رواية أفريقية تغوص في عوالم الديكتاتورية: سخرية سوداء

"ساحر الغراب" لنغوجي واثينغو

نغوجي واثينغو وروايته "ساحر الغرب"

رواية أفريقية تغوص في عوالم الديكتاتورية: سخرية سوداء

بات ملازما لتناهي نشاز كلمة الديكتاتور إلى المسامعِ تردّدُ صداه في الذاكرة الروائية، بما راكمه أدب أميركا اللاتينية بشكل طليعيّ، بالنظر إلى منجز روايات رسمت بتفوّق وحرفية بورتريهات للديكتاتور في أوفى وأفدح صوره، انطلاقا من الاشتغال سرديا على شخصيته الطاغية وعوالمه الاستبدادية بالحفر المزدوج من الداخل والخارج، وفي طليعة هذه الروايات المرجعية التي تناولت بجسارة شخصية الديكتاتور رواية "السيد الرئيس" لميغيل أنخل أستورياس، ورواية "خريف البطريريك" لغبريال غارثيا ماركيز، ورواية "حفلة التيس" لفارغاس يوسا.

في حين لا نلتفت إلا نادرا إلى منجز روايات قارات أخرى، لا تقلّ إبداعية وجسارة في التصدي التخييلي لشخصية الديكتاتور، بل وعانى مبدعوها من أفدح أشكال الاعتقال والترهيب والنفي من طرف استبداد هؤلاء، ومع ذلك لم تستطع وحشية التعذيب وبطش الإسكات من ردع روائيّيها عن شجاعة وأمانة الكتابة عن تجارب بلدانهم الغارقة في ظلمات الديكتاتوريات المتعاقبة، إن بمنحى واقعي وتاريخي أو بمنحى تخييلي وفانتازي، ومنها منجز القارة الأفريقية كما نرصدها في ألمع نموذج على سبيل المثل لا الحصر، من خلال رواية "ساحر الغراب" للروائي الكيني نغوجي واثينغو.

صدرت رواية "ساحر الغراب" عام 2006 وهي مكتوبة أصلا بلغة محلية تدعى الكيكويو، قبل أن يترجمها الكاتب بنفسه إلى اللغة الإنكليزية، ويمكن تصنيفها ضمن الروايات الماراثونية الإيقاع. وهي ذات نفس ملحمي أو باروكي، خصيصتها اللافتة تعدّد اللغات وإن يجنح فيها الروائي إلى توظيف تقاليد السرد الشفاهي، فضلا عن تعدد الطبقات السردية والشخصيات وتشعب العوالم جغرافيا وإنسانيّا.

ما يسترعي الانتباه أكثر، هو أن وقائع الرواية الفانتازية تدور في جمهورية متخيلة تدعى أبوريرا الحرة، وهي مستعمرة بريطانية سابقة يحكمها ديكتاتور غريب الأطوار يُنعت في المجريات الحكائيّة بالحاكم من فرط استفراده بالحكم، حتى ما عاد يذكر التاريخ الذي اعتلى فيه العرش إذ لا همّ له سوى تأبيد سلطته ومطّ أمجاده المزعومة على حساب مأساة شعبه، وحول سلطته المستبدة يجمع زمرة من الوزراء المتملقين والمستشارين الرعناء، يتبارون في ما بينهم كيما ينال الواحد منهم استحسان الطاغية ورضاه، فمنهم الجشع والمنافق والمخادع ومعظمهم طاعنٌ في الجهل. أبرز هؤلاء المتنافسين هما ماشوكالي وسيكيوكو، الأوّل قام بعملية جراحية بتوسيع عينيه حدّ صارا بحجم مصباحين حتى يرى على نحو أفضل مترصدا ومراقبا كل ما هو مشبوه من الخونة المتآمرين ضد النظام، معجلا بإخبار الحاكم المريب، والآخر قام بعملية تكبير أذنيه حتى صارا بحجمي أذني أرنب حتى يلتقط الهسيس من اللغط، ويخبر بدوره الحاكم المريب عما يُحاك سرّا من خصومه مما يهدّد طمأنينة الحكم واستمراريته، وثالثٌ أخرق يطيل حجم لسانه لكي يردّد خطابات الحاكم المريب حتى تصل القاصي قبل الداني. على هذا النحو تسلك الرواية مسلك سخرية سوداء تجمع بين ما هو عبثي وما هو روحي وميتافيزيقي أيضا مع ظهور شخصية ساحر الغراب لاحقا.

