون يغادرون قاعدتهم العسكرية في مالي على متن طائرة نقل تابعة للقوات الجوية الأمريكية، 9 يونيو 2021

بهذا الصدد يقول الخبير الاقتصادي السنغالي ندونغو سمبا سيلا: "إن فرنسا لم تسمح لمستعمراتها السابقة بالتنمية المؤسسية المستقلة بالمعنى الديمقراطي، والأسوأ من ذلك أنها لجأت إلى التلاعب بالهويات العرقية والاجتماعية لتلك البلدان الأفريقية".

اتهامات واستدراك متأخر

مع وصول إيمانويل ماكرون رئيسا للجمهورية الفرنسية في عام 2017، دخل الجدال حول فرنسا وأفريقيا منطقةً جديدة، بعد أن علت الأصوات المطالبة بطرد فرنسا من أفريقيا، وبدأت تترسخ أفكار من قبيل أن "عدم الاستقرار في أفريقيا خلقته ودعمته فرنسا"، وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في غرب أفريقيا ضجة شعارات صريحة مليئة بالتمرد والسخرية في آن، مثل: "فرنسا انسحبي.. فرنسا.. ارحلي!"...

ويذهب زعماء من الدول التي شهدت انقلابات مناهضة لفرنسا بين عامي 2022-2023 (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) إلى أبعد من ذلك، عندما يتهمون باريس بدعم المتطرفين الإسلاميين دون مواربة. ووفقاً لرئيس الحكومة الانتقالية في النيجر، عبد الرحمن تشياني، فإن فرنسا مرتبطة بالتعاون السري مع الجماعة الجهادية "بوكو حرام"... "لقد دعا الفرنسيون هؤلاء الإرهابيين للذهاب إلى حرب مفتوحة ضد الدولة الجديدة في النيجر". وفي يناير/كانون الثاني 2024، عاد عبد الرحمن تشياني مرة أخرى، متهماً باريس بتزويد "بوكو حرام" بمعدات عسكرية.

انسجاما مع السياسة المتعرجة لتحولات ما بعد الاستعمار، أدرك ماكرون جيدًا أن أجيالا من الشباب ومن السياسيين في هذه الزاوية الاستراتيجية من غرب أفريقيا يطالبون بالتغيير وبطي الصفحة، من منطلق التشكيك في التراث الاستعماري الجديد لفرنسا. لذلك أقدم على مبادرة إلغاء "قمم فرنسا وأفريقيا"، التي كانت تقدم في السابق منتدى سنويًا للحديث عن "روابط حميمة" بين النخب السياسية الفرنسية والأفريقية، وأمر في عام 2021 بدلاً من ذلك بعقد اجتماع جديد بين أفريقيا وفرنسا، تضمن تقريرًا-حوارًا أدار جلساته المفكر الكاميروني-الفرنكفوني البارز أشيل مبيمبي.

من باب التذكير والإشارة، فإن المفكر أشيل مبيمبي، الذي سعى في مجمل أعماله إلى تفكيك آليات السيطرة في العالم المعاصر، يعد منظر أطروحة "ما بعد الاستعمار"، وهو صاحب كتاب "نقد العقل الزنجي"، لكن أهم مؤلفاته في هذا المضمار هو: "ما بعد الاستعمار: أفريقيا والبحث عن الهوية المسلوبة"، ويتناول التصورات السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ضمن ما يسميه "الحداثة المتأخرة" التي تلت عصر الاستعمار، محاولا الوقوف على أنماط العلاقة الجديدة بين المستعمَر والمستعمِر السابق.

أعقب هذا الحوار الفكري إعلان ماكرون عن شراكة جديدة بين أفريقيا وفرنسا، من أبرز مميزاتها التركيز على ريادة الأعمال الرقمية الأفريقية، التي يُفترض أنها ستعيد تشغيل القارة. ووفقًا للرئيس الفرنسي، فإن هذه الشراكة الناشئة ستدخل فرنسا مرحلة جديدة من التاريخ مع قارة أفريقيا.

