لقد سقط نظام الأسد. بالنسبة للسوريين، تولّد هذه اللحظة التاريخية مزيجا من الأمل العميق والقلق الكبير، فبعد سنوات من النضال والتضحيات والمعاناة التي لا تُوصف، صار بإمكان الكثرة من السوريين– وأنا منهم– الإيمان بأن البلد الذي طالما حلمنا به يمكن أن يصبح أخيرا حقيقة واقعة. ومع ذلك، وفيما نحن نقف عند هذا المفترق الحرج، فإن حالة من عدم اليقين تظلل الأفق، ويظل السؤال الملح "ماذا بعد؟".
على الأرض، تتسارع الأحداث بشكل مذهل، فقد نصّبت "هيئة تحرير الشام" نفسها قائدةً للانتقال السياسي في سوريا. بيد أن تاريخها المثير للجدل المرتبط بـ"داعش" و"القاعدة" وتصنيفها كمنظمة إرهابية يثيران قلقا عميقا من سيطرة "الهيئة" في هذه المرحلة الحاسمة. وما يزيد الوضع تعقيدا أن الانتقال في سوريا يجري خارج إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي يمثل خارطة الطريق المعترف بها دوليا للانتقال السياسي في سوريا.
خلال الهجوم العسكري السريع الذي أطاح بالنظام، كانت "هيئة تحرير الشام" تتبنى نبرة معتدلة، ووعدت بحماية المدنيين، بما في ذلك الأقليات، والحفاظ على الممتلكات والمؤسسات العامة، وقد منحت هذه الوعود، إلى جانب الانضباط الملحوظ في المناطق التي سيطرت عليها، بصيص أمل للسوريين، وزادت الهيئة بأن أبدت استعدادها لتفويض السلطة على هذه المناطق إلى هيئة انتقالية، ما خفف المخاوف من حكم أحادي الجانب.
ولكن التطورات الأخيرة ترسم صورة مغايرة. فعقب سقوط النظام بفترة وجيزة، عينت "هيئة تحرير الشام" رئيس وزراء "حكومة الإنقاذ" التابعة لها– وهي "الهيئة" التي كانت مسؤولة منذ فترة طويلة عن إدارة أراضيها في شمال غربي سوريا– لتشكيل حكومة انتقالية للبلاد وقيادتها. ويبدو من التقارير أيضا أن مسؤولي "حكومة الإنقاذ" هم من يتولون عملية تسليم السلطة من نظام الأسد.
يثير هذا النهج مخاوف كبيرة، ليس فقط بسبب نوعية الأشخاص المعنيين، بل أيضا بسبب ما يمثله: استيلاء أحادي الجانب من قبل "هيئة تحرير الشام" بدلا من تشكيل هيئة حكم شاملة وتمثيلية على نطاق واسع. إن تداعيات هذا النهج خطيرة للغاية، وإذا ما مضت "هيئة تحرير الشام" قدما في نسخ تجربة "حكومة الإنقاذ" في دمشق وغيرها من المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام السابق، فإنها ستسهم في إقصاء الفاعلين السوريين الذين ينبغي أن يكونوا هم من يشكلون مستقبل البلاد.
يثير هذا النهج مخاوف كبيرة، ليس فقط بسبب نوعية الأشخاص المعنيين، بل أيضا بسبب ما يمثله: استيلاء أحادي الجانب من قبل "هيئة تحرير الشام" بدلا من تشكيل هيئة حكم شاملة وتمثيلية على نطاق واسع
تبرر "هيئة تحرير الشام" هذه التحركات على أنها خطوة ضرورية لضمان الاستقرار والاستمرارية خلال فترة انتقالية مضطربة، وعدت "الهيئة" بأن تنتهي في مارس/آذار. ولكنّ ثمة قلقا متزايدا من أن تستغل "الهيئة" هذه الفترة المؤقتة لترسّخ سلطتها وتفرض رؤيتها على حكم البلاد، متجاهلة المشاركة الأوسع من بقية الفاعلين السوريين أو المجتمعات المحلية.
وثمة خطوة مقلقة بشكل خاص هي تعليق العمل بالدستور لمدة ثلاثة أشهر للسماح للجنة قانونية وحقوقية باقتراح تعديلات. وفيما تعتبر هذه الخطوة ضرورية من حيث المبدأ، فإن غياب الوضوح حول عملية المراجعة ومن سيكون الأفراد المشاركون في العملية يفاقم القلق من النهج الأحادي. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق أن عملية مراجعة الدستور هذه تجري بالكامل بعيدا عن إطار العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، والتي صممت خصيصًا لضمان الشمولية والشرعية الدولية.
مثل هذه العملية التاريخية الحاسمة لا يمكن– ولا يجب– أن تُقاد من جهة واحدة أو حتى مجموعة صغيرة من الأطراف. وبالتأكيد لا يمكن التسرع في تنفيذها خلف الأبواب المغلقة. إن شرعية الانتقال في سوريا ونجاحه يعتمدان على الشفافية، والشمولية، والالتزام بالمبادئ المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254.
قد يمكن تفهّم بُطء الاستجابة من قبل الجهات الإقليمية والدولية إلى حد ما، نظرا لسرعة وتيرة التطورات على الأرض. ومع ذلك، فإن هذا التقاعس يصبح أكثر تكلفة يوما بعد يوم. لذلك يتوجب على المجتمع الدولي أن يتحرك بسرعة، متخليا عن المراقبة السلبية نحو المشاركة الفعالة، فالوقت عامل حاسم، وما لم تُتّخذ إجراءات فورية ومتحدة، فستكون العاقبة خروجَ عملية الانتقال في سوريا عن مسارها، ما قد يؤدي إلى عواقب مدمرة للبلاد والمنطقة بأسرها.
لعل الأمر الأكثر إثارة للقلق أن عملية مراجعة الدستور هذه تجري بالكامل بعيدا عن إطار العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، والتي صممت خصيصًا لضمان الشمولية والشرعية الدولية
على الأطراف الإقليمية والدولية أن تعمل بشكل عاجل على تنفيذ خارطة الطريق المتفق عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254، مع ضمان أن تكون عملية الانتقال بقيادة سورية، ولكن مدعومة بضمانات خارجية لتحقيق الشمولية والعدالة. كما يتعين على الأطراف الفاعلة الرئيسة استخدام نفوذها لضمان عدم احتكار "هيئة تحرير الشام" للعملية أو فرض رؤيتها بشكل أحادي.
تتجاوز تداعيات الانتقال في سوريا حدودها الجغرافية، إذ إن تحقيق انتقال ناجح لن يحقق فقط آمال الملايين من السوريين الذين تحملوا معاناة هائلة من أجل مستقبل أكثر إشراقا، بل سيضع أيضا الأساس للاستقرار في المنطقة بأكملها. أما الفشل في اتخاذ إجراءات حاسمة، فقد يغرق سوريا في حالة من عدم اليقين الطويلة، ويحرم شعبها من السلام الذي يحتاجونه بشدة.
لقد قام السوريون بدورهم، وتحملوا سنوات من المعاناة وفي النهاية أسقطوا النظام الذي قمعهم. الآن تقع المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي وحلفائه الإقليميين للقيام بدورهم. وهم يستطيعون بالفعل- من خلال ضمان أن تكون هذه الفترة الانتقالية شاملة وديمقراطية وشفافة- أن يساعدوا السوريين على تحقيق المستقبل الذي طالما حلموا به- مستقبل يتسم بالعدالة والاستقرار والأمل.
هي فرصة تاريخية ولا ينبغي للعالم أن يضيعها.