لم يمثّل هروب بشار الأسد من سوريا، العلامة الحاسمة الوحيدة على سقوط نظامه الدمويّ. كانت لحظة اقتحام المعتقلات سيئة الذكر، وفي مقدمها معتقل "صيدنايا"، وإطلاق المعتقلين بداخلها، هي اللحظة الحاسمة والحكاية المفصلية. حكاية السوريين مع الديكتاتورية الأسدية، هي قبل كلّ شيء آخر حكاية اعتقال: اعتقال إرادتهم، آرائهم، تطلعاتهم، مشاعرهم، وصولا إلى الاعتقال الأقسى والأوضح، اعتقالهم جسديا والتنكيل بهم داخل تلك المسالخ البشرية.
ما رآه العالم منذ انهيار نظام الأسد وفتح أبواب المعتقلات، هو ما كان يعرف بوجوده، بداية من أماكن هذه المعتقلات والممارسات التي تجري في داخلها، وصولا إلى أسماء المعتقلين وأعدادهم، وبيانات اختفائهم، لكنّ المشاهدة شيء آخر، إذ أنها لا تخبر عن المعتقلين والمعتقلات، بقدر ما تكشف حجم قباحة العالم الذي نعيش فيه، وحجم الصمت الذي كان سائدا قبل سقوط النظام.
على بعد أمتار
بدا بديهيا على سبيل المثل، أن يعاود سوريون استحضار صور "سياح" من حول العالم، ممن كانوا يزورون دمشق أو غيرها، ويلتقطون الصور التي تعكس تمضيتهم أوقاتا سعيدة في "سوريا الأسد"، وهم على مقربة أمتار من تلك المعتقلات المشؤومة.
هذا الاستحضار يريد أن يذكّر العالم بجريرته الفادحة تجاه السوريين ومأساتهم، بصمته بل بتواطئه في كثير من الأحيان، مع نظام استباح جوهر الحياة الإنسانية، وأطلق منذ بداياته الأولى آلة القتل والتعذيب والترويع في حق أبناء بلده. وإذ يقف هذا العالم مصدوما أمام مشهد الخارجين أخيرا من ظلام السجون، بعضهم فاقد القدرة على التمييز، أو النطق، أو الحركة، فضلا عمن فقدوا الذاكرة والعقل، فإن المفارقة أنه ينسى أنه لا يزال واقفا على أعتاب مقبرة هائلة لم تترك بقعة من سوريا إلا وتمدّدت إليها.