رواية "صيف سويسري" لإنعام كجه جي: كبسولات لعلاج التعصب

حين يجتمع عقائديو العراق في مكان واحد

Axel Rangel Garcia -AL_MAJALLA
Axel Rangel Garcia -AL_MAJALLA

رواية "صيف سويسري" لإنعام كجه جي: كبسولات لعلاج التعصب

لا تبتعد الروائية العراقية إنعام كجه جي، في كل رواياتها، عن العراق ومحنه الإنسانية، وإن حملت روايتها الأخيرة عنوان "صيف سويسري". ففي هذا الصيف يجتمع أربعة عراقيين في مدينة بازل السويسرية، عاصمة الدواء العالمي، ليجرّبوا علاجا ضد التطرّف الفكري. فكرة عملت عليها الكاتبة في 173 صفحة، سردت خلالها جوانب من حيوات شخصيات أصيبت بداء التطرف العقائدي الحزبي، فلم تعد تتقبل أي رأي مختلف عن آرائها. يتساوى في ذلك أصحاب الأفكار الحديثة، أو من يظنون أنفسهم كذلك، مع أصحاب المعتقدات الدينية في مختلف مذاهبها.

نتعرّف في الرواية الى حاتم "مدمن قوميّة عربية"، وبشيرة حسّون يسارية، ودلالة مُبشِّرة تتبع شهود يهوه، وغزوان البابلي المتأثر بآل البيت، ومعهم الشاب بلاسم الذي جاء من مانشستر للإشراف على تجربة العلاج. حيث يتناولون كبسولات برتقالية وصفراء ضمن برنامج يشمل جلسات للبوح، على بعد كيلومترات من مقار شركات صناعة الدواء الشهيرة، "نوفارتس" و"ساندوز" و"هوفمان لاروش" وغيرها.

بدلة القائد

تُفتتح الرواية بصوت حاتم، الذي يتناوب على السرد مع صوت الراوي العليم، وصوت سندس، ابنة بشيرة، الذي تُختتم به الرواية.

حاتم، ضابط الأمن القومي، الذي يلقب في الحزب بـ "الرفيق سور الصين"، وكان ضمن مؤسسة السلطة، يستعيد الكثير من المواقف التي أدّت به إلى مساءلة نفسه حول دوره في الحياة الحزبية التي تطغى عليها الواجبات وتنفيذ الأوامر قبل مناقشتها، فنجده يستذكر أيّامه ولياليه الماضية، حيث يقوم بجولاته الليلية في الأحياء الشعبية، "مداهمات العناصر الهدّامة. مراقبة الجماعات الدينية. جلسات التحقيق في مراكز التوقيف. التوسّلات والعويل والشتائم واللكمات".

جوانب من حيوات شخصيات أصيبت بداء التطرف العقائدي الحزبي فلم تعد تتقبل أي رأي مختلف عن آرائها

قسوة صارت ملازمة له، اعتادها بالممارسة في وقت كان المطلوب فيه من العيون أن تسهر "لكيلا يضيع الوطن. يتناهبه المتآمرون وعملاء الإمبريالية. الشعوبيون والمجوس والصهاينة والماسونيون والانفصاليون وأعداء العروبة". اخلاصه لقائده، أدى به إلى الامتناع عن الطعام والشراب مدة أسبوعين لكي يستطيع لبس البدلة الضيقة التي تلقاها هدية منه وظلّ يحافظ عليها دون غسيل. وهو إذ يأتي إلى بازل "للإقلاع عن داء التقيؤ الحزبي"، يستذكر أحد رفاقه الذي مات بين يديه قبل أن يكمل نطق شعار الحزب. يتذكّر ذلك اليوم المربك في حياته حين طُلب منه أن يتخلّص من أعز أصدقائه، "سيتم الإعدام بأيدي أقرب الرفاق. الأصحاب يصوّبون على الأصحاب"، أو الذين صاروا يوصفون بالمتآمرين والعملاء. أبو محمد المطلوب أن يطلق النار عليه، هو رفيق طفولته ودراسته، وهو الذي استقطبه للحزب، خدما العسكرية معا وكان كل منهما شاهدا على زواج الثاني. وهو الزواج الذي انتهت حميميته ذلك اليوم حين قرّرت زوجته عدم معاشرته بعد ما قام به تجاه صاحبه.

غلاف رواية "صيف سويسري"

حب وأيديولوجيا

أمّا بشيرة حسون فهي جارته اليسارية، اغتُصبت وصارت حاملة بطفلتها سندس، دبّر لها حزبها سفرا وزواجا (يسترها) من رفيق لها عذّبوه في المعتقل "أعطبوا رجولته وخرج مكسورا". كان حاتم رآها في مقعد التحقيق وهي معصوبة العينين، فأمر المحقق أن يبتعد عنها بلثغة لغوية لم تتعرّف بشيرة الى صاحبها إلا في بازل حيث شكرته على مساعدتها يومذاك وأخذها وهي معصوبة العينين إلى باب منزلهم. هل كان يحبها بصمت؟ هذا ما سيتضح بعد عمر، وفي لحظة يلتقيان فيها رغم الاختلاف الأيديولوجي. لقد كان صيف سويسرا بالنسبة إليها فرصة للترويج على النفس، في بلد يعدّ بمثابة قبلة للعرب الميسورين، الأثرياء الذين يراهم حزبها "طابور خامس. مصاصو دماء الشغيلة. لا بد من تأميم ثرواتهم ومصانعهم. انتزاع أراضيهم وتوزيعها على الفلاحين وأبناء الشعب".

shutterstock
كاتدرائية بازل وكنيسة القديس مارتن خلف جسر ميتلر، بازل - سويسرا.

