هل التعصب الديني جزء من التراث العربي.. أم دخيل وافد؟

وقائع ومرويات تثبت أصالة قيم التسامح في الإسلام

GettyImages
GettyImages
"بغداد في أيام المنصور" ، لوحة لإدموند ساندرز

هل التعصب الديني جزء من التراث العربي.. أم دخيل وافد؟

في لقاء تلفزيوني مطول مع المستشرق البريطاني المثير للجدل، برنارد لويس، وجه المذيع له رسالة من أحد المشاهدين، وفيها قال: "إن الإسلام دين يأمر بالطاعة، وليس الفهم، وقد انتشر بالقوة لا الإقناع" هنا قاطعه لويس، وقال: هذا الكلام خاطئ تماما، فهناك آية في القرآن تقول "لا إكراه في الدين" والمسلمون ليس متاحا لهم أن يتسامحوا مع الديانات الأخرى فحسب، بل توجب عليهم كتبهم وقوانينهم المقدسة أن يتعاملوا بعدل وتسامح مع غير المسلمين، خاصة أهل الكتاب (اليهودية والمسيحية)، فنحن أمام تسامح مع هذه الأديان يفرضه القانون، وقد كان هذا هو الحال دوما خلال التاريخ الإسلامي".

يختم برنارد لويس كلامه بجملة مثيرة للاهتمام، فيقول: "التعصب الديني هو أمر تعلمه المسلمون من أوروبا، وليس من تاريخهم".

تحولات عنيفة

إذا أردنا أن نضع هذه الجملة محل الاختبار، علينا أن نعود إلى القرن الثامن الميلادي، ذلك القرن الذي شهد بزوغ الحضارة الإسلامية، وصعودها العالمي، في الوقت نفسه كانت أوروبا تعيش تحت وطأة مشروع ضخم تمثل في تنفيذ أكبر تبشير قسري وعنيف لتحويل بقية سكان أوروبا إلى الديانة المسيحية بالقوة والإجبار، حيث كان الهدف الأساسي لتلك الجهود هو ترسيخ المسيحية كدين موحد في أوروبا وبناء نظام سياسي وثقافي جديد تحت سيطرة الكنيسة.

ومن الأمثلة البارزة على هذا التحول العنيف الغزوات الكارولنجية التي قادها الإمبراطور شارلمان، حيث خاض سلسلة من الحروب ضد الساكسون الوثنيين شمال ألمانيا بين عامي 772 و804م بهدف فرض المسيحية عليهم. وشهدت هذه الحروب، حملات إبادة جماعية، بما في ذلك مذبحة فيردن عام 782م التي أُعدم فيها 4500 ساكسوني رفضوا اعتناق المسيحية.

كان الهدف الأساسي لتلك الجهود هو ترسيخ المسيحية كدين موحد في أوروبا وبناء نظام سياسي وثقافي جديد تحت سيطرة الكنيسة

ترافق ذلك مع بناء الكنائس وإجبار السكان المحليين على التعميد، ودمجهم قسرا في المنظومة المسيحية. وفي المناطق الشمالية والشرقية من أوروبا، كانت الحملات التبشيرية أكثر عنفا، حيث قاد فرسان النظام التوتوني خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر سلسلة من الحملات العسكرية ضد الشعوب الوثنية في منطقة البلطيق، مثل البروسيين والليتوانيين، حيث دمروا المعابد الوثنية وأجبروا السكان على التحول للمسيحية. وفي الدول الإسكندنافية، اعتمد ملوك مثل أولاف تريغفاسون في النرويج على سياسات قسرية لتنصير شعوبهم، بما في ذلك نفي أو إعدام المعارضين.

Wikimedia Commons

ولم تكن هذه الحملات قاصرة على الغزو العسكري فقط، بل شملت القمع الثقافي وحرق النصوص الدينية الوثنية وحظر الطقوس التقليدية، وفرض ضرائب باهظة على الرافضين للمسيحية، وحتى تهجيرهم قسرا... وغيرها من الأحداث والوقائع التي يحفل بها تاريخ أوروبا في العصر الوسيط.

