سوريا... من الثورة إلى الدولة

القيادة الجديدة قدمت رؤيتها لمستقبل البلاد وتواصل تقديم الرسائل والتطمينات

سوريا... من الثورة إلى الدولة

بشار الأسد صار من الماضي وعائلة الأسد في محكمة التاريخ خصوصا ما يتعلق بالمساءلة والمحاسبة عن الجرائم والانتهاكات. عشرة أيام فقط مرت على فرار الأسد وسقوط منظومته بعد 11 يوما هزت سوريا والاقليم، لكنها تبدو للسوريين كأنها دهر. آلام مشاهد السجون والزنازين و"المسلخ البشري" في صيدنايا، ثقيلة. نزول الملايين إلى ساحات المدن للاحتفال بـ"جمعة النصر"، احتفالي.

انتهت "جمهورية الكابتاغون". الآن، بإمكان السوريين التفرغ إلى طرح الأسئلة الكبرى ومعالجة التحديات الكبيرة وما أكثرها خصوصا تلك التي تركتها المنظومة. ولعل المعادلة الأساسية حاليا، هي ما قاله أحمد الشرع، قائد العمليات، من أن الثورة السورية انتصرت، لكن لا يجب أن تُقاد سوريا بعقلية الثورة، بل بعقلية الدولة.

عندما واصل قادة طهران قيادة البلاد بـ"عقلية الثورة"، باتت إيران عبئا على شعبها وجيرانها لعقود كثيرة. سوريا ليست إيران، لكن لا بأس من الإفادة من تجارب الخصوم. الأمر المبشر أن قادة دمشق الجدد بادروا مبكرا لاستعجال الانتقال من "الثورة" إلى "الدولة"، بل إن واقع الحال أنه منذ بدء معركة "ردع العدوان"، حرص قادة العمليات العسكرية على إرسال رسائل مطمئنة: التمسك بمؤسسات الدولة، المحاسبة وعدم الانتقام، وحماية حقوق وطقوس الأقليات، حماية الملكيات الخاصة والعامة، الإبقاء على آلة الحكومة. ولا خلاف أن تمسك المقاتلين بهذه المبادئ، قولا وفعلا، سهل عليهم السيطرة على حلب ثم حماة ثم حمص وصولا إلى دمشق وهروب الأسد.

أسقطت المعارضة النظام بأقل كلفة دموية بينما دفع السوريون أثمانا باهظة لتمديد إقامة بشار الأسد لعقد من الزمن. حرقت البلد وبقي الأسد مؤقتا. ولا شك أن المبادئ التي طرحتها "إدارة العمليات"، فتحت لهم المدن والقرى التي كانت تنتظر التغيير وقد أرهقت من حرب فرضها النظام عليها لـ14 سنة.

أمامنا تجربة العراق عندما تحول تفكيك الجيش والأمن إلى عراق ما بعد صدام حسين كابوسا للعراق ووقودا لجيرانه

لكن ما هي التحديات والأسئلة أمام الحكم الجديد؟

أولا، العلاقة مع تل أبيب، قوات إسرائيل توغلت في المناطق العازلة في الجولان ووصلت إلى قرب دمشق واحتلت قمة جبل الشيخ ودمرت جميع السلاح الاستراتيجي السوري، طائرات وسفنا ومصانع ومخابر ومطارات. عمليا باتت سوريا منزوعة السلاح. كيف يمكن اتخاذ موقف وطني دون خوض حروب جديدة ومبكرة؟

ثانيا، "فلول النظام" ومؤسسات الدولة. منذ وصول "هيئة تحرير الشام" إلى دمشق حرصت على إجراءات الانتقال السلس من حكومة النظام السابق. تسلم واستلام بينها وبين "الحكومة الموقتة". وطلبت من جميع العاملين والمدارس العودة إلى العمل الطبيعي. لكن كيف يمكن الحفاظ على مؤسسات الدولة ومساءلة المجرمين؟ كيف يمكن قطع الطريق أمام سعي دول خاسرة من التغيير، مثل إيران، من الاستثمار في "فلول النظام" وتجنيدهم في معارك مستقبلية؟

ثالثا، الجيش وأجهزة الأمن. بمجرد اقتراب إدارة العمليات العسكرية من دمشق في 7 ديسمبر/كانون الأول، سرحت قيادة الجيش عناصرها وهرب عناصر أجهزة الأمن. وهناك خطة لتفكيك أجهزة الأمن وبناء جيش سوري جديد. لكن كيف يمكن القيام بذلك من دون ترك عشرات آلاف العناصر ليكونوا وصفة للتطرف والهجمات المضادة؟ أمامنا تجربة العراق عندما تحول تفكيك الجيش والأمن إلى عراق ما بعد صدام حسين، كابوسا للعراق ووقودا لجيرانه.