إعادة صياغة التاريخ الإمبراطوري

في نهاية فبراير/شباط وبداية مارس/آذار من هذا العام، وعشية زيارته إلى أربع دول أفريقية، أعلن ماكرون من الغابون أن "عصر أفريقيا الفرنسية قد انتهى إلى الأبد". لكن ماكرون ربما لم يتخيل قط أن المشاعر المعادية لفرنسا في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل قد ارتفعت إلى هذه الدرجة من النقمة والسخط. إنه "الفصل الأخير" في رواية فرنسا الأفريقية، وقد كتبت سطوره بمداد بائس للغاية، أو كما قال أحد الساخرين إن "الديك الغالي" الفرنسي يواجه خطر قطع رأسه بمقصلة أفريقيا.

وفي خطوة مثيرة للجدل، أخذ ماكرون على عاتقه مهمة إعادة صياغة التاريخ الإمبراطوري الفرنسي. عندما قام بتقديم سلسلة من الاعتذارات التاريخية، لعل من بين أهمها:

إعلانه أن حروب إنهاء الاستعمار في الجزائر كانت "جريمة ضد الإنسانية".

وبعد عقود من التستر، أسفرت نتيجة التحقيق الذي أمر ماكرون بإجرائه، عن مسؤولية ودور الدولة الفرنسية، ولو جزئيا، في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، خلال تولي الاشتراكي ليونيل جوسبان لمهمة رئيس الوزراء، وتم الكشف عن أن جوسبان هو من أشرف على التستر على تواطؤ المؤسسة العسكرية الفرنسية في الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا في عام 1994.

أ ف ب
مؤيدون لـ"مجلس الإنقاذ الوطني" في النيجر يرفعون أعلام مالي وبوركينا فاسو والجزائر والنيجر وروسيا أثناء تجمع في العاصمة نيامي في 26 أغسطس 2023

كان ذلك بمثابة استعارة مما قام به رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في بداية الألفية الحالية، لما قام بمبادرة رمزية لافتة، قدم من خلالها اعتذاره عن تجارة الرقيق عبر الأطلسي، وإعلانه أن الفقر الأفريقي "ندبة على ضمير العالم". وبعد مغادرته المنصب أنشأ معهدا تحت لافتة "التغيير العالمي" يحمل اسمه، يعمل في أفريقيا ويهدف إلى "جعل العولمة تعمل لصالح الكثيرين، وليس القِلَّة".

وفي 27 فبراير من هذا العام، تحدث إيمانويل عن استراتيجية فرنسا الجديدة لأفريقيا، التي تركز على إقامة شراكة عسكرية جديدة بين فرنسا وأفريقيا، وتخطط لتقليص وجودها العسكري في أفريقيا بشكل كبير، يتم بمقتضاه تحويل بعض القواعد العسكرية إلى تدريب قوات مسلحة محلية، وقد يجري انتقال إدارة "الأكاديميات العسكرية" إلى "سيطرة مشتركة" بين فرنسا وأفريقيا.

وعلى الرغم من تأكيد ماكرون على أن "هذا هو إعادة تنظيم عسكري لفرنسا، وليس انسحابا للقوات والتخلي عن الالتزامات"، إلا أن تصاعد مشاعر "العداء ضد فرنسا"، واعتبار فرنسا "مصدراً للفقر والفوضى" في أفريقيا، جعلت نفوذ فرنسا في القارة يتراجع تدريجياً.