تعايش ومساواة

لكن حين تنتقل بوصلة النظر والتأمل، وتذهب إلى حواضر العالم الإسلامي مطلع القرن الثامن والتاسع الميلادي وما بعده، إلى بغداد ودمشق وقرطبة والري وأصفهان وحلب والقاهرة ونيسابور وصقلية، يأخذك العجب حين تقرأ عن سيرة التسامح والتعددية الدينية والاجتماعية والثقافية التي ميزت العهد الأموي، وبواكير العهد العباسي، في صورة فريدة من التعايش ربما لم يعرف العالم لها مثيلا في ذلك الوقت، حيث كان أبناء الديانات المختلفة يعيشون في مكان واحد، ويتمتعون بحقوق متساوية تحفظ لهم الحياة الكريمة، والعيش الآمن، في تطبيق مبكر لمفهوم المواطنة الحديث.

AlMajalla
غلاف كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء

تأمل كيف يصف موفق الدين ابن عباس (ابن أبي أصيبعة) في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" وهو يتحدث عن العلماء المسيحيين واليهود الذين عاشوا ونبغوا داخل المجتمع الإسلامي المبكر، بلغة خالية تماما من الشحن العدائي أو الارتياب من غير المسلمين. فها هو يعرف بالطبيب السرياني أبو الفرج اليبرودي، فيقول: "أبو الفرج جورجس بن يوحنا بن سهل بن إبراهيم (ت 427هـ) نسبة إلى يبرود من قضاء النبك بدمشق، من النصارى اليعاقبة، كان فاضلا في صناعة الطب، عالما بأصولها وفروعها، معدودا من جملة الأكابر من أهلها والمتمرنين من أربابها، دائم الاشتغال، محبا للعلم، مؤثرا للفضيلة". أما اليهودي أبو عمران موسى بن ميمون بن عبيدالله القرطبي (ت601هـ) فيصفه بأنه "من أحبار اليهود وفضلائهم، كان رئيسا عليهم في الديار المصرية، وهو أوحد زمانه في صناعة الطب، وفي أعمالها، متفنن في العلوم، له معرفة جيدة بالفلسفة، وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي يرى له ويستطبه، وكذلك ولده الملك الأفضل علي". ويقول عن اليهودي البيان بن المدور الملقب بالسديد (ت580هـ): "كان يهوديا، قراء، عالما بصناعة الطب، حسن المعرفة بأعمالها، له مجريات كثيرة، وآثار محمودة". ويصف الرئيس هبة الله (ت580ه): "كان إسرائيليا فاضلا، مشهورا بالطب، جيد الأعمال حسن المعالجة".

يأخذك العجب حين تقرأ عن سيرة التسامح والتعددية الدينية والاجتماعية والثقافية التي ميزت العهد الأموي، وبواكير العهد العباسي

مكانة غير المسلمين

وقدمت الباحثة التونسية سلوى بالحاج صالح أطروحة علمية ثرية في هذا المجال، بعنوان "المسيحية العربية وتطوراتها، من نشأتها إلى القرن الرابع الهجري" استعرضت فيه تاريخ المسيحيين العرب ووجودهم في الجزيرة العربية والعراق والشام، أبان فترة العصر النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، والعهدين الأموي والعباسي، وحللت بالشواهد والأحداث أسباب تراجع التسامح الذي بدأ يتناقص عهدا بعد عهدا، وانعكاس ذلك على زماننا، مما يكشف عن انفصال واضح في السلوك والقيم عما كان عليه شكل المجتمع المسلم في عصوره المبكرة.

أوردت الكاتبة نموذجا على روح الأريحية والاسترخاء في التعامل مع أبناء الديانات الأخرى داخل المجتمع المسلم، حتى وإن عبروا وجاهروا بانتمائهم الديني، وأبرز مثال على ذلك شخصية الشاعر العربي الشهير الأخطل التغلبي، فرغم أنه كان نصرانيا إلا أنه احتل مكانة قوية في بلاط الأمويين وسطع نجمه في عهد عبدالملك بن مروان، "حتى أنه كان يدخل على الخليفة بغير إذن، وفي عنقه سلسلة من ذهب فيها صليب، وتنفض لحيته خمرا"، ومن المرويات في هذا السياق حول مواقف الأخطل وصراحته في حديثه مع خلفاء بني أمية، أنه دخل ذات مرة على الخليفة عبدالملك، فسأله الخليفة: "لماذا لا تسلم يا أخطل؟"، فرد عليه: "إن أنت أحللت لي الخمر، ووضعت عني صوم رمضان أسلمت" ثم أنشد:

ولست بصائم رمضان يوما  

ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بقائم كالغير يدعو  

قبيل الصبح حي على الفلاح

ولكني سأشربها شمولا        

وأسجد عند منبلج الصباح

فجارى عبدالملك شاعره في مزاحه وضحك.

