وصلت الحرب الأهلية في سوريا إلى لحظة حاسمة بإعلان سقوط نظام "الدكتاتوري" بشار الأسد، وهو الحدث الذي شكل نهاية حكمه، وتاريخ عائلته السوداوي، الذي استمر لعقود من الفساد والقمع والترويع والتدخلات الأجنبية.
انهيار النظام السوري، وإن شكل مفاجأة كبرى للعالم، فإنه في المقابل فتح الباب لتغيرات جذرية في الصراع، مكّن ائتلافات المعارضة من كسر حالة الجمود الطويلة، والتقدم نحو طور جديد في حسم تاريخ الصراع السوري، ولكن الواقع يظل مليئًا بتحديات عديدة، أبرزها أن جميع فصائل المعارضة، عبارة عن مجموعات ذات أيديولوجيات وطموحات متناقضة، ما قد يعقّد أو يطيل أمد التوصل إلى حل سياسي مستقبلي مستدام، لأن معظمها تتنافس للحصول على دعم قوى أجنبية مختلفة السياسات، مما يؤدي غالبًا إلى تصادم مصالحها وتفاقم الفوضى، وخلق تساؤلات عدة حول شكل المستقبل السوري، وتوازن القوى في المنطقة.
لقد عبأ النظام السابق طوال عقوده الماضية أرض سوريا بدول عديدة، بل وحشد داخلها كل أشكال المعاهدات والاتفاقيات التي تحافظ على حكمه وسيطرته، وهذا بدوره سيخلق أزمات إضافية أمام أي قيادة سورية منتخبة قادمة.
كما أن سقوط الأسد شكّل نقاط تحول في العلاقات بين الدول الكبرى والإقليمية، فمن جهة تسعى تركيا إلى مواصلة تعزيز دورها في سوريا، مستفيدة من تحالفاتها مع بعض المجموعات المعارضة المسلحة، ومن جهة أخرى تسعى إيران إلى الحفاظ على ما تبقى من وجودها، ولو بشكل خفي من خلال دعم الفصائل الموالية لها، ما يزيد من تعقيد الوضع. بينما تسعى دول عربية عديدة إلى تقوية العلاقات مع سوريا عبر إعادة عمل سفاراتها بشكل تام.
إن التغيير "الراديكالي" الذي أحدثته مؤخرًا "هيئة تحرير الشام" المعروفة في السابق بـ"جبهة النصرة" التي مثلت فرع تنظيم "القاعدة" في الشام غيّر وجه الشارع السوري والعربي بأكمله. هذه "الهيئة" التي تسيطر اليوم على مفاصل الدولة، بعدما تمكنت سابقًا من فرض وجودها في محافظة إدلب كحكومة "أوتوقراطية" لتصبح واحدة من القوى الأكثر تأثيرًا في شمال غربي سوريا، بقيادة أبو محمد الجولاني الذي سجله التاريخ الحديث كأحد أبرز الفاعلين في سقوط النظام السوري السابق، والذي ظهر مؤخرًا في لقاء على قناة "CNN" ملوحًا بتطمينات مهمة لجارته إسرائيل، وأنه سيكون منفتحًا على العلاقة مع أي بلد كان.
سوريا الجديدة تواجه عقبات كبرى أمام من سيقودها في المرحلة القادمة، أسوأها اختلاف توجهات القوى المتناحرة على أرض سوريا، وطموحاتها المتباينة
إذن سيعتمد مستقبل "هيئة تحرير الشام" على قدراتها في التكيف مع التغيرات السياسية في سوريا والمنطقة، وعلى ما إذا كانت ستنجح في تعزيز شرعيتها المحلية والدولية أم لا، وعلى مقدار تخلصها من سلوكها التشريعي "الثيوقراطي" المنبعث من أصول وأحكام وتصرفات تنظيم "القاعدة" التي انبثقت عنها. وكذلك على سعيها الدؤوب في تغيير سلوكها وصورتها في نظر عدد من دول الأمم المتحدة كالولايات المتحدة الأميركية، وتركيا، وغيرها التي اعتبرت "جبهة النصرة" منظمة إرهابية.
كما يعتمد مستقبل "هيئة تحرير الشام" أيضًا على مقدار صمودها في وجه جميع أنواع المعارضة والتحالفات المنتشرة بأنحاء سوريا مثل "الجيش الوطني السوري" الذي يعد أحد أبرز التحالفات الذي يضم عددًا من الفصائل المسلحة المتفاوتة في أيديولوجياتها وطموحاتها، يكفي أن الكثير منها يعتبر قوة مساندة رئيسة لأنقرة، في مسعاها لتحقيق نفوذها الطويل الأمد داخل سوريا. وكذلك "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي تشكل تحالفًا يضم مقاتلين أكرادًا وعربًا، والمتمركزة في شمال شرقي سوريا، والتي تسعى باستمرار إلى تحقيق الاستقلالية في المناطق التي تسيطر عليها، وهو ما يعزز توترها الدائم مع تركيا، التي تراها تبعًا لـ"حزب العمال الكردستاني".
إن سوريا اليوم كشعب وأرض وقيادة قادمة تواجه الكثير من التحديات لتبلغ استقرارها الوطني. وليس التقسيم المناطقي والتشريعي هو الأسوأ بعد سقوط النظام، كذلك أمامها مهمة عودة اللاجئين السوريين بعد مضي سنوات من الصراع المدمر، واغترابها الكبير عن وطنها. هذه العودة التي ستكتب صفحة جديدة في تاريخ السوريين، والتي بدورها لاقت استجابة مباشرة من بعض الدول التي كانت تستضيفهم، كإعلان تركيا فتح أحد المعابر الحدودية المغلقة مع سوريا بهدف تسهيل عودة اللاجئين إلى وطنهم. هذه المبادرة التركية وغيرها من المبادرات جاءت في الوقت الذي ناقشت فيه الدول الأوروبية تجميد إجراءات طلب اللجوء للسوريين، ما أثار تساؤلات عن مستقبل هؤلاء اللاجئين في كثير من دول العالم، والذين هم في حاجة ماسة لوجود سلام سوري دائم، وبناء نظام يضمن العدالة والمساواة بين جميع السوريين الحالمين، بوجود حكم مدني بديل لحكم المتشددين الذين ضعفت حاضنتهم الشعبية في جميع أنحاء سوريا.
واليوم وبعد انقضاء بشار الأسد ونظامه الطغياني الذي أثبتته السجون، والقصص المصورة والأسرار الدفينة التي ظهرت على السطح، بقي ما بعد سقوطه وهو الأهم، إذ إن سوريا الجديدة تواجه عقبات كبرى أمام من سيقودها في مرحلة ما بعد هذا النظام، أسوأها اختلاف توجهات القوى المتناحرة على أرض سوريا، وطموحاتها المتباينة التي يجب عليها حسم الجدل فيما بينها لتحقيق السلام والاستقرار، الذي طالما حلم به الشعب السوري، وتمناه ويتمناه لهم العالم العربي والإسلامي بأكمله.