في الحروب، لا تقتصر مسببات الفظائع على كونها نتيجة لإطلاق الأسلحة وتنفيذ الأوامر، بل غالبًا ما يتم التمهيد لها بالمعلومات المضللة والسرديات المتواطئة. وتعد الهجمات الوحشية المستمرة التي تشنها "قوات الدعم السريع" حالياً على "مخيم زمزم" للنازحين هي دليل مأساوي على هذه الحقيقة.
إن التلاعب المتعمد في توجيه المناصرة الإنسانية لخدمة الأطراف العسكرية، بمحاولة تصوير المناطق المدنية الآمنة كأهداف عسكرية، هو خيانة صارخة للمبادئ الإنسانية، التي ينبغي أن تحكم دور المجتمع المدني. بالنسبة للشعب السوداني، فإن هذه الخيانة تترك جرحًا أكثر عمقاً، حيث تؤدي إلى تقويض الثقة في السلطة الأخلاقية لمنظمات المجتمع المدني، بالإضافة الي تعميق المأساة الإنسانية الناجمة عن الحرب.
على مدى عقود، وفي ظل حكم الرئيس المخلوع البشير، تصدى المجتمع المدني السوداني بشجاعة لمحاولات تقويض نزاهته. وقد ارتكز في هذا على تمسكه بالقيم المدنية وحقوق الإنسان، وظل منحازاً إلى جانب الدفاع عن الناس في دارفور وجنوب السودان، وجبال النوبة والنيل الأزرق وبقية أنحاء السودان، بينما كان يواجه أيضًا الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في وسط السودان. هذا الالتزام الثابت بمبادئه مكّن المجتمع المدني السوداني من الصمود أمام جهود النظام الممنهجة لتشويهه، وتخريب فعالياته.
إلا أن النزاع الحالي شهد استخدام "قوات الدعم السريع" وحلفائها السياسيين تكتيكات تراوحت بين الرشوة المادية والمعنوية، ونشر السرديات الزائفة، والتدخل الانتهازي لمانحين دوليين، تحت تأثير أجندات سياسية، حيث أدى تداخل هذه الأجندات، مصحوبًا بفوضى الحرب والانقسام والاستقطاب العميقين الناتج عنها، إلى خلق عاصفة مثالية، أثرت بشكل كبير على أسس المجتمع المدني التي كانت مستقرة في السابق.
تشهد الأحداث التي سبقت الهجوم على "مخيم زمزم" على هذه المأساة. يقع "مخيم زمزم" على بعد 15 كيلومترًا جنوب الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، وهو موقع شاسع يستضيف أكثر من نصف مليون نازح داخليًا. لسنوات طويلة، كان هذا المخيم ملاذًا للناجين من فظائع دارفور. وعلى مدى الأشهر التسعة الماضية، أدت الهجمات المستمرة لـ"قوات الدعم السريع" على مدينة الفاشر إلى نزوح عشرات الآلاف إلى المخيم، مما زاد من الضغط على موارده المحدودة.