المتاحف بين هيمنة الضوء وهيبته

توزيعه بشكل شاعري

المتاحف بين هيمنة الضوء وهيبته

يا ترى ما مدى قدرة متاحفنا المعاصرة في استنطاق ما تعرض، سواء في عالمنا العربي أو الغربي؟ ومدى الإفادة القصوى بعد الزيارة؟ أليست المتاحف إجمالاً، المبدعة منها تحديداً، هي معين التخييل والمعرفة؟ مثلها مثل الكتب العلمية، والنصوص الشعرية والسردية، وهي تزرع فينا حواراً وجدانياً يشحننا بالدهشة، وشغف البحث والتأمل، وتسافر بنا في عالم مجازي، كذلك العالم الحقيقي في المتحف.

لكن الملاحظ أنه مهما طبقنا المعايير المعتمدة دولياً، في طريقة السرد والشرح، يبقى النجاح الكامن في فن الضوء المؤثر، وهو فن النقطة الأهم في خلق الشعور لدى الزائر، وهو يلامس وجدان المكان أو النفور، مهما كانت أهمية العرض، وهذا يحدث حتى في المتاحف العالمية الكبرى وبأنواعها وأهميتها في المعروض القيّم، ليتضح لي بعد زيارتي لعشرات المتاحف خلال السنوات الماضية، أن أغلب المتاحف غير مؤثرة، لأنها سيئة الإضاءة، على الرغم من ثراء المعروض، ومعاني العرض في بعض المتاحف المعروفة، ويكمن هذا السوء في درجة البريق وتوزيعها، وهي تسقط بقوة لتطغى على القطعة، ويلغي الوهج الصناعي تفاصيل المادة المعروضة، سواء كانت مكتوبة أو منحوتة أو منقوشة وملونة... أمام عدسة العين، ويصبح الضوء هنا مسؤولاً عن نفور الزائر، ووسيطاً سيئاً بين الجمهور والمادة المعروضة، ومما لا شك فيه أن أغلب متاحف الشرق الأوسط إضاءتها ليست طبيعية، ومن ثم تمنع الإضاءة فيها التأثير الضمني واللا شعوري عن هدف المشاهدة، ليغيب التدفق العميق الذي يسمح به الضوء على تجربة الزيارة نفسها.

وتفسيراً لذلك، ومثالاً عليه، فمن أسوأ ما يراه الزائر في المتاحف، هي اللوحة الفنية القيّمة التي توضع في إطار وزجاج، بهدف حفظها، وفضلاً على ذلك، توضع الإضاءة المركبة بشكل مباشر على جسد اللوحة، إما من أسفلها أو من أعلاها، والنتيجة انعكاس عين الزائر على الزجاج، وهيمنة الضوء على الرؤية، ويصبح البريق نافراً له ولتأمله، أو حتى المشاهدة السريعة، والفارق هائل بين هيمنة الضوء وهيبته، أو بين سلطته وفنه.

أغلب إدارات المتاحف، تهمل فكرة الإضاءة الإبداعية المسؤولة عن الإحساس الجمالي

وتأسيساً على ذلك، يجب أن تلعب متاحفنا على الثقافة البصرية والعاطفية، من خلال توزيع الضوء على فضاء المكان وبشكل شاعري، خاصة أن التقنيات الحديثة والذكية تساعد على تدريب المخيلة وقراءة القطع، فالضوء عندما يتحكم بالهدف، يؤثر على تجربة الزوار، والمؤسف أن أغلب إدارات المتاحف، تهمل فكرة الإضاءة الإبداعية المسؤولة عن الإحساس الجمالي.
إن أجمل ما يمكن للمرء فعله هي تجربة المشي في المتحف، يتعرف على الحياة وما بها، وخاصة الإنسان وخياله ومخلفاته وأفكاره، كفكرة سامية جاد بما لديه في هذه المساحة الخاصة، وهي تمنحنا شيئاً من الإدراك حول البيئة البشرية، وكم هو مدهش أن نستخلص بشكل معقول الفائدة الحقيقية حول المادة المعروضة بشكل فني، من خلال الإضاءة وأهميتها كوظيفة معرفية لبناء معنى المعروض، من مواد وعوالم لها إيقاعها ولونها، ومذاقها وملمسها في حكاية ومعنى.
إن المتحف علم بحد ذاته، ووسيط يمنح المعرفة، والمشاعر، والدهشة... وفكرة الإضاءة الإبداعية، تستدرج الزوار بشكل لافت، وبطبيعة الحال لا تطبقها معظم متاحف الشرق الأوسط، على الرغم من كونها المسؤولة الأولى عن جمال عرض المساحة والمادة التي تقابلها الرؤية البصرية، كمحفز جمالي وحساس، يؤدي إلى استدراج الجمهور للتأمل والتفكر لا التنافر والنسيان.

font change