التضليل يشوب هجوم "الدعم السريع" على "مخيم زمزم"

استغلال "المناصرة الإنسانية" في قتل المدنيين والتحريض ضدهم

رويترز
رويترز
أطفال سودانيون نازحون يقفون في مخيم زمزم في شمال دارفور بالسودان، 1 أغسطس2024

التضليل يشوب هجوم "الدعم السريع" على "مخيم زمزم"

في الحروب، لا تقتصر مسببات الفظائع على كونها نتيجة لإطلاق الأسلحة وتنفيذ الأوامر، بل غالبًا ما يتم التمهيد لها بالمعلومات المضللة والسرديات المتواطئة. وتعد الهجمات الوحشية المستمرة التي تشنها "قوات الدعم السريع" حالياً على "مخيم زمزم" للنازحين هي دليل مأساوي على هذه الحقيقة.

إن التلاعب المتعمد في توجيه المناصرة الإنسانية لخدمة الأطراف العسكرية، بمحاولة تصوير المناطق المدنية الآمنة كأهداف عسكرية، هو خيانة صارخة للمبادئ الإنسانية، التي ينبغي أن تحكم دور المجتمع المدني. بالنسبة للشعب السوداني، فإن هذه الخيانة تترك جرحًا أكثر عمقاً، حيث تؤدي إلى تقويض الثقة في السلطة الأخلاقية لمنظمات المجتمع المدني، بالإضافة الي تعميق المأساة الإنسانية الناجمة عن الحرب.

على مدى عقود، وفي ظل حكم الرئيس المخلوع البشير، تصدى المجتمع المدني السوداني بشجاعة لمحاولات تقويض نزاهته. وقد ارتكز في هذا على تمسكه بالقيم المدنية وحقوق الإنسان، وظل منحازاً إلى جانب الدفاع عن الناس في دارفور وجنوب السودان، وجبال النوبة والنيل الأزرق وبقية أنحاء السودان، بينما كان يواجه أيضًا الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في وسط السودان. هذا الالتزام الثابت بمبادئه مكّن المجتمع المدني السوداني من الصمود أمام جهود النظام الممنهجة لتشويهه، وتخريب فعالياته.

إلا أن النزاع الحالي شهد استخدام "قوات الدعم السريع" وحلفائها السياسيين تكتيكات تراوحت بين الرشوة المادية والمعنوية، ونشر السرديات الزائفة، والتدخل الانتهازي لمانحين دوليين، تحت تأثير أجندات سياسية، حيث أدى تداخل هذه الأجندات، مصحوبًا بفوضى الحرب والانقسام والاستقطاب العميقين الناتج عنها، إلى خلق عاصفة مثالية، أثرت بشكل كبير على أسس المجتمع المدني التي كانت مستقرة في السابق.

تشهد الأحداث التي سبقت الهجوم على "مخيم زمزم" على هذه المأساة. يقع "مخيم زمزم" على بعد 15 كيلومترًا جنوب الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، وهو موقع شاسع يستضيف أكثر من نصف مليون نازح داخليًا. لسنوات طويلة، كان هذا المخيم ملاذًا للناجين من فظائع دارفور. وعلى مدى الأشهر التسعة الماضية، أدت الهجمات المستمرة لـ"قوات الدعم السريع" على مدينة الفاشر إلى نزوح عشرات الآلاف إلى المخيم، مما زاد من الضغط على موارده المحدودة.

يقع مخيم زمزم على بعد 15 كيلومترًا جنوب الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، وهو موقع شاسع يستضيف أكثر من نصف مليون نازح داخليًا

وفي أغسطس/آب 2024، تم إعلان المجاعة رسميًا في المخيم، ليصبح الموقع الوحيد عالميًا الذي شهد إعلان المجاعة هذا العام. لكن بدلاً من توفير الحماية والمساعدات، تعرض سكان المخيم لرعب الهجمات والقصف من "قوات الدعم السريع" في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2024.

