هل علينا أن نصدق أسئلة القلقين على مستقبل سوريا؟https://www.majalla.com/node/323467/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%87%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%A7-%D8%A3%D9%86-%D9%86%D8%B5%D8%AF%D9%82-%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%82%D9%8A%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%9F
على الرغم من أن السؤال عما بعد سقوط نظام آل الأسد في سوريا سؤال مشروع بعد نحو ستين عاما من حكمه، وبعد 13 عاما من الحرب الأهلية، فإن هذا السؤال نفسه يتحول إلى سؤال فاقد لأي حس سياسي وأخلاقي، عندما يصدر عن دفاع ضمني عن النظام المخلوع، بحجة أنه كان "مضمونا" أكثر من المطيحين به.
في الواقع إن مجرد القبول بمناقشة حجة كهذه، يكاد يكون سقوطا أخلاقيا وسياسيا، فأن يبقى أحد يدافع عن هذا النظام، الذي لم يخطئ من وصفه بالنازي، ولم يخطئ من وصف معتقلاته بالمحارق التي أقامها النازيون ليهود أوروبا، أن يبقى أحد بعد كل هذه الصور والفيديوهات من سجن صيدنايا، الذي لا يماثل فظاعته سجن حول العالم في الـقرن الواحد والعشرين، فهذا يظهر حجم المشكلة السياسية والأخلاقية في بلداننا، والتي لا يختصرها أي انقسام سياسي، كما لو أن هذا الانقسام، يحصل على أجندات سياسية غير متفاوتة في تبنيها لسلم قيم سياسية واجتماعية، تتصدره المساواة القانونية للأفراد في حقوقهم الأساسية.
والمستغرب أن كثيرين ممن انتقلوا من ولائهم الأعمى للنظام، إلى التنصل منه لم يفعلوا ذلك بحجة ما اكتشفوه في معتقلاته، بل لأنهم اعتبروه متقاعسا ومتواطئا، وهذا سبب إضافي للتفكير في معايير الانحياز السياسي في بلداننا، وفي معاني السياسة والدولة والسلطة والعقد الاجتماعي، علما بأن مآسي السجون السورية لا يفترض أن تكون هي أول ما يستدعي الموقف من هذا النظام، إذ إن الموقف منه ينبغي أن يكون سابقا عليها بفعل الأدوات التي استخدمها على مدى نحو ستة عقود لحكم سوريا، وبالأخص منذ عام 2011 عندما قابل مطالب السوريين بالتغيير بالحديد والنار.
لذلك فإن سقوط نظام آل الأسد هو فرصة كبيرة وغير مسبوقة للسوريين- وللبنانيين والفلسطينيين أيضا، بحكم أنهم جميعا عانوا كلٌ في سياقه من سياسات هذا النظام، لإعادة بناء حياتهم بمعانيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بعد زمن طويل من تشويه السياسة والدولة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
الخائفون من المرحلة المقبلة ينسون أو يتناسون أو لا يدركون أساسا أن المستقبل كان معدوما في سوريا، طيلة حكم النظام المخلوع الذي لم يكن يسعى إلا إلى تأبيد الماضي
وإذا كانت رواسب الماضي في سوريا بعد كل هذا الظلم والحروب والتجويف للمجتمع السوري ثقيلة جدا، وسيكون البعض منها حاضرا حكما في المرحلة الانتقالية، فإن التحدي الأساسي أمام السوريين الذين ملأوا الساحات فرحا بسقوط الأسد، هو في تجاوز هذه الرواسب والعبور إلى واقع سياسي واجتماعي اقتصادي يتقاطع معها، ونجاح هذا المسار السوري لن تقتصر نتائجه على سوريا، بل سيشمل كل الحيز الجغرافي والسياسي الذي كان للنظام المخلوع تأثيرات كبيرة فيه، وهو ما سيحكم على إمكان إعادة صوغ السياسة ومرادفاتها في بلداننا من عدمها.
والحال فإن الخائفين من المرحلة المقبلة في سوريا ينسون أو يتناسون أو لا يدركون أساسا أن المستقبل كان معدوما في سوريا، طيلة حكم النظام المخلوع الذي لم يكن يسعى إلا إلى تأبيد الماضي، وتكراره بنسخ مأساوية، لا يدركون أن المستقبل السوري بدأ الآن، بدأ من لحظة فرح السوريين، بسقوط نظام آل الأسد الذي حكمهم 54 عاما، فأعاد هندسة المجتمع السوري بما يلائم حكمه قسرا عن السوريين.