وفي رواية أخرى عن هشام بن عبدالملك لما سمع الأخطل يقول ذات مرة:

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخرا يكون كصالح الأعمال

فقال له هشام: "هنيئا لك أبا مالك هذا الإسلام"، فقال الأخطل: "يا أمير المؤمنين ما زلت مسلما في ديني".

وفي هذه الإشارة نجد أن ورود الشعراء والأطباء المسيحيين على بلاط الخلافة كان متكررا وكثيرا، بل منهم من كانوا مرافقين وأطباء مخلصين لبعض خلفاء بني العباس، وقد أورد قصصهم وأحوالهم الدكتور جان مورييس فييه، في كتاب بعنوان "أحوال النصارى في خلافة بني العباس"، الذي أشار في كتابه إلى معلومة لطيفة وهي أن الخلفاء الأمويين والعباسيين كانوا "يستهلون حديثهم مع غيرهم من أبناء الديانات الأخرى بدعوتهم للإسلام، إبراء للذمة وتقديما لواجب النصيحة، دون أن يكون هناك أي ضغينة أو غضب حين يقابلهم الطرف الآخر بالرفض".

بقيت المسيحية العربية حية في بلاد الشام والعراق إبّان العهود الإسلامية المبكرة، واحتفظوا بكنائسهم وأديرتهم، بل وساهمت السلطة الإسلامية آنذاك في تنظيم شؤون الكنيسة

المسلمون وبناء الكنائس

لقد بقيت المسيحية العربية حية في بلاد الشام والعراق إبّان العهود الإسلامية المبكرة، واحتفظوا بكنائسهم وأديرتهم، بل وساهمت السلطة الإسلامية آنذاك في تنظيم شؤون الكنيسة ورعاية مصالحها، وكان من أبرز مظاهر حيوية الديانة المسيحية داخل الدولة الإسلامية في العهد الأموي والعباسي هو انصراف عدد من أبنائها نحو الرهبنة، وتأسس دير باسم "دير العرب"، كما سمح الأمويون لهم بالاحتفاظ بأغلب الكنائس ولم يمانعوا ترميمها، أو بناء كنائس جديدة، ورغم أنّ بعض عهود الصلح أيام الراشدين نصّت على منع استحداث كنائس جديدة، إلا أن الأمويين لم يلتزموا بها باستثناء مرحلة عمر بن عبدالعزيز، وقد روى الطبري أن خالد القسري والي العراق، كان يأمر بنفسه بإنشاء البيع والكنائس، وأبو جعفر المنصور الخليفة، حذا حذوه عندما شيّد بغداد. كما انخرطت أعداد كبيرة من المسيحيين في صفوف الدولة، فكان هناك الوزراء وكتبة الدواوين وأطباء البلاط ومجموعة كبيرة من الشعراء والأدباء من المسيحيين، حتى أن فريقا من أتباع الكنيسة المارونية وفريقا من أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية تساجلا حول طرق الاتحاد الطبيعي للمسيح، وهو الخلاف الذي تفجّر في أعقاب مجمع خلقيدونية عام 451م أمام الخليفة معاوية بن أبي سفيان طالبين تحكيمه في الموضوع، فأقرّ الخليفة رأي الموارنة ومنحهم كنائس كانت تابعة للأرثوذكس في حمص وحماه ومعرة النعمان.

shutterstock
مشهد دمشقي قديم

كما برز العديد من العلماء المسيحيين في العهد العباسي أمثال ثيوفيل بن توما الرهاوي الذي شغل منصب كبير علماء الفلك والمنجمين لدى الخليفة المهدي، وقيس الماروني المؤرخ الذي وضع مؤلفا أرخ به تاريخ البشرية منذ خلق آدم وحتى خلافة المعتضد، وجرجس بن بختيشوع، وجبريل بن بختيشوع تلميذه، وهم أبناء أسرة مسيحية من الأطباء والعلماء، وحنين بن إسحاق وابن اخته حبيش بن الأعسم، وعبدالمسيح الكندي ويوحنا بن ماسويه والذي كان وأبوه قبله، مدير مشفى دمشق خلال خلافة هارون الرشيد، وغيرهم.

وربما أدق قول يوصف تلك المرحلة قول الجاثليق إيشوعهيب الثالث جاثليق بابل وتوابعها لكنيسة المشرق، واصفا حال المسلمين ذلك الزمن: "إنهم ليسوا أعداء النصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قساوستنا وقديسينا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا".

font change

مقالات ذات صلة