أكثر من نصف قرنِ من الزمان عاشها الشعب السوري تحت وطأة نظام عائلة الأسد الاستبدادي، الذي اتسم بقمع الأصوات المعارضة أو المطالبة بأقل قدر من الحقوق، سواء في المشاركة في الحياة السياسية أو حتى المطالبة بحياة عادلة وكريمة. منذ البداية واجه النظام مطالب الشعب بالحديد والنار فكانت المذابح الجماعية والقتل المباشر لكل المعارضين، وفتح النظام السوري السجون والمعتقلات في مسعى لوأد كل محاولة للتغيير في مهدها، ورغم كل ذلك استمرت محاولات الشعب أفرادا وجماعات بشتى الطرق والوسائل لكسر ذلك النطاق وتحطيم تلك القيود، ولجأ الكثير من الكتّاب إلى التعبير عمّا عاشوه وقاسوه في معتقلات ذلك النظام، سواء ساعدهم القدر ففروا إلى المنافي، أو استطاعوا أن يبقوا مراقبين لما يحدث في الداخل بين الخوف والحذر والقلق، وهكذا سطروا بين هذا وذاك العديد من المذكرات والحكايات والروايات التي تبقى شاهدة على وحشية ذلك النظام وفساده وقسوته.
في مقالٍ له بعنوان "السجن ساحة حرب دائمة"، يتحدث المفكر السوري برهان غليون عن سجون النظام السوري فيقول: "لم تكن المعتقلات، ولا كان الاعتقال، نشاطا جانبيا أو ثانويا في نظام السلطة الأسدية هذه. لقد كان أحد الأركان الأساسية للحكم، إن لم يكن وسيلته الرئيسة. كانت المعتقلات خلال أربعة عقود المختبر الحقيقي لممارسة هذا العنف المنفلت أو المفرط واختباره وتطوير كوادره وأساليبه وأدواته. وعمل خلال عقود طويلة من حكم الأسد بمثابة ساحةٍ لحربٍ محدودة في المكان،.. وهكذا أمكن للنظام تجريد الشعب من حقوقه السياسية والمدنية، والقضاء بصمتٍ على عشرات ألوف المعارضين أو المشتبه بمعارضتهم، وقطع رأس المجتمع المدني ووأده حيا. وكان لوجود المعتقلات في كل مكان الدور الأول في ضبط توازن السلطة القائمة على قوة الإرهاب، وبناء علاقة العبد والسيد بين الحاكمين والشعب، ومن ثم ضمان الإذعان والاستسلام الكامل والانصياع لإرادة الحاكم/ الرب".
"رائحة الخطو الثقيل" لإبراهيم صموئيل
لعل مجموعة القاص السوري إبراهيم صموئيل من أوائل الكتابات التي اهتمت برصد تجربة السجون السورية، صدرت عام 1988 وقدّم لها الشاعر ممدوح عدوان، وتنوعت قصص المجموعة بين حكايات المعتقلين وما يدور فيها من مفارقات، ولعل أكثر ما يميز كتابة إبراهيم صموئيل في هذه القصص إخلاصه للجانب الأدبي بعيدا من الخطابية أو التقريرية في عرض الحكايات وتناولها، إذ تبرز لديه المواقف الشاعرية والقدرة على رصدها ببساطة وتكثيف شديدين. في قصة "الزيارة" كل ما يشغل المعتقل هو اللحظة التي سيرى فيها ابنه الذي ولد وهو في المعتقل، يتلاشى كل ما حوله ويظل مشغولا بالولد الصغير الذي يحمل اسم خلدون حتى أنه ينسى بسببه أن يرد على زوجته، وفي قصة "المقبرة" يسعى السجين للهرب من غرفته الضيقة لكي يلتقي محبوبته فلا يجد مكانا سوى "المقبرة"، ويرسم ببلاغة تلك المواجهة بين الحياة المحفوفة بالأخطار في الخارج وبين الأمن في المقبرة الموحشة بين الأموات.
تبدو الحكايات عند صموئيل معتادة، ويحكيها ببساطة. حتى في أكثر الحكايات غرابة مثل "الذي لم يعد أبا"، يسرد بصورة اعتيادية طريقة دهم قوات الأمن للأب وطريقة اعتقاله، وكيف أصبح الأب مجرد صورة معلقة على حائط المنزل يعرفها الابن ويتحدث معها دون أن يعرف لأبيه وجودا غيرها. هكذا يصنع الكاتب المفارقة ويتسرب الألم والقهر ولا شك الى القارئ من بين تلك التفاصيل.