"سلمى وقمر" في "البحر الأحمر السينمائي": التجربة الفردية مرآة للتجربة العامةhttps://www.majalla.com/node/323432/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%89-%D9%88%D9%82%D9%85%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A9
تتجلّى حقبة التسعينات كثيمة مركزية في عدد من الأفلام السعودية المعروضة في أقسام مختلفة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة، في دورته الرابعة.
تشكل هذه الحقبة لدى صنّاع الأفلام السعوديين محورا يلتقي فيه الخاص بالعام، الشخصي بالمجتمعي، وفي الدورة الحالية من المهرجان، أطلّت ثلاثة أفلام سعودية جديدة ("سلمى وقمر"، "صيفي"، و"هوبال") لتعيد بناء هذا العقد الزمني وتستخرج مزيجا من الذكريات والرمزيات.
حين أضاء قمر بيت سلمى
تأخذنا المخرجة السعودية عهد كامل في فيلمها "سلمى وقمر" (وهو من تأليفها أيضا) الذي عرض ضمن قسم "روائع عربية" والمدعوم من هيئة الأفلام، إلى عالمها في جدة التسعينات. عهد، التي درست التمثيل والإخراج في نيويورك وحققت نجاحات دولية كممثلة ومخرجة أفلام قصيرة، تستحضر في فيلمها الروائي الأول ظلالا من نشأتها. إذ يظهر الفيلم شغفها بسرد قصة تعكس تجربتها الإنسانية العميقة مع سائق العائلة، ومعايشتها صراعا داخليا بين الغياب الجزئي للأب وديناميكيات الأمومة.
تقدم عهد كامل قصتها بلغة بصرية حساسة، مستفيدة من تقنياتها المكتسبة، مع الحفاظ على جذور الحكاية في الواقع السعودي
يبدأ الفيلم الذي أنتجته منصة OSN بتقديم الطفلة سلمى (تؤدي الدور الممثلة الناشئة رولا دخيل الله) التي تعيش وحيدة في فيلا فسيحة تعكس العزلة العاطفية، مع والدين يشكلان صورتين متناقضتين للحياة: أم متوترة وحزينة من أصل لبناني-فلسطيني (تقوم بالدور رنا علم الدين) تحاول الحفاظ على تماسكها وسط شتات ذاتي متراكم، تقدم الأم كأيقونة حزينة، تعيش تناقضا مريرا بين دعمها المادي والمعنوي لأطفال فلسطين وعجزها عن زيارة وطنها الأم، والأب (يقوم بالدور الممثل ومغني الراب قصي خضر) كشخصية مؤثرة في تشكيل الجو العاطفي للعائلة الصغيرة. يمثل الأب الحلم والهدوء واللطف، فهو رجل يتوارى خلف مكتبه، ساهما في مقاطع أغنيات محمد عبد الوهاب، تستأنس سلمى معه في لحظات خاطفة وأوقات مقتصدة، هذا التناغم المتضاد يصنع بيئة نفسية تُغرق سلمى في عالم من الوحدة والتوق للمعنى.
تقدم عهد كامل قصتها بلغة بصرية حساسة، مستفيدة من تقنياتها المكتسبة، مع الحفاظ على جذور الحكاية في الواقع السعودي، إذ أن علاقتها الشخصية مع مفهوم أحلام المراهقة والصراع الإنساني تتجلى في شخصية سلمى، ليبدو الفيلم مرآة تعكس رؤية عهد لسقف الطموحات البسيطة للفتاة السعودية آنذاك. منذ اللحظة الأولى حين تسأل الطفلة سلمى السائق السوداني قمر عن اسمه يجيبها بثقة: "لما جيت الدنيا كنت منور عشان كده أهلي سموني قمر". تتجلى البراءة المختلطة بصدمة الطفولة، حين تواجه سلمى أول تجليات التمييز غير المقصود بقولها: "انت بني!".
نرى العلاقة بين سلمى وقمر مكتوبة بحساسية عالية، تتطور في مزيج من الصداقة والمودة، من