”إنه الاقتصاد يا غبي“... مفتاح تفسير خسارة الديمقراطيين الانتخابات
لماذا لم تصوت المجموعة العرقية لصالح هاريس و"الديمقراطيين"؟
”إنه الاقتصاد يا غبي“... مفتاح تفسير خسارة الديمقراطيين الانتخابات
لم يعد الرئيس الأميركي الأسبق غروفر كليفلاند الاستثناء الوحيد بين الرؤساء الأميركيين. فقبل فوز دونالد ترمب في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، كان كليفلاند يحتل مكانة فريدة في تاريخ الانتخابات الأميركية باعتباره الرئيس الوحيد المنتخب لفترتين غير متتاليتين. ففي عام 1884 أصبح الرئيس الثاني والعشرين، ثم في عام 1892 الرئيس الرابع والعشرين بعد خسارته المنافسة الرئاسية بين الدورتين. وعلى غرار ترمب، فاز كليفلاند بالنصر متغلبا حتى على فضيحة جنسية زعمت أنه أنجب طفلا خارج إطار الزواج. وقد سخر منه خصومه بهتافات "ماما، ماما، أين أبي؟"، فرد عليهم أنصاره بعد النصر: "ذهب إلى البيت الأبيض، ها ها ها".
يحب الأميركيون أن يروا في انتخاباتهم الرئاسية لحظات فارقة في تاريخ الأمة الأوسع. وقد تكون تفسيرات كهذه في محلها أحيانا. مثلا فوز ريتشارد نيكسون بالرئاسة عام 1968، ثم إعادة انتخابه عام 1972 (وهو أيضا مثل ترمب خاض ثلاثة انتخابات وطنية، خسر أولاها في عام 1960).
ففي عصر حركة الحقوق المدنية وسخط الأميركيين السود على نطاق واسع في الستينات بسبب قرون من التمييز، تبنى نيكسون والجمهوريون ما بات يعرف باسم "الاستراتيجيا الجنوبية"، التي تضمنت استخدام لغة مشفرة، مثل تأكيد "القانون والنظام" والادعاء بتمثيل "الأغلبية الصامتة"، لكسب أصوات الناخبين من الطبقة العاملة البيضاء، ولا سيما في الولايات الجنوبية الأميركية، التي اعتادت تقليديا على التصويت لصالح الحزب الديمقراطي. قبل أن تتغلب النزعة العنصرية المنتشرة بين هؤلاء الناخبين البيض ونفور كثر منهم من منح الأميركيين السود مزيدا من الحقوق على ولائهم السابق للحزب الديمقراطي.
مثّلت التركيبة السكانية في أذهان بعض الديمقراطيين قدَرا لا مفر منه. فجهود الجمهوريين لاستغلال عنصرية الناخبين البيض كما في الماضي، في أمة متعددة الثقافات ينحدر فيها عدد السكان البيض، لا بد أن تنفر حتما غالبية السكان الأميركيين الذين يزدادون تنوعا
وقد حلّل كيفن فيليبس، الذي عمل في حملة نيكسون، وساعد في تطوير "الاستراتيجيا الجنوبية"، هذا التحول في أنماط التصويت في كتابه "الأغلبية الجمهورية الناشئة"، شارحا النهج الفعال، ولكن الفظ، من الناحيتين الاجتماعية والأخلاقية في التعامل مع السياسة الرئاسية الأميركية، وهو النهج الذي سمح للجمهوريين بالفوز بخمسة من الانتخابات الرئاسية الستة التالية بدءا من عام 1968. وفي الواقع لم يحقق الديمقراطيون الفوز بأغلبية الناخبين البيض على المستوى الرئاسي منذ فوز ليندون جونسون عام 1964.
تغير التركيبة السكانية
بيد أن التركيبة السكانية في الولايات المتحدة أخذت في التغير، إذ انخفضت النسبة المئوية للأميركيين البيض الذين شكّلوا قاعدة الجمهوريين من إجمالي السكان. وتشير التوقعات بالفعل إلى أنه بحلول عام 2045، سوف يمثل الأميركيون البيض أقل من نصف سكان البلاد. وقد أدى هذا الاتجاه الديموغرافي في القرن الحادي والعشرين إلى ظهور مفهوم "الأغلبية الديمقراطية الدائمة"، حيث سيهيمن الديمقراطيون على الانتخابات المستقبلية، مما يجعل الجمهوريين حزب الأقلية. وازدادت قوة هذه الفكرة مع صدور كتاب "الأغلبية الديمقراطية الناشئة" في عام 2002، للكاتب الصحافي والعالم السياسي جون جوديس، الذي جادل بأن التغيرات الديموغرافية ستصب في صالح الديمقراطيين.