وأكد تقرير لـ"مختبر البحوث الإنسانية" بـ"جامعة ييل" وقوع هجمات على "مخيم زمزم" في الفترة من 1-3 ديسمبر/كانون الأول 2024. ولا تزال هذه الهجمات مستمرة حتى الآن. وكشفت صور الأقمار الصناعية عن أضرار كبيرة جراء القصف، بما في ذلك آثار ذخيرة بالقرب من منازل النازحين، وتصاعد الدخان الذي يشير إلى مزيد من الدمار. وأسفرت الهجمات عن مقتل وإصابة عشرات المدنيين داخل المخيم، بينما أُجبر العاملون في المجال الإنساني على الإجلاء تحت النيران.

رويترز
عناصر من "الدعم السريع" في أم درمان في 7 أبريل 2024

واستندت "قوات الدعم السريع" في تبرير هجومها إلى بيان مثير للجدل، تم توقيعه– أو نُسب زورًا– إلى عدة منظمات مجتمع مدني بارزة، ونُشر في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. وزعم البيان وجود دبابات وعربات عسكرية وطائرات مسيرة، وأسلحة متوسطة وثقيلة داخل المخيم دون تقديم أدلة داعمة. ونفى سكان المخيم هذه المزاعم، مؤكدين أنها لم تحدث. ومع ذلك، فإن الاتهامات التي وجهها البيان بشأن عسكرة "مخيم زمزم" مهدت الطريق لقصفه.

وقد نفت عشر منظمات مدنية، كانت مدرجة ضمن الموقعين على البيان، علاقتها به، وأصدرت توضيحات تنفي فيها تورطها في البيان المثير للجدل، ومن هذه المنظمات منظمة "عوافي السودانية"، و"هيئة محامي دارفور"، و"مجموعة الديمقراطية أولاً"، و"المركز الإقليمي لتدريب وتنمية المجتمع المدني"، و"شبكة الشباب المواطنين المراقبين"، و"مركز التنمية"، و"شبكة دارفور لحقوق الإنسان"، و"شبكة حقوق الإنسان والمناصرة من أجل الديمقراطية"، و"سودان بلا حدود"، و"تحالف القوى المدنية"، و"جمعية تنمية المجتمع".

نفت عشر منظمات مدنية، كانت مدرجة ضمن الموقعين على البيان، علاقتها به، وأصدرت توضيحات تنفي فيها تورطها في البيان المثير للجدل

ولكن في الحين نفسه، التزمت منظمات أخرى الصمت حيال وجود اسمها في البيان، ويعزز ذلك المؤشرات والأدلة على الاستغلال السياسي لاسم المجتمع المدني في مناصرة "الدعم". ومع ذلك، فإن تواطؤهم- سواء كان متعمدا أو إهمالا- يثير تساؤلات أخلاقية عميقة حول دور المناصرة في مناطق الصراع.

إساءة استخدام جهود المناصرة الجماعية والشعارات، ليست مجرد خيانة للثقة؛ بل تنطوي على عواقب وخيمة في الواقع الملموس، فتقديم "مخيم زمزم" على أنه منطقة عسكرية في البيان المثير للجدل، كان محاولة لمنح أفعال "قوات الدعم السريع" غطاءً من الشرعية، وهو ما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، وإجبار العاملين في المجال الإنساني على الإجلاء تحت وطأة الهجمات، وأسفر الهجوم عن تعليق خدمات الإغاثة في مخيم يعاني أصلاً من آثار المجاعة.

وقد وصف أحد عمال الإغاثة المشهد المروع قائلًا:"سمعنا أصوات القصف في الجزء الجنوبي من المخيم، أصيب الناس بالصدمة والذعر، وسارعوا إلى الاختباء، وتبع ذلك سبع قذائف سقطت بسرعة متلاحقة، وفي اليوم التالي، استهدف القصف السوق والأجزاء الشرقية من المخيم. لم يعد هناك أي مكان آمن."

رويترز
خلال جنازة في مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور بالسودان، أغسطس 2024

لم يقتصر تسليح المناصرة على منح الشرعية للعنف، بل عمّق الأزمة الإنسانية، تاركًا عشرات الآلاف بلا مأوى، ولا طعام، ولا أمل.