السياسة الاستعمارية الجديدة التي تنتهجها فرنسا محكوم عليها بالفشل، وأصبح من الصعب أن تشكل "فرنسا أفريك" الاستثناء عند مقارنتها مع أشكال الاستعمار الجديد البريطاني والبرتغالي

إمبراطورية لا تريد الموت

أمام صعوبة الحفاظ على ممتلكات فرنسا في أفريقيا، سيسعى إيمانويل ماكرون إلى تثبيت أطروحة "ما بعد الاستعمار"، التي استقبلت في البداية ببرود واضح من طرف معظم الدوائر الأكاديمية والمجتمع المدني الفرنسي، بل إنها ووجهت بانتقادات شديدة في الصحافة والإعلام، إذ لم يتم استيعاب جهود ماكرون من أجل تجنب أن تتفكك الإمبراطورية الفرنسية العظمى المهددة بالاندثار والموت.. ضمن ما عبر عنه عنوان مجلد ضخم حمل عنوان: "الإمبراطورية التي لا تريد الموت"، ضم مجموعة من الأبحاث والدراسات لعدد من المؤلفين.

وبما أن الكيانات تشبه الكائنات الإنسانية، حيث تصل بعد الازدهار إلى مرحلة الانكسار والتراجع ثم الاضمحلال، فإن نهاية "فرنسا أفريك" ووفاتها إعلان سيظل يتكرر على ألسنة الكثير من السياسيين من النخب السياسية الفرنسية منذ عام 1990، ما استوجب ضرورة الانتباه إليه أمام "الإمبراطورية الفرنسية" التي استمرت بعد مرحلة الاستعمار التقليدي بلبوس وأقنعة "الاستعمار الجديد"، مرحلة هي اليوم على مشارف النهاية والزوال، بعد إفلاس الهياكل الاقتصادية والسياسية الداعمة للاستعمار الفرنسي الجديد.

وبالرغم من استمرار التزام كثيرين في باريس بمحاولات إعادة تشكيل العلاقات الفرنسية الأفريقية بطرق جديدة، والتأكيد على استدامة التبعية الاستعمارية الجديدة، ومحاولات الرهان على إيجاد حلول مبتكرة لاستمرار عمل الوكالة الفرنسية للتنمية وسابقاتها في أفريقيا، والمحافظة على المجموعة المالية الأفريقية، الموصوفة بأنها "آخر عملة استعمارية"، لم يعد هناك مجال كبير للشك في أن السياسة الاستعمارية الجديدة التي تنتهجها فرنسا محكوم عليها بالفشل، وأصبح من الصعب أن تشكل "فرنسا أفريك" الاستثناء عند مقارنتها مع أشكال الاستعمار الجديد البريطاني والبرتغالي.

لقد شهد القرن التاسع عشر هيمنة الغرب وسطوته باستعماره للشعوب وسلبها حريتها وثرواتها، واستطاعت فرنسا تشكيل إمبراطوريتها الشاسعة في أفريقيا. لكن كفاح حركات الاستقلال في الأقطار المحتلة سيفضي بعد الحرب العالمية الثانية إلى تفكيك تلك الإمبراطورية. إلا أن فرنسا حققت نجاحا في الاحتفاظ بنفوذها الكبير على مستعمراتها الأفريقية السابقة، خاصة في منطقة الساحل، وضمان مصالحها الكبرى في القارة السمراء، بدءا من الاقتصاد والأمن إلى الاستثمار والسياسة.

لكن بعد نهاية فترة الحرب الباردة وصعود قوى عالمية جديدة، سيتغير المشهد العالمي، ووجدت فرنسا نفسها في مواجهة مقاومات محلية بالمنطقة الأفريقية. والحديث هنا يهم على الأقل عشرة بلدان من غرب القارة، هي: موريتانيا ومالي وغامبيا والسنغال والنيجر وبوركينا فاسو وغينيا ونيجيريا والكاميرون وتشاد.

بموازاة ذلك تأججت المنافسة الدولية بصورة أكثر صعوبة، خصوصا بعد انغمار منطقة الساحل في حروب وقلاقل مختلفة، وانخراط الجيش الفرنسي في القتال من أجل وقف توغل الحركات الجهادية في المنطقة.