كيف يمكن توفير متطلبات السوريين وحاجاتهم أمام الواقع: سوريا مدمرة وثرواتها منهوبة وتحت سيف العقوبات؟

رابعا، الأكراد. بالفعل هناك فرق بين الأكراد السوريين و"حزب العمال الكردستاني". يمكن حل مشكلة أكراد سوريا وتوفير حقوقهم في البلاد، لكن لا يمكن حل مشكلة "العمال الكردستاني" التركي في سوريا. هناك بوادر برفع الادارة الذاتية "علم الثورة" فوق مؤسساتها واعتراف دمشق بالاكراد مكونا من الشعب. كيف يمكن الحوار بين دمشق والقامشلي للوصول إلى علاقة جديدة: إدارة ذاتية من دون تقسيم سوريا؟ كيف يمكن ضم "قوات سوريا الديمقراطية" إلى الجيش السوري الجديد؟ آليات استعادة السيادة والحدود؟

خامسا، الاقتصاد. منظومة الفساد سرقت ثروات البلاد ما بقي من ثروة نفطية وغازية ومائية هي تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية". سوريا تحت عقوبات غربية وقبل أيام جرى تمديد "قانون قيصر" في الكونغرس الأميركي. بعد الانتهاء من أفراح إسقاط النظام، سيبحث السوريون عن الكهرباء والطعام والدواء والخدمات. الفاتورة كبيرة والقائمة طويلة. الوعود بزيادة الرواتب 400 في المئة أمر جيد. لكن كيف يمكن توفير متطلبات السوريين وحاجاتهم أمام الواقع: سوريا مدمرة وثرواتها منهوبة وتحت سيف العقوبات؟

سادسا، هيئة الحكم. واضح أن الدول العربية والغربية والأمم المتحدة قبلت ورحبت بالتغيير المفاجئ في دمشق. وهي مستعدة لدعم الحكم الجديد إذا شكل هيئة حكم انتقالية شاملة وجامعة تضم المكونات كافة. والدول مستعدة لرفع العقوبات وإلغاء تصنيف "هيئة التحرير" كتنظيم إرهابي إذا تعاونت في خطوات معينة تشمل إشراك جميع القوى السياسية والعسكرية. هل مرجعية التحول في القرار 2254؟ هل القرار لايزال صالحا ام ان الواقع نسف بعض بنوده؟

لا شك أن القيادة الجديدة وليدة هموم السوريين ومعجونة بآلامهم وآمالهم. رهانهم الانتقال معا من "الثورة" إلى "الدولة"... بعد سقوط المنظومة

الأمر المطمئن أن الحكومة المؤقتة موجودة إلى بداية مارس/آذار فقط. هي بالفعل نجحت في إدارة إدلب، لكن إدارة سوريا من دمشق مسألة أكثر تعقيدا. وواضح أن الاتصالات جارية لتشكيل الهيكلية التي ستقود المرحلة الانتقالية بعد 1 مارس.

سابعا، الفصائل. لا شك أن الفصائل المسلحة أظهرت شجاعة وتنظيما غير مسبوقين، بإسقاطها الأسد ومنظومة في 11 يوما من عاصفة كانت أقرب إلى المعجزة. وبينما كانت "إدارة العمليات" تتقدم من حمص إلى دمشق دخلت غرفة عمليات الجنوب إلى العاصمة. بعد الانتصار الكبير، هناك تحدي الانضمام إلى جيش سوريا الجديد وبناء هيكلية جيش دولة وليس فصائل، أي حل جميع الفصائل وإبقاء السلاح فقط بأيدي الدولة.

ثامنا، العلاقات الخارجية. أول وفد أجنبي زار دمشق بعد التغيير كان وفدا حكوميا تركيا. أنقرة استأنفت نشاطاتها الدبلوماسية في دمشق بعد تجميدها في 2012. وواضح أن تركيا لعبت دورا في دعم تغيير الأسد. لكن التحدي، هو الحفاظ على توازن موقف سوريا بين الأقطاب الإقليمية والعمق العربي. كيف سيكون مستقبل القاعدتين الروسيتين في طرطوس واللاذقية؟ وما مستقبل القوات الأميركية الداعمة لـ "قوات سوريا الديمقراطية"؟

تاسعا، التطرف. لايزال خلايا "داعش" تنتشر في البادية السورية وجيوب أخرى. ينتعش هذا التنظيم في الفراغ ويتمدد في الظلام وغالبا ما يعرض "خدماته" على الطامحين في بث الفوضى والانتقام في الداخل والخارج.

يجب ألا ننسى ان عمر التغيير لم يتجاوز بضعة أيام دون أن ننسى أهمية التأسيس في هذه الأيام. لا خلاف أن القيادة الجديدة تعرف هذه التحديات وفيها كفاءات. لا شك أن القيادة قدمتها رؤيتها لمستقبل البلاد منذ بدء المعركة في حلب، وهي تواصل تقديم الرسائل والتطمينات. لا شك أنها وليدة هموم السوريين ومعجونة بآلامهم وآمالهم. رهانها ورهانهم الانتقال معا من "الثورة" إلى "الدولة"... بعد سقوط المنظومة.

font change