المأساة التي شهدها "مخيم زمزم" ليست سوى صدى لتاريخ طويل من استخدام التضليل كسلاح في الحروب. ففي الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، استغل المتطرفون من قبائل "الهوتو" البث الإذاعي لتصوير "التوتسي" على أنهم تهديد للاستقرار الوطني، مما أثار موجة عنف غير مسبوقة. وبالمثل، في الفترة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق عام 2003، أدت ادعاءات زائفة حول أسلحة الدمار الشامل إلى تصوير العراق كتهديد عالمي، مما ساعد في خلق رواية كاذبة لتبرير قتل مئات الآلاف من المدنيين. كما لجأت الدعاية النازية إلى أسلوب "الكذبة الكبرى" أثناء الحرب العالمية الثانية لتصوير اليهود على أنهم خطر يهدد الأمة، مبررة بذلك الاضطهاد والجرائم المروعة التي ارتكبت بحقهم.

الاعتماد المنهجي على تسليح الروايات ونشر التضليل لقمع المعارضة، وتشويه الحقيقة وإضفاء الشرعية على الاستبداد يعكس السمات الجوهرية للنزعات الفاشية. فالجماعات الفاشية تعزز سلطتها ليس فقط باستخدام القمع والعنف، بل أيضًا عبر تشكيل التصورات والمعتقدات العامة بشكل استراتيجي لضمان توافقها مع مصالحها، وبالتالي كسب موافقة أوسع من المجتمع لسلطتها.

في السودان، ومنذ اندلاع الحرب، أصبح هذا الأسلوب مألوفًا بشكل مثير للقلق. فقد عمدت "قوات الدعم السريع" وحلفاؤها إلى استغلال التضليل بشكل ممنهج لتبرير الفظائع التي ترتكبها. فعلى سبيل المثال، في ولاية الجزيرة، تم تجريم محاولات الدفاع عن النفس في المناطق الريفية ضد عدوان "قوات الدعم السريع"، واعتُمد هذا السرد لتبرير مذابح مثل "مذبحة واد النورة" وغيرها، من خلال تصوير المدنيين كـ"مقاتلين" فقط لأنهم سعوا للدفاع عن أنفسهم، لا يبرر خطاب "قوات الدعم السريع" أفعالها الوحشية فحسب، بل يسعى أيضًا إلى إسكات الأصوات المعارضة، حيث يمكن تصنيف أي مقاومة على أنها "تهديد أمني".

هذه الاستراتيجية لا تهدف فقط إلى كسب المعارك العسكرية؛ بل تسعى أيضًا إلى إعادة تشكيل الإطار الأخلاقي للصراع، بحيث تبدو الفظائع وكأنها أفعال ضرورية، بل ومبررة أخلاقيًا

هذه الاستراتيجية لا تهدف فقط إلى كسب المعارك العسكرية؛ بل تسعى أيضًا إلى إعادة تشكيل الإطار الأخلاقي للصراع، بحيث تبدو الفظائع وكأنها أفعال ضرورية، بل ومبررة أخلاقيًا. وغالبًا ما يروّج لهذه الجهود أفراد أو جهات تستغل مكانتها الرمزية للتأثير على الرأي العام. ومع ذلك، فإن هذه الممارسات لا تسهم إلا في إدامة دوامات العنف وتعميق الأزمات.

في قلب أزمة "مخيم زمزم" يكمن فشل أخلاقي صارخ، فقد وضعت منظمات المجتمع المدني، التي يناط بها الدفاع عن حقوق وحماية الفئات الضعيفة، نفسها بدلاً من ذلك في صف ترويج الروايات التي تعرض الأرواح البريئة للخطر. سواء كان ذلك من خلال التورط الفعلي أو الصمت السلبي، فإن تواطؤها يستدعي المحاسبة والمراجعة الجادة.

مفهوم "تفاهة الشر" الذي طرحته حنة أرندت يوفر عدسة واقعية لفهم هذا السلوك. حذرت أرندت من أن الفظائع كثيرًا ما تسهم فيها مؤسسات وأفراد يعطون الأولوية للفعالية على حساب المسؤولية الأخلاقية، وفي سياق ما حدث في "مخيم زمزم"، فإن استعداد بعض القوى المدنية للتحالف أو الظهور وكأنها متحالفة مع رواية "قوات الدعم السريع" لا يعد مجرد خطأ في التقدير، بل هو خيانة للغرض الأساسي الذي تقوم عليه تلك القوى.

