سوريا الجديدة أمام تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرةhttps://www.majalla.com/node/323448/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%A9
فاجأ سقوط النظام في سوريا العالم وأدى إلى سقوط ديكتاتورية عائلة الأسد التي حكمت سوريا أكثر من 50 عاما. تهاوت المدن التي كانت تحت حكم النظام، الواحدة تلو الأخرى، وتحرر آلاف السجناء السياسيين من السجون، وبات المجال مفتوحا أمام نظام ديمقراطي محتمل في سوريا للمرة الأولى منذ عقود.
في هذا الواقع الجديد، هناك تحديات تواجه مستقبل البلاد، لا سيما في ما يتعلق بالتعافي الاقتصادي والتنمية. للتذكير، تقدر تكلفة إعادة إعمار سوريا بما بين 250 مليار دولار و400 مليار دولار. ويعتقد أن الناتج المحلي الإجمالي شهد تراجعا كبيرا منذ سنة 2011، ففي سنة 2023، قدر الناتج المحلي الإجمالي السوري بـ 17,5 مليار دولار، مقارنة بـ 60 مليار دولار قبل سنة 2011، وفقا لتقديرات حكومية سابقة.
وفي مايو/أيار 2024، قدر "البنك الدولي" في تقرير "المرصد الاقتصادي لسوريا" الناتج المحلي الإجمالي نصف السنوي للبلاد في 2023 بنحو 6,2 مليارات دولار، وفقا لبيانات "نايت تايم لايت" وهي طريقة تتتبع النشاط الاقتصادي من خلال صور الأقمار الاصطناعية للأضواء الليلية.
لا تزال العقوبات الأميركية تشكل عقبة أمام التعافي الاقتصادي والمساعدات وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر في المستقبل القريب
في مواجهة هذا الوضع، ما هي التحديات الرئيسة على المديين القصير والمتوسط أمام توقعات التعافي الاقتصادي؟
تركز كثير من التعليقات على العقوبات بوصفها العائق الرئيس أمام التعافي الاقتصادي. ولا تزال العقوبات الأميركية تشكل في الواقع عقبة أمام التعافي الاقتصادي وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر في المستقبل القريب. ومع أنه يمكن رفع هذه العقوبات على المدى القصير بعد إطاحة النظام السوري البعثي، فإن استمرار العديد من القوى، ومنها الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا، بتصنيف "هيئة تحرير الشام" منظمة إرهابية، وهي من الجهات الرئيسة الفاعلة عسكريا وسياسيا في سوريا اليوم، لا يزال يثير تساؤلات في شأن الآثار المستمرة للعقوبات على سوريا.
الحاجة لتثبيت الأمن والاستقرار أولا
لكن بغض النظر عما ستؤول إليه العقوبات، هناك مزيد من المشكلات والقيود الاقتصادية الهيكلية التي تحول دون التعافي الاقتصادي في المستقبل القريب. أولا، يشكل غياب الوضع الاقتصادي الآمن والمستقر في سوريا عائقا كبيرا أمام تعزيز الاستثمار المحلي والأجنبي. فقد ظل الاستثمار الأجنبي المباشر محدودا ومقتصرا في معظمه على إيران وروسيا منذ سنة 2011.
فهل يؤدي تغيير النظام في سوريا إلى تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر، لا سيما من دول الخليج؟ التطورات السياسية مع احتمال زيادة نفوذ "هيئة تحرير الشام" في البلاد، قد تشكل عقبة أمام ذلك. فكثير من الدول الإقليمية تنظر إلى "الهيئة" نظرة سلبية. على سبيل المثل، قال الدكتور أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، عقب سقوط الأسد: "بينما نتطلع إلى المستقبل، فإن علينا مراقبة التطورات عن كثب"، وأضاف أن هناك مخاوف واضحة من تصاعد الفوضى والتطرف.
عدم استقرار الليرة السورية واستمرار انخفاض قيمتها يمثلان مشكلة اجتماعية ومعيشية
عند النظر في التحديات الداخلية، يتبين أن عدم استقرار الليرة السورية واستمرار انخفاض قيمتها يمثلان مشكلة كبيرة. ففي أعقاب سقوط النظام، قدرت قيمة الدولار الأميركي في السوق السوداء بنحو 22 ألف ليرة سورية في دمشق، ووصلت إلى 40 ألف ليرة سورية في حلب، لكنها عادت الى مستوياتها السابقة في اليومين الماضيين.