وقد ظهرت أدلة واضحة تدعم أطروحة هذا الكتاب على المستوى الرئاسي: فمنذ انتخابات عام 1992 التي أوصلت بيل كلينتون إلى الرئاسة أول مرة، وإلى انتخابات عام 2020 التي فاز جو بايدن فيها، جرت ثمانية انتخابات رئاسية، ومع أن الجمهوريين فازوا بثلاثة منها بفضل تقلبات نظام المجمع الانتخابي الأميركي، فإنهم لم يحصلوا على أكثر من 50 في المئة من الأصوات إلا مرة واحدة عام 2004.
موت "المصير الديموغرافي"
مثّلت التركيبة السكانية في أذهان بعض الديمقراطيين قدَرا لا مفر منه. فجهود الجمهوريين لاستغلال عنصرية الناخبين البيض كما في الماضي، في أمة متعددة الثقافات ينحدر فيها عدد السكان البيض، لا بد أن تنفر حتما أغلبية السكان الأميركيين الذين يزدادون تنوعا يوما بعد يوم. وفي المقابل، سيرسخ هذا النهج دعم الجمهوريين داخل الأقلية البيضاء المتراجعة، ويجعل الجمهوريين بالتالي أكثر اعتمادا على تأجيج التعصب والاستياء للحفاظ على هيمنتهم على هذه الفئة السكانية. وقد عزز انتصار باراك أوباما، وهو أول رئيس غير أبيض، في عامي 2008 و2012، فكرة أن تحولا دائما وجذريا في السياسة الانتخابية الأميركية كان قد بدأ بالفعل.
فكرة المصير الديموغرافي التي يتبناها الحزب الديمقراطي ماتت مع مجيء ترمب. وبدأ هذا التلاشي في عام 2016، على الرغم من أن البعض اعتبروا تلك الخسارة مجرد حادثة عابرة
إلا أن فكرة المصير الديموغرافي التي يتبناها الحزب الديمقراطي ماتت مع مجيء ترمب. وبدأ هذا التلاشي في عام 2016، على الرغم من أن البعض اعتبروا تلك الخسارة مجرد حادثة عابرة بسبب فوز ترمب عبر المجمع الانتخابي رغم خسارته في التصويت الشعبي أمام هيلاري كلينتون. وقتها، بدت رسالة ترمب القائمة على النزعة القومية وتركيزه على الناخبين البيض غير الحاصلين على تعليم جامعي، بالنسبة الى الكثيرين، بمثابة الصدى الأخير لاستراتيجيا الجنوب، وليس بداية لعصر جديد في سياسات الحزب الجمهوري.
مع ذلك، كانت انتخابات 2020 هي التي أعطت المؤشر الأوضح الى نتيجة انتخابات 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. فعلى الرغم من خسارة ترمب في تلك الانتخابات ومحاولاته الطعن في النتائج، فإن النتيجة كانت أكثر تقاربا مما توقعه الكثيرون. وتمكن ترمب من جذب دعم متزايد من مجموعات غير تقليدية للناخبين الجمهوريين، وعلى الأخص بين الأميركيين السود وأكثر من ذلك بين الأميركيين من أصل لاتيني. على العموم، ارتفعت الأصوات المؤيدة له، مقارنة بعام 2016، على الرغم من نقاط ضعفه الواضحة كمرشح.
ولكن مع هذه الزيادات لصالح الجمهوريين، ظلت أغلبية ساحقة من الناخبين السود واللاتينيين مؤيدة للديمقراطيين. وأظهرت مكاسب ترمب أن خطابه القومي وفترته المضطربة في السلطة لم يكونا ضارّين بجاذبيته كما توقع الكثيرون في الأوساط الليبيرالية في أميركا.
التضخم والعمال
والآن ها هي نتيجة انتخابات 5 نوفمبر/تشرين الثاني تحدث زلزالا سياسيا. فقد كانت "الاستراتيجيا الجنوبية" جلية على الملأ إنما مع شيء من التغيير. فقد لعب ترمب بورقة النزعة القومية كما فعل في الماضي، مؤكدا تفشي الجريمة، التي ربطتها حملته بالهجرة غير الشرعية تحديدا، وبالهجرة عموما. وهذا ما يفسر هجومه في مناظرته مع كامالا هاريس على المهاجرين الهايتيين الشرعيين في ولاية أوهايو، الذين اتهمهم بأكل الحيوانات المنزلية الأليفة، وهو ما ألحق به قدرا كبيرا من السخرية. مع أن افتراءات ترمب الأخيرة ليست سوى نسخة من الافتراءات المعادية للمهاجرين التي كانت موجودة في الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر على الأقل.