تدور وقائع الرواية الفانتازية في جمهورية متخيلة تدعى أبوريريا الحرة وهي مستعمرة بريطانية سابقة يحكمها ديكتاتور غريب الأطوار


برج نحو السماء


تنعطف الرواية بشكل حادّ أو تحدث طفرتها التخييلية والدرامية في آن، مع تقدم ماشوكالي لمناسبة عيد ميلاد الحاكم تكريما له، مقترِحا مشروع بناء خرافي لتعزيز هيبة الحاكم وأبوريرا معا: تشييد برج مشرئب حدّ السماء أطلق عليه اسم "الزحف نحو السماء" حتى يتمكن الحاكم من الكلام مع الإله مباشرة، وهذا ما سيحتاج إلى تمويل من البنك العالمي.

أحدث هذا المشروع الفاشل صخبا مستفحلا في البلاد، الأمر الذي أجبر عشرات الآلاف من سكان أبوريرا على الزحف والتجمع أمام مكتب رئيس لجنة البناء المدعو تاجيريكا، وهو تلميذ لماشوكالي، وفي غضون ساعات معدودة يتشكل طابوران لانهائيان على نحو طارئ: الأول يضم رجال أعمال يرتدون البدلات الرسمية ويسعون إلى الحصول على عقود بناء البرج البابلي ولا يجدون حرجا في دفع الرشاوى من أجل ذلك، والطابور الثاني يضم شريحة فقراء يائسين في حاجة إلى العمل، مما جعل السكرتيرة نياويرا تضع لافتة للحدّ من ذلك: لا توجد وظائف شاغرة.

غلاف رواية "خريف البطريرك".

تطفو شخصية كاميتي الذي يبحث عن عمل بلا جدوى بعد عودته من الهند بدرجة الماجستير في إدارة الأعمال، عندما تقدّم بطلب في مكتب شركة البناء التابعة لتاجيريكا وقام هذا بإجراء مقابلة معه، لكن فقط لإذلاله من خلال جعله يثبت كفاءته في اللغة الإنكليزية عبر قراءة اللافتة: لا توجد وظائف شاغرة.

غلاف رواية "حفلة التيس".

تتعاطف نياويرا سكرتيرة تاجيريكا مع كاميتي، ويتضح في ما بعد أن نياويرا راديكالية سياسية وناشطة في مجال حقوق المرأة، إذ يلتقيان أثناء هروبهما من شرطي بعد تظاهرة احتجاج على سياسات البنك العالمي، غير أن الشرطي سيفقد أثرهما في الضاحية حين تستدرج نياويرا كاميتي إلى بيت ويهتدي كاميتي إلى حيلة طارئة للتخلص من الشرطي واضعا لافتة على البيت بعنوان "ساحر الغراب" من أجل تخويفه، وهذا ما انطلى على الشرطي الذي حسبهما فعلا من الشياطين. أرسلهم ساحر الغراب كي يخادعاه ويلقيا به إلى مصير موت تراجيدي، فظن نفسه مسحورا. مع عودته إلى المدينة يشرع الشرطي في نشر أسطورة ساحر الغراب التي ذاع صيتها في وقت وجيز، فيغدو ساحر الغراب مقدسا وملعونا في آن، فما يحدث من ظواهر غامضة هي من محض معجزاته، وما يحدث من وقائع مميتة بشكل خارق هي من محض شرّه المبين، ثمّ يعود الشرطيّ في وقت لاحق، بانقياد وخنوع، كعميل يدفع المال ويطلب المشورة الخفية من ساحر الغراب. وفي المقابل تسيطر الخدعة على حياة كاميتي ونياويرا، إذ يتعين عليهما أن يتعاملا ليس فقط مع أسطورتهما التي بدأت كنكتة وتحولت إلى نمط روحي، بل مع الطوابير الطويلة التي تتشكل خارج باب منزلهما كل يوم، بل وأيضا مع مكائد الحاكم المصاب بجنون العظمة ووزرائه المتملقين، الذين يتوق كل منهم، لأسباب خاصة به، إلى الاستفادة من سحره.