وقد كان للأزمة المالية وانهيار المصارف في لبنان منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 دور كبير في انخفاض قيمة الليرة السورية، لكن جذور هذا الانخفاض أكثر هيكلية بكثير، وتعكس حالة الفوضى التي تهيمن على الاقتصاد. يقوض هذا الوضع فرص تحقيق عوائد وأرباح سريعة أو متوسطة الأجل من الاستثمارات في البلاد، وبالتالي، فإن الوضع الحالي لا يشجع على الاستثمار أكان من الداخل أم الخارج. كما أن هناك تساؤلات في شأن المناطق الشمالية الغربية التي تستخدم الليرة التركية منذ سنوات، وربما لا تكون راغبة في إعادة استخدام الليرة السورية كعملة رئيسة لافتقارها إلى الاستقرار.
تحديات البنية التحتية وشبكات النقل
بالتوازي، تعاني البنية التحتية وشبكات النقل من أضرار جسيمة. كما أن الجهات الفاعلة اقتصاديا تعاني من الارتفاع المطرد في تكاليف الإنتاج، ونقص السلع الأساسية وموارد الطاقة (خصوصا زيت الوقود والكهرباء). ومع أن موارد النفط الرئيسة تقع في الشمال الشرقي وتخضع لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد، فإن قطاع الطاقة في سوريا، أي إنتاج النفط والغاز الطبيعي، شهد تراجعا كبيرا ومستمرا.
انخفض إنتاج النفط في سوريا، الذي اقترب متوسطه من 400 ألف برميل يوميا في سنة 2010، إلى نحو 91 ألف برميل يوميا في سنة 2023، وهو أقل بكثير من الطلب المحلي
إدارة معلومات الطاقة الأميركية
ووفقا لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، انخفض إنتاج النفط في سوريا، الذي اقترب متوسطه من 400 ألف برميل يوميا في سنة 2010، إلى نحو 91 ألف برميل يوميا في سنة 2023، وهو أقل بكثير من الطلب المحلي. وتعاني البلاد أيضا من نقص في القوى العاملة المؤهلة، ويترافق ذلك مع استمرار ارتفاع معدلات الهجرة، لا سيما من المتخرجين الشباب. فهل تشجع إطاحة النظام القوى العاملة المؤهلة على العودة إلى البلاد؟ نترك الإجابة عن هذا السؤال للمستقبل.
القطاع الخاص، الذي كانت الحكومة السابقة تعدّه المحرك الرئيس للتنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل، يتكون في معظمه من مؤسسات متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة الحجم ذات قدرات محدودة، ولا يزال في حاجة إلى كثير من التحديث وإعادة البناء بعد أكثر من 13 عاما من الحرب. في الوقت نفسه، الموارد الحكومية محدودة للغاية وغير كافية لتحفيز الاستثمار في الاقتصاد، وخصوصا في القطاعات الإنتاجية.
الفقر والرواتب الهزيلة
يشكل انخفاض القوة الشرائية للسكان، حيث يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر، تحديا لتعزيز ديناميكيات الاستهلاك الداخلي والتجارة والإنتاج، خارج المنتجات الأساسية مثل الغذاء وموارد الطاقة والأدوية. ولا يستطيع معظم السكان تغطية غالبية احتياجاتهم الشهرية برواتبهم. فالحد الأدنى الحالي لرواتب الموظفين الحكوميين يتراوح بين 280,890 و336,348 ليرة سورية، وذلك غير كاف إلى حد كبير لإعالة أسرة.