الأهم كان تركيز حملة ترمب على مسألة التضخم وأثرها على حياة العمال الأميركيين، وهي رسالة لاقت صدى لدى شريحة واسعة من الناخبين، بمن فيهم من ينتمون إلى مجموعات لم تكن تصوت تقليديا لصالح الجمهوريين
بيد أن الأمر الأهم كان تركيز حملة ترمب على مسألة التضخم وأثرها على حياة العمال الأميركيين، وهي رسالة لاقت صدى لدى شريحة واسعة من الناخبين، بمن فيهم من ينتمون إلى مجموعات لم تكن تصوت تقليديا لصالح الجمهوريين. وحتى مع التركيز على الاقتصاد، كان هناك اتساق مع النزعة القومية في رسائل الجمهوريين: حيث مثل المهاجرون كبش الفداء المناسب لارتفاع التكاليف، وخاصة في مجال الإسكان. ويشير ارتفاع الدعم الذي لقيه الحزب الجمهوري في الولايات الديمقراطية التقليدية، مثل نيويورك ونيوجيرسي، إلى أن هذه الرسائل لاقت صدى لدى مجموعة واسعة من الناخبين.
لقد سمح الجمع بين الهجرة والاقتصاد لترمب، رجل الأعمال، بالاستفادة من نقاط قوته المفترضة: فقد كان يحذر من الحدود الجنوبية حتى قبل انتخابات عام 2016، كما كان التضخم خلال رئاسته أقل بكثير مما هو عليه في رئاسة جو بايدن. أما كون التضخم المرتفع مرتبطا في الواقع بعواقب الوباء وليس بسياسات محددة عانت دول غربية عديدة من ارتفاع الأسعار، بما فيها كندا والمملكة المتحدة، فأمر لم يكن مهماً عند الناخبين عندما يتعلق الأمر بظروفهم المادية.
لقد سمحت رسائل الاقتصاد والهجرة التي وجهتها حملة ترمب بأن يحافظ على الدعم التقليدي للجمهوريين في أوساط الناخبين البيض. وكان التحول الحقيقي في انتخابات 2024 هو نجاح ترمب بين الناخبين اللاتينيين. وللجمهوريين تاريخ بينهم، فجورج دبليو بوش، وهو آخر رئيس جمهوري يفوز بأغلبية الأصوات على المستوى الرئاسي، حقق أداء جيدا أيضا مع الناخبين اللاتينيين في عام 2004، إلا أن ترمب تفوق عليه في هذا المجال، إذ سجل رقما قياسيا جمهوريا بفوزه بـ45 في المئة تقريبا من أصواتهم.
والسبب الرئيس هو رسالته الاقتصادية، لكن تحذير ترمب من الهجرة غير المنضبطة وتأثيرها على الموارد، وجد أيضا استحسانا عند ناخبيه اللاتينيين الجدد. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن ثمة مخاوف بين اللاتينيين من ارتفاع تكلفة المعيشة والاقتصاد عموما والمخاوف المتزايدة حيال الهجرة.
غفلوا عن حقيقة سياسية كان قد صاغها بشكل ساخر جيمس كارفيل، وهو أحد الاستراتيجيين السياسيين الديمقراطيين، عندما كان يشرح عام 1992 جانبا أساسيا في استراتيجيا الفوز في الانتخابات الرئاسية، فقال مازحا: "إنه الاقتصاد، يا غبي"
يشكل انتصار ترمب رسالة مقلقة للغاية الى الحزب الديمقراطي. فقد تزعزعت بشكل كبير القناعة الراسخة بأن المجموعات العرقية المختلفة ستصوت باستمرار ككتلة موحدة لصالح الديمقراطيين. فالتنوع في أميركا ليس ديموغرافيا فحسب، بل هو سياسي أيضا.
ولعل الديمقراطيين، بتركيز سردية انتخابات 2024 على الاخطار التي يشكلها ترمب على الديمقراطية والمجتمع المدني، غفلوا عن حقيقة سياسية كان قد صاغها بشكل ساخر جيمس كارفيل، وهو أحد الاستراتيجيين السياسيين الديمقراطيين، عندما كان يشرح عام 1992 جانبا أساسيا في استراتيجيا الفوز في الانتخابات الرئاسية، فقال مازحا: "إنه الاقتصاد، يا غبي".