شيئا فشيئا بدأت هيبة الامبراطورية الفرنسية في التراجع، وتم الإضرار بصورة فرنسا على المستوى الدولي. لقد انطلق مسلسل التمرد على "الجمهورية الخامسة" الفرنسية من طرف بلدان اعتادت فرنسا على اعتبارها تقريباً ضمن ملكيتها الخاصة، والبداية كانت من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والنيجر ثم تشاد.. وتواصل العصيان والانتفاض في التوسع إلى أن امتد إلى إثارة بلدان الساحل الأخرى المجاورة ضد فرنسا، مثل كوت ديفوار والسنغال.

على هذا الأساس فقد تقبل الجميع حقيقة مفادها أن فرنسا على طريق خسارة مستعمراتها السابقة في أفريقيا، وبشكل نهائي هذه المرة، بعد عقود متواصلة من إرث استعماري ثقيل، إذ منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، عاشت البلدان الأفريقية سلسلة من التقهقر والتخلف والحروب الأهلية والانقلابات واغتصاب السلطة والأنظمة الاستبدادية، وتورط مسؤولين من القيادة الفرنسية في أساليب وصفت بـ"القذرة"، من بينها تقديم رشاوى لمسؤولين حكوميين ببلدان أفريقية.

تورط مثير، كان أحيانا موضوع جدل داخل الدوائر السياسية والأكاديمية الفرنسية. كما أن المشاعر المعادية لفرنسا في الأعوام الأخيرة، وبالتحديد في فترة الرئيس ماكرون، عرفت جملة من الخلافات حتى مع الجزائر والمغرب وتونس.

قطيعة غير تامة

استمرت باريس في استقبال الأخبار غير السارة القادمة من أفريقيا، والمتصلة بتنامي واقع الانفصال عن النفوذ الفرنسي، والتحرك نحو الاستقلال الحقيقي، بقطع العلاقات مع الشركات الفرنسية واستنكار اتفاقيات الدفاع مع فرنسا، كان من نتائجها انسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وقد تابع العالم موجة الانقلابات العسكرية التي اجتاحت أفريقيا الناطقة بالفرنسية، وعلى الرغم من أن كل حالة فريدة من نوعها، فإن معظمها متحد في حقيقة أنها حالات تعلن بدرجة أو بأخرى معارضة النفوذ الفرنسي. مثل إقدام تشاد بشكل مفاجئ إلغاء اتفاقية الدفاع مع فرنسا. وتشاد هي أيضًا من المستعمرات الفرنسية السابقة، التي أحجمت اليوم عن رؤية القوات الفرنسية فوق أراضيه، بعد أن كانت ضمن الصف التقليدي الموالي لباريس.

من جانبه صرح الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي، في الأيام القليلة الماضية، بأن باريس ستضطر إلى إغلاق قواعدها العسكرية في البلاد على المدى المتوسط. موضحاُ أن "السنغال دولة مستقلة". وأن "السيادة لا تتوافق مع وجود قواعد عسكرية أجنبية في البلاد". وترك موعدًا مفتوحًا لانسحاب القوات. ولا يزال لدى فرنسا رسميًا نحو 350 جنديًا في الدولة الساحلية الواقعة في غرب أفريقيا.

AFP
صورة من الارشيف للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مستقبلا رئيس النيجر المعزول محمد بازوم في قصر الاليزيه في باريس في 23 يونيو 2023

لا شك أنها خطوة تمثل "نقطة تحول تاريخية"، وإن كان إلغاء اتفاقيات التعاون الأمني ​​والدفاعي مع تشاد والسنغال، حسب وكالة الأنباء الفرنسية، لا يعني القطيعة مع فرنسا "كما هو الحال في النيجر أو في أي مكان آخر".

كما رحب باسيرو ديوماي فاي برسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي يعترف فيها بارتكاب الجيش الفرنسي "مذبحة" ضد المقاتلين السنغاليين في ديسمبر/كانون الأول 1944. في الوقت الذي أعلنت فيه تشاد والسنغال عن رغبتهما في موازنة العلاقات مع الغرب.