يتزايد اعتماد السوريين على التحويلات المالية من المغتربين لتغطية نفقاتهم اليومية، وبدون هذه التحويلات، تجد قطاعات واسعة من المواطنين أنفسها عاجزة عن تحمل نفقاتها اليومية، إلا بالاقتراض أو الاستدانة من التجار
ووفقا لتقديرات صحيفة "قاسيون" في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بلغ متوسط تكلفة المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد في دمشق نحو 13,6 مليون ليرة سورية (الحد الأدنى 8,5 ملايين ليرة سورية، ويعادل ذلك 1,077 دولارا و673 دولارا على التوالي). في حين وصلت تكلفة المعيشة قياسا بسلة الإنفاق الأدنى في أحدث التقديرات في مايو/أيار 2024 إلى نحو 2,62 مليون ليرة سورية لأسرة مكونة من خمسة أفراد. وقد تضاعف هذا المبلغ مقارنة بالفترة نفسها من العام المنصرم، بزيادة بلغت 95 في المئة، وتضاعف ثلاث مرات في عامين فحسب.
لا تعاني سوريا حاليا من نقص في فرص العمل فحسب، بل هي بلد لا يتقاضى فيه الناس أجراً كافياً لتلبية احتياجاتهم اليومية.
في هذا السياق، يتزايد اعتماد السوريين على التحويلات المالية لتغطية نفقاتهم اليومية، خصوصا مع الارتفاع المستمر في تكلفة المعيشة، بالإضافة إلى استمرار انخفاض قيمة الليرة السورية وتأثيرات الأحداث الكبرى الأخرى على سوريا مثل الأزمة المالية اللبنانية، وجائحة "كوفيد-19"، والغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022. وبدون هذه التحويلات، تجد قطاعات واسعة من السكان السوريين أنفسها عاجزة عن تحمل نفقاتها اليومية، إلا بالاقتراض أو الاستدانة من التجار. ولا تؤثر التحويلات على استهلاك الأسر فحسب، بل على الاقتصاد بأكمله أيضا.
يبقى الشروع في عملية التعافي الاقتصادي تحديا كبيرا لتحسين حياة السوريين. ستحتاج عملية إعادة الإعمار إلى مساعدات دولية كبيرة
الجدير بالذكر أن حجم التحويلات يزيد على الاستثمار الأجنبي المباشر في سوريا، الذي أصبح شبه معدوم أو منخفضا للغاية منذ سنة 2011، ويفوق على الأرجح المساعدات الإنسانية الموجهة إلى سوريا نفسها، الذي بلغ متوسطها 2 و2,2 مليار دولار في السنوات القليلة الماضية. وتعزز الأهمية المتزايدة للتحويلات بوصفها مصدر دخل اعتماد الأسر السورية، وتاليا الاقتصاد السوري، على مصادر التمويل الخارجية بدلا من المصادر الوطنية، وهو ما يجعلها أكثر هشاشة أمام الصدمات الخارجية. وربما تؤدي العودة المحتملة لكثير من السوريين من الدول المجاورة إلى تقليص هذا المصدر من الإيرادات.
فرصة حقيقية للإنقاذ الاقتصادي
أخيرا، تواجه محاولات تأمين انتقال منظم للسلطة تحديات كبيرة. ومن المتوقع أن تشهد البلاد فترة من عدم الاستقرار، على سبيل المثل، شهدت دمشق في اليوم التالي لسقوط النظام، بعض الفوضى في الشوارع، ولا يمكن إغفال أن البلاد لا تزال منقسمة بين سلطات مختلفة، وأن المواجهات العسكرية لم تنتهِ بعد، لا سيما في الشمال. كما أن استمرار دور القوى الأجنبية في سوريا ونفوذها يشكل مصدر تهديد وعدم استقرار. فقد قصفت إسرائيل مستودعات أسلحة في جنوب سوريا والعاصمة دمشق، واحتلت أراضي في المناطق الخاضعة للسيطرة السورية في مرتفعات الجولان.
على الرغم من كل ذلك الواقع، تسود الآمال بمستقبل أفضل بين قطاعات واسعة من الشعب السوري بعد سقوط حكم الأسد، ومع ذلك، يبقى الشروع في عملية التعافي الاقتصادي تحديا كبيرا لتحسين حياة السوريين. فستحتاج عملية إعادة الإعمار إلى مساعدات دولية كبيرة، بالإضافة إلى تغيير في الاقتصاد السياسي لمستقبل سوريا لاجتناب تكرار أخطاء الماضي، لكن فرصة تحسين الأوضاع أصبحت الآن حقيقة واقعة على الأقل بسقوط حكم عائلة الأسد.