أما بالنسبة للمنظمات التي تلوثت سمعتها بتأييد البيان المثير للجدل، فإن هذه لحظة حاسمة للتأمل العميق. ما هو مغزى المناصرة التي تقدمونها إذا كانت تتماشى مع قصف المخيمات المدنية؟ وما هو الثمن الأخلاقي للصمت عندما يُستخدم اسمكم لتبرير الفظائع؟

بالنسبة لسكان "مخيم زمزم"، فإن خيانة هذه القوى المدنية ليست مجرد مسألة نظرية أو مجرد مفهوم تجريدي؛ بل هي مسألة حياة أو موت. فقد أجبرت أعمال العنف هؤلاء المدنيين على الفرار، وحرمتهم حتى من الحد الأدنى من الأمان. التلاعب بالمناصرة الإنسانية لم يتركهم فقط عرضة للهجمات الجسدية، بل جعلهم أيضًا يواجهون المخاطرة الكبرى بأن يتم تصويرهم كمقاتلين في ظل حرب لا تعرف التسامح. كما أن تسليح المناصرة الإنسانية ليس فقط يضعف مصداقية النظام الإنساني بشكل عام، بل يعقد من فرص حشد الدعم وحماية المدنيين في النزاعات المستقبلية. أولئك الذين كتبوا أو أيدوا البيان المثير للجدل يجب أن يكونوا عرضة للمسؤولية القانونية والأخلاقية.

بالنسبة للمنظمات التي تلوثت سمعتها بتأييد البيان المثير للجدل، فإن هذه لحظة حاسمة للتأمل العميق. ما مغزى المناصرة التي تقدمونها إذا كانت تتماشى مع قصف المخيمات المدنية؟ وما الثمن الأخلاقي للصمت عندما يُستخدم اسمكم لتبرير الفظائع؟

استغلال المناصرة الإنسانية لأغراض سياسية، يعود إلى أن النخب السياسية والدوائر الدبلوماسية النشطة في حرب السودان غالبًا ما تتجاهل الوضع الحرج، وتتفادى الإشارة إلى مرتكبي الانتهاكات بشكل صريح، وتمنحهم حصانة مؤسسية. وقد نتج ذلك عن الجهود الرامية إلى خلق وهم من التوازي والمساواة بين الطرفين المتقاتلين، بهدف تبرير التحالفات أو التقارب مع "قوات الدعم السريع". لكن الموقف الأخلاقي الذي يرفض الحرب لا يتطلب ذلك؛ بل يتطلب رفض الحرب بشكل كامل، وإدانة الانتهاكات التي ارتكبتها كل الأطراف، بما يتناسب مع حجم أفعالهم. أما محاولة التغول على جهود المناصرة الإنسانية وحماية المدنيين واستغلالها، مع التلاعب بخطاب وقف الحرب لتبرير انحياز واضح لـ"قوات الدعم السريع"، فهي تشكل جريمة توازي استخدام الأسلحة وإطلاق الذخائر، كما يتبين من تداعيات بيان "مخيم زمزم".

رويترز
مركبة مدمرة، بعد قصف من قبل قوات الدعم السريع، في أم درمان، السودان، 10 ديسمبر 2024

قال جون ستيوارت ميل: "قد يتسبب الإنسان في أذى للآخرين، ليس فقط بأفعاله ولكن أيضًا بإهماله."بالنسبة للمجتمع المدني السوداني، تمثل مأساة "مخيم زمزم" تذكيرًا صارخًا بهذا المبدأ. إن الصمت والتواطؤ ليسا مجرد أفعال محايدة؛ بل إنهما يعززان العنف ويسهمان فيه. الشعب السوداني يستحق أكثر من ذلك. يستحق مناصرة ترفع من شأنه ولا تعرضه للخطر، تحميه ولا تبرر العنف.

أما بالنسبة للشعب السوداني، فإن الطريق إلى السلام لا يكمن فقط في إنهاء الحرب، بل أيضًا في استعادة نزاهة المؤسسات التي كان من المفترض أن تحميهم. لندع مأساة "مخيم زمزم" المستمرة تكون اللحظة التي نلتزم فيها بأن لا يتكرر هذا أبدًا.

font change

مقالات ذات صلة