إجمالا، فإن ما يجري حاليا على مسرح الأحداث من تطورات متسارعة، من شأنه إنهاء الوجود اللوجستي والعسكري المتبقي لفرنسا في وسط وغرب أفريقيا.

انهيار وتفكيك إمبراطورية

من المهم الحديث عن ظهور فاعلين جدد في القارة الأفريقية استفادوا من تأجيج الاستياء الإمبريالي الجديد من فرنسا، وبالأخص الصين وروسيا التي تعمل على توسيع نفوذها داخل القارة الأفريقية، وتوسيع التعاون مع الأفارقة في مجالات الدفاع والطاقة والبنية التحتية والزراعة، مع تقديم مساعدات عسكرية.

تقوم روسيا بتقديم مساعدة كبيرة لبوركينا فاسو والنيجر في جهودهما لمكافحة الإرهاب الدولي، ويُنظر إليها في مثل هذه الظروف على أنها شريك أكثر موثوقية وضامن لأمن الدول الأفريقية من فرنسا.

هكذا خسرت فرنسا المعركة بغطرستها وأسلوبها الاستعماري، أمام الأساليب الأكثر مرونة لمنافسيها في روسيا والصين، وهما البلدان اللذان ليس لديهما ماض استعماري مثل فرنسا صاحبة الذكرى السيئة أفريقياً، مما كان سبباً في تدهور وضعها بالقارة السمراء بشكل حاد.

بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 2020 التقى إيمانويل ماكرون برؤساء خمس دول من منطقة الساحل 2020، والآن الشخص الوحيد المتبقي في السلطة من أولئك الخمسة هو الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، بعد الانقلابات التي أسقطت الأربعة الآخرين.

وعلى هذا الأفول الدراماتيكي فقدت القوة الاستعمارية السابقة نفوذها في القارة تدريجيًا وبدأت في طي راياتها، بعدما كانت فرنسا ذات زمن تمتلك إمبراطورية تغطي ربع ثاني أكبر قارة على هذا الكوكب.

في خضم هذه الاضطرابات الجيوسياسية ظهر العميل الروسي الراحل يفغيني بريغوجين، الذي ساعد في تدمير وتفكيك النسخة الحديثة من الإمبراطورية الفرنسية القوية في أفريقيا.

من المهم الحديث عن ظهور فاعلين جدد في القارة الأفريقية استفادوا من تأجيج الاستياء الإمبريالي الجديد من فرنسا، وبالأخص الصين وروسيا التي تعمل على توسيع نفوذها داخل القارة الأفريقية

يفغيني بريغوجين الشخص الاستثنائي، وأحد المغامرين الخياليين غير المتوقعين، أو "رجل موسكو في أفريقيا" الذي هزت الكتائب المرتزقة لمسلحيه النظام العالمي في أفريقيا، وأنشأت وجودًا روسياً وروابط مع حكومات في سبع دول أفريقية على الأقل، بأساليب نسجت بخيوط المكر والفساد والخداع، في مضاهاة لرجل باريس في أفريقيا، جاك فوكار الأسطوري، الذي أتقن تشييد إمبراطورية "فرنسا أفريك".

وبعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يتوقع مراقبون، أن روسيا ستواجهها تحديات لوجستية، من شأنها تقويض عملياتها في أفريقيا بعد أن فقدت بصمتها في سوريا، الأمر الذي من تداعياته إلحاق الضرر بالتصور العالمي لروسيا كشريك وحامٍ فعال، مما قد يهدد شراكات روسيا مع المستبدين الأفارقة، ويعيق نفوذها الاقتصادي والعسكري والسياسي الناتج عن ذلك في أفريقيا.

إن التداعيات الاستراتيجية المترتبة على هذا التحول ستكون عميقة من دون شك، ينتظر معها أن نشهد فصولاً جديدة لا حصر لها من الصراع العالمي في أدغال القارة السمراء.

font change

مقالات ذات صلة