الآن أصبح المستقبل ممكنا في سوريا، وأصبح التفكير فيه ممكنا كفرصة للسوريين لإعادة بناء حياتهم وعلاقاتهم السياسية والاجتماعية، بعيدا عن العنف والترهيب والطائفية والمافياوية، وهي مهمة شاقة لكنها غير مستحيلة رغم التحديات التي تواجهها من الداخل والخارج. الداخل الذي يخرج من تحت أنقاض نظام احتكر السياسة، وأمات المجتمع من خلال خنق تعدديته وإعادة إنتاجها بصورة مشوهة وهزلية، فلم يكن اعتداده "العلماني" وادعاؤه بحماية الأقليات، سوى اعتداد وادعاء وظيفيين كغطاء لتطييف ممنهج وخطير للمجتمع والدولة والجيش. كذلك فإن الداخل الخارج من حرب أهلية دامت أكثر من عقد مع كل ما ولدته من مظالم وأحقاد، يكثف التحديات أمام الحكم الجديد لمعالجتها واحتوائها، ومنع تحولها إلى عمليات ثأر مفتوحة تدفع بسوريا نحو الفوضى والحرب الأهلية من جديد.
بغير إدارة واعية وعقلانية للتعددية السورية الطائفية والإثنية، فإن "النظام الجديد" سيواجه مبكرا سؤال الشرعية والذي يؤدي الفشل في الإجابة عليه إلى التعثر والتخبط في إدارة الدولة
وإذا كان من الصعب القول للسوريين الآن، وهم لا يزالون يلتقطون أنفاسهم ما ينبغي عليهم فعله وما يجب عليهم تجنبه، فإن شدة تأثير مآلات الحالة السورية الجديدة على المنطقة تجعل التفكير في المسألة السورية مسألة مشرقية أو إقليمية، وليست سورية وحسب. ولذلك فأقل الإيمان أن نتطلع ألا يتبنى "النظام الجديد" أي ديناميات سياسية واجتماعية، تعيد إنتاج الطائفية في البلاد وترسخها، كما لو أن الإطاحة بنظام آل الأسد هو انتصار طائفة على الطوائف الأخرى وليس انتصارا للسوريين جميعا، علما أنه تتجمع حتى الآن مؤشرات عديدة على أن سوريا الجديدة لا تسلك هذا الطريق.
فبغير إدارة واعية وعقلانية للتعددية السورية الطائفية والإثنية، فإن "النظام الجديد" سيواجه مبكرا سؤال الشرعية والذي يؤدي الفشل في الإجابة عليه إلى التعثر والتخبط في إدارة الدولة، لأنه يحولها إلى أداة مركزة للتعويض عن اختلال الشرعية، كما حصل في ظل النظام المخلوع. أي يحول الدولة إلى أداة سلطوية بحتة من دون أي أفق تمثيلي وإصلاحي.
لكن تعدد الفصائل بمشاربها وأولوياتها يجعل التركيز على الأبرز بينها، أي جماعة أحمد الشرع، وكأن بيدها كل شيء فيه الكثير من المبالغة وطلب المستحيل، خصوصا أن الانتقال من الثورة إلى الدولة لن يكون سهلا بالنظر إلى الحسابات الخاصة لكل فصيل من الفصائل الرئيسة.
أجندات الخاسرين
كل تلك التحديات الداخلية التي يواجهها السوريون حاليا، على أهميتها، فإنها لا تحدد وحدها المستقبل السوري، أو بالأحرى فإنه لا يمكن الفصل بين الموقف الإقليمي والدولي والتطورات الداخلية السورية، على ما بين الأمرين من تداخل ومن تأثير متبادل، إذ إن سوريا الآن في أمسّ الحاجة إلى دعم عربي وإقليمي ودولي لنيل الاعتراف السياسي، وإعادة إطلاق عجلة الاقتصاد. ولا شك في أن هذا الدعم سيكون حاسما في تحديد معالم النظام الجديد الذي سيتوقف نجاحه على مقدار استيعابه للأولويات الخارجية في سوريا، ومقدار فهمه لموازين القوى المتغيرة في المنطقة، والتي كان من نتائج تغيرها أيضا سقوط نظام الأسد. أي إن نجاح الحكم الجديد سيتوقف بدرجة كبيرة على خفض حساسيته تجاه التعامل مع هذه الأولويات، وإدارتها بما يخدم المصلحة الوطنية السورية مستقبلا. مع العلم أن استمرار النظام القديم طيلة هذه المدة رغم كل عنفه وارتكاباته ضد السوريين، لم يكن إلا نتيجة عدم رفع الغطاء الدولي عنه لغايات متصلة بالأولويات الدولية في المنطقة.