يعري نغوجي واثينغو الديكتاتور في غرفة تحميض لاذعة، مفصحا بتخييل جارح وملحمي، عن بهلوانيته وعتهه في آن


انتفاخ

يسافر الحاكم وماشوكالي إلى نيويورك للقاء مدير البنك العالمي، وعندما لا يحشد الدعم المالي المطلوب، يصاب بمرض مزمن منتفخا مثل البالون مع فقدان الكلام، فيستدعي حارس الغراب إلى أميركا لكي يعالجه. ينجح كاميتي في إعادة قدرة الحاكم الى الكلام، متحدثا لمدة سبعة أيام دون توقف، وخلال هذا الوقت كان كاميتي نائما يحلم بأنه طائر يحلق في سماء القارة الأفريقية. يعود الحاكم إلى أبوريرا لكن منتفخا لا يزال كالبالون مما أثار تكهنات شبهة الحمل، كذلك يصاب تاجيريكا بمرض الوجع الأبيض. بحسب الرواية، تحتدم رغبته في أن يكون أبيض اللون وقويا وثريا.

غلاف رواية "السيد الرئيس".

هكذا تستأنف الرواية وقائعها الكاريكاتورية، إذ تختطف النساء تاجيريكا ويضربنه انتقاما منه لضربه زوجته، وتنتشر الشائعات حول تمرد نساء أبوريرا ضد أزواجهن، ويخشى الحاكم المنتفخ كالبالون من أن حق الرجال في حكم زوجاتهم قد اغتصب... وهكذا دواليك. حتى المحفل الذي يحكي فيه ساحر الغراب حلمه السابق حينما حلق في سماء أفريقيا صادحا بإشارة تأويلية إلى البلاد الحبلى بالتغيير المقبل على مقاس انتفاخ الحاكم، متأرجحة بين الشر والخير.

AFP
الديكتاتور روبرت موغابي رئيس زيمبابوي الأسبق.

 بهذا التدوير الساخر، يعري نغوجي واثينغو الديكتاتور في غرفة تحميض لاذعة، مفصحا بتخييل جارح وملحمي، عن بهلوانيته وعتهه في آن، غرائبيته الكوميدية وهشاشته الفاضحة، عظمة جنونه وامتلائه الأجوف، مع حشد روائح مستنقع فساده المستشري، الناهض على فساد طغمته من أزلامه الضالعين في المكائد بغية إرضاء طاغيتهم على حساب مأساة شعب منهوب أدنى الحقوق والحريات، مع استفحال الاستعمار الجديد لمنظومة الإقراض الطوفانية، وتفاقم سرطان الشركات المتعددة الجنسية الجارفة لثروات البلاد.

ما أشبه حاكم أبوريريا بشخصيات مستبدّة وفق حوارات نغوجي واثينغو، مثل موي في كينيا، وموبوتو سيسي سيكو في زائير، وفرديناند ماركوس في الفيليبين، وأوغستو بينوشيه في تشيلي. وما أشبه رواية "ساحر الغراب" بموجز لتاريخ أفريقيا في سياق 2000 عام من تاريخ العالم.

font change

مقالات ذات صلة