تمزّق عمر بشيرة بين بيروت ودمشق وعدن وصار "الزوج شبحا، ماتت الحنّية بينهما"، ولم تذكر أنّه قال لها إنّه يحبها سوى مرّة واحدة في مطعم شعبي على خليج عدن. كان هوسه بمناقشة الكتب الأيديولوجية يضايقها على الرغم من أنهما من الحزب نفسه. ستقول سندس في وقت لاحق لبلاسم الذي صار يحدثها عن الكتب ومؤلفيها، إن سبب انفصال أمّها عن أبيها (الافتراضي) هو أنه كان "يدحرج لها أسماء أجنبية صعبة". وكانت سندس قرّرت عدم الاقتران بأي عراقي، يذكّرها بالبلد الخراب والأفكار المتخشبة، مخالفة بذلك رغبة أمّها.

الرواية تقدّم هجاء لافتا للمتسببين في خراب العراق، من حزبيين وأيديولوجيين، الذين مارسوا السياسة بالوراثة، ولم يفتحوا أي أفق لحياة جديدة

مع ذلك، فإن بلاسم، المشرف على المجموعة أو "حلاّل العُقَد"، لا يشبههم، فعمره أصغر من أعمارهم "ورأسه أحف من رؤوسهم. لا يحمل جماجمهم المملؤة بالشيش بيش. يتباهون بعقائد هي بالنسبة إليه خزعبلات. أرهقتهم الحمولة وجاءوا يطلبون المساعدة. هكذا قيل له. ستعمل معهم على تقشير عقولهم المتيّبسة، طبقة بعد طبقة".  فهو "يصغي إليهم ويساعدهم في نكء الجروح السابقة. يتعاون معهم في تنظيفها وتجفيفها لتندمل بشكل صحيح. ينتظر أن تتساقط قشورهم ويبين اللب فيكون أدى مهمته". ولكن بلاسم يرى أيضا أن الأوروبيين يبالغون في اعتقادهم أن هؤلاء يرفضون الاندماج خاصة بعد تجرعهم لأنواع من المفخخات، فيما "لم يُسمع عن عراقي نفّذ عملية إرهابية في أوروبا".

كبسولات ومرهم

دلالة الأشورية المبشّرة، لا تشبه المسيحيين الآخرين، فهي إذ تعتبر نفسها من أتباع شهود يهوه، وهي جماعة دينية نشر أتباعها دعوتهم في العراق أثناء مجيء الأميركيين، تعتبر ما يقوله حاتم إن المسيح سمح بالخمرة "كلاما ماسخا"، وإن الإنجيل يقول "لا تسكروا بالخمر التي فيها الخلاعة". وهي تدعو الناس إلى أن يكونوا "من شهود يهوه. لا يهمها أن يكونوا مسلمين أو مسيحيين. شيعة أو سنة. من الصابئة أو البرتكيس".

وإذا ما وصلنا إلى غزوان البابلي، الذي على رأسه "عمامة سوداء غير منظورة، يخفيها تحت طابع ساخر لا يليق بأصحاب العمائم"، فإننا سنرى تربيته الطائفية وقراءته لسير آل البيت. لكن غزوان كدلالة، لم يُعطيا مساحة في الرواية تساوي مساحتي حاتم وبشيرة. ربما يرجع ذلك إلى الأهمية التي احتلها حزبا هذين الأخيرين في تاريخ العراق. مع ذلك، تقدم الرواية هجاء لافتا للمتسببين في خراب العراق، من حزبيين وأيديولوجيين، الذين مارسوا السياسة بالوراثة، ولم يفتحوا أي أفق لحياة جديدة.

AHMAD AL-RUBAYE - AFP
امرأة تطل من منزلها المتضرر في قرية حبش شمال بغداد.

إنعام كجه جي في هذه الرواية، التي صدرت عن منشورات "تكوين" و"الرافدين"، تواصل لعبتها السردية، التي ألفناها في رواياتها السابقة، عبر الإبحار في تاريخ العراق وحاضره، وذلك بقلم رشيق مثقف يعرف خبايا هذا التاريخ ومشاكله التي نجدها مروية بشكل فني ماتع، لا يستطيع القارئ الفكاك منه فور الانتهاء من قراءة الرواية، وسيجده مصاحبا له مع كل سؤال عن مستقبل العراق والبلدان العربية الأخرى التي تشبهه، فتبدو الرواية كبسولات، أو مرهم شفاء، من خلال الكلمات، لعلاج التعصب المقيت.

font change

مقالات ذات صلة