معارك الأدب

ينبغي له أن لا ينسى نفسه

معارك الأدب

للأدب معاركه الدائمة. أو لنقُلْ: لا يحيا الأدب ولا يتطور دون معارك. ومعركته الأولى والأساسية هي مع نفسه، وهي لا تنفصل عن معاركه المتنوعة إزاء العالم، وإزاء المجتمع بمختلف قضاياه.

للأدب طبيعة لا تستقر. فهو لا يهدأ في بحثه عن الجديد، عن الرؤى الجديدة وأشكال التعبير الجديدة. لأن الأدب بطبيعته لا يكف عن السعي إلى تغيير العالم، إلى جعله آمَنَا وأفضل وأجمل. ولكي ينجح في سعيه هذا، لا يكف عن تجديد نفسه. ومن هنا معركته الدائمة لتجديد أسلحته، التي هي رؤاه ومواقفه وأدواته الفنية.

وفي المراحل العصيبة، عندما يتعرض المجتمع لهزات عنيفة، كما هو الشأن في حالة الحرب، تصبح مهمة الأدب أكثر دقة وتعقيدا. لأنه يجد نفسه مدعوّا إلى تسجيل المواقف التي لا تعرف المساومة أو المراوغة، خلافا لِما يفعله السياسيون على سبيل المثال.

الأدب هو الذي يتحمل المسؤولية الكبرى عن مؤازرة الحق والعدالة عندما يشتد الصراع ويبلغ العنف مداه. ولكن، عليه أن يفعل ذلك كله دون أن يفرّط بنفسه. عليه أن يحتضن القضايا العادلة وأن يبقى أدبا في الوقت ذاته، فلا يتحول إلى شعارات أو مقولات عامة كالتي يرددها السياسيون على سبيل المثال أيضا.

في المراحل العصيبة، غالبا ما يجد كتّاب الأدب أنفسهم في سياق من الحماسة لمواقف لم يشاركوا في صنعها، فتأتي كتاباتهم صدى لهذه المواقف التي يحسبونها تلقى استجابة من القرّاء، أو بالأحرى من جمهور الأدب (الذي نفترض وجوده بنسبة أو بأخرى). وغالبا ما يؤدي ذلك إلى ظهور كتابات (أدبية) كثيرة تضحي بقدر من أدبيتها لصالح الخطابة أو تسجيل المواقف (المسبَقة). ولنا أمثلة كثيرة على ذلك في أدبنا العربي الحديث، ابتداء من عام النكبة 1948، مرورا بهزيمة يونيو/حزيران عام 1967 وما تلاها من انتفاضات أو حروب في بلدان عربية، أو بينها وبين العدو الإسرائيلي، وصولا إلى الحرب الأخيرة على فلسطين ولبنان.

لو أردنا أن نتذكر الأعمال الأدبية (في الشعر والرواية وغيرهما) التي واكبت الأحداث الكبيرة التي جئنا على ذكرها، لاستطعنا أن نعدد الكثير منها، الكثير من حيث الكمية. أما الجيد من هذه الكتابات فهو قليل جدا، بل نادر. وهذا يعني أن الأدب العربي الحديث لم يحسن إدارة معركته الذاتية، أي معركته مع نفسه، وهو يتصدى لأحداث خطيرة أو حروب كان لها تأثيرها العميق في المجتمع.

كثيرون يحسبون أن موضوع الأدب هو الذي ينهض بالأدب. والعكس هو الصحيح. فالأدب ينهض بموضوعه. وإذا فرضت الأحداث موضوعا على الأدب، فإن كل أديب يتناوله بطريقته الخاصة، فيكون صانعا له أو مبتكرا. يجعل منه موضوعه الخاص، مهما يكن هذا الموضوع عاما. وهكذا ينجح الأديب عندما يمتلك طريقته الفنية المميزة في تناول هذا الموضوع أو ذاك. والنظر في هذه الطريقة الفنية أو تلك هو المنطلَق في تقويم (أدبية) النصوص، أي في تقويم مستواها الفني، وتاليا في الحكم على مدى نجاحها في تأدية ما رمت إليه. أما الاكتفاء بالنظر إلى النص الأدبي من خلال موضوعه، مهما تكن أهمية هذا الموضوع، فليس سوى قصور في التعاطي مع الأدب وفي الحكم عليه.

كثيرون يحسبون أن موضوع الأدب هو الذي ينهض بالأدب. والعكس هو الصحيح. فالأدب ينهض بموضوعه

واليوم، يواجه الأدب العربي امتحانا ليس بالهين. وذلك حيال الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي بلغ من الحدّة درجة لم يعرفها في تاريخه، تمثلت بحربي الإبادة والتدمير في غزة ولبنان، حيث أبدت الآلة العسكرية الإسرائيلية منتهى العنف والتوحش. 
لا بد لِما حصل ويحصل منذ أكثر من سنة أن يترك آثاره العميقة في حياتنا، في حاضرنا ومستقبلنا، وعلى مساحة العالم العربي كله. إنها القضية التي تعني العرب جميعا، وتمثل تحديا لهم جميعا. ولا بد للأدب، في تصديه لهذه القضية، أن يشارك في صنع المواقف والرؤى إزاءها، لا بل أن يكون المشارك الأول في ذلك. عليه أن يجد في صنع المواقف والرؤى الجديدة معركة يتوجب عليه خوضها. ولكن، ينبغي له في الوقت ذاته أن لا ينسى نفسه. عليه أن يكون أدبا بالدرجة الأولى. لأنه إذا فرّط بنفسه، يكون قد خسر القدرة على تناول قضاياه تناولا مثمرا ومؤثرا.

font change