وفي السياق ثمة سؤال يطرح نفسه عن كيفية تعامل الخاسرين من إسقاط نظام الأسد، وفي مقدمتهم إيران و"حزب الله" فضلا عن فلول نظام الأسد، مع المرحلة المقبلة في سوريا، في ظل الشكوك الكبيرة في أنهم سيسلمون بقواعد اللعبة الجديدة في دمشق. ينبغي هنا النظر إلى التباين داخل إيران في قراءة الحدث السوري، بين من يعتبر أن سقوط نظام الأسد هو خسارة للعمق الاستراتيجي لإيران، ومن يقلل من حجم التأثير الذي سيتركه رحيل الأسد على النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما عبر عنه المرشد الإيراني علي خامنئي الذي حاول رمي المسؤولية عما حدث في سوريا على الجيش السوري، وأيا ما يكن من أمر، فإن المسألة السورية قد تحولت إلى مسألة داخلية في إيران بين أجنحة السلطة فيها، وهذا لن يكون بلا تأثير على المشهد السياسي الإيراني، وعلى كيفية تصرف طهران مع الواقع الجديد في سوريا.
تعامل إيران مع الوضع السوري مرتبط بتعاملها مع ملفات المنطقة ككل، خصوصا بعد الضربات القاسية التي تلقتها أذرعها في المنطقة
فهل يحاول "الحرس الثوري" ومعه "حزب الله" أن يعوض خساراته في سوريا؟ أم إن سياسة الرئيس مسعود بيزشكيان حيال سوريا، والتي عبرت عنها الخارجية الإيرانية بعد ساعات من سقوط الأسد من خلال توقع استمرار العلاقات مع دمشق، بناء على "نهج بعيد النظر وحكيم" للبلدين، ستكون هي الحاسمة في الاستراتيجية الإيرانية للتعامل مع سوريا الجديدة؟
في الواقع من الصعب الإجابة على هذا السؤال منذ الآن، خصوصا أن تعامل إيران مع الوضع السوري مرتبط بتعاملها مع ملفات المنطقة ككل، خصوصا بعد الضربات القاسية التي تلقتها أذرعها في المنطقة، والتي أدت حكما إلى تراجع نفوذها الإقليمي، بل إلى بروز تهديدات أكبر على الداخل الإيراني نفسه، وبالأخص فيما يتعلق بإمكان توجيه ضربات إسرائيلية وربما أميركية– بعد دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض- إلى البرنامج النووي الإيراني عصب النظام الرئيس.
لكن يمكن توقع سيناريوهين هنا، فمن ناحية ربما يسعى "الحرس الثوري" إلى تخريب الوضع الجديد في سوريا وبأدوات مختلفة، سياسية وإعلامية من خلال شيطنة القوى الجديدة الحاكمة ووصمها بالإرهاب، والأهم السعي إلى تنفيذ أجندات أمنية في الداخل السوري، تماما كما حصل بعد الغزو الأميركي للعراق، ولكن هذه المرة بالاتجاه المعاكس.
وقتذاك نفذ نظام الأسد المخلوع وإيران خطة مشتركة لإرسال المقاتلين من "القاعدة" والمتطرفين بأسلحتهم ومتفجراتهم إلى العراق، لخلق الفوضى وتخريب الأجندة الأميركية في "العراق الجديد" والتي لم تكن مثالية بطبيعة الحال، ولكن إيران نفسها كانت أكثر المستفيدن منها والمتقاطعين معها. فضلا عن أن بشار الأسد قد لاذ أكثر بالإيرانيين حينها، خشية الإطاحة به بعد صدام حسين. أما الآن فيمكن لهؤلاء المتضررين استخدام الأراضي العراقية للارتداد على الداخل السوري وتخريبه من جديد، ولكن هذا السيناريو يتوقف على أمرين:
1- مدى استعداد الحكومة العراقية للتعاون مع إيران في هذه الخطة، خصوصا أنها تدير توازنا صعبا ومعقدا بين طهران وواشنطن على أراضيها، وتخشى من تبعات تحدي الأميركيين.
2- الاستراتيجية الإيرانية للتعامل مع المتغيرات على الساحة الإقليمية في المرحلة المقبلة، فهل ستتجه طهران إلى الانكفاء إلى أولوياتها الداخلية، والذهاب إلى تفاهمات مع الغرب، أم إنها ستحاول تعويض خساراتها الإقليمية بشتى الطرق؟
أما السيناريو الثاني فهو اتباع إيران سياسة احتوائية مع القوى الإسلامية في سوريا، من خلال تقديم التقاطعات معها في منظومة القيم والعداء للغرب وإسرائيل. ولكن غالب الظن أن قابلية هذه القوى للانجرار إلى هذا المنطق الإيراني، ستكون ضعيفة ومحدودة، بعد الاشتباك الطويل والدامي مع طهران وحلفائها في سوريا.
ولا شك أن جزءا من كيفية تعامل إيران مع الوضع السوري، سيتوقف على علاقتها مع تركيا، التي تقدم نفوذها في سوريا على حساب النفوذ الإيراني، مع العلم أن العلاقات بين البلدين شهدت طيلة الفترة الماضية تقاطعات كثيرة، خصوصا في ظل الحجم الكبير للتبادل التجاري بينهما.
ثمة سؤال يتعلق بـ"حزب الله" بعد أن أصبحت سوريا خاصرته الرخوة، بعد عقود من اعتبار النظام "البعثي" المخلوع أن لبنان خاصرته الرخوة
من جانب آخر فإن توغل إسرائيل في سوريا، وقصفها البنى التحتية العسكرية للجيش السوري عقب سقوط الأسد، واعتبار إسرائيل نفسها في حل من اتفاق "فك الاشتباك" في الجولان، يبرز كتحد رئيس أمام النظام الجديد في سوريا، والأهم أمام تركيا التي سبق أن حذر رئيسها من احتلال إسرائيل لدمشق، كما سربت مخاوف تركية من استهدافات إسرائيلية لتركيا، وهو ما يجعل من ضبط إسرائيل في الأراضي السورية، ودفعها إلى العودة للالتزام باتفاق "فك الاشتباك" أولوية تركية أيضا، باعتبار أن أنقرة ستحاول منع إسرائيل من العبث بـ"حديقتها الخلفية".
كذلك ثمة سؤال يتعلق بـ"حزب الله" بعد أن أصبحت سوريا خاصرته الرخوة، بعد عقود من اعتبار النظام "البعثي" المخلوع أن لبنان خاصرته الرخوة. فكيف سيتصرف "حزب الله" بتوجيه إيراني في المرحلة المقبلة، بعدما أضعفته الضربات الإسرائيلية، وقطعت طريق إمداده عبر سوريا؟ فهل يكتفي بمحاولة التعويض في لبنان من خلال السعي من جديد إلى التحكم بمفاصل الحكم وتوجهات الدولة؟ أم إنه أيضا سيحاول التعويض في سوريا من ضمن الخطة الإيرانية المحتملة هناك؟ أيا ما يكن من أمر فإن الأنباء عن هروب فلول النظام الأسدي المخلوع إلى لبنان، وارتباك الدولة في التعامل معهم، يؤكدان أن البلد لا يزال بشكل أو بآخر امتدادا لسوريا القديمة. وهذا تحد لبناني كبير، في حال أراد اللبنانيون أيضا الاستفادة من الفرصة السورية التاريخية بإطاحة نظام آل الأسد، الذي استنسخ على مدى عقود أدواته وسياساته وخطابه داخل النظام اللبناني.
بيد أن استغلال الفرصة السورية، يتوقف بالدرجة الأولى على القدرة على تجاوز الصراع، الذي كان قائما طيلة الفترة الماضية مع إيران وأذرعها، باعتبار أن استمرار هذا الصراع هو أداتهم الوحيدة، لإعادة إنتاج نفوذهم في المنطقة، والأهم لمنع انطلاق مسار سياسي جديد يتطلع إلى الأولويات الداخلية للبلدان التي مزقتها الحروب والاستبداد والفساد، ويعيد الاعتبار لقيم العدالة والحرية، بعد عقود من الجرائم السياسية وغياب العدالة والترهيب. وفي ذلك كله فإن اللحظة السورية هي لحظة حاسمة لا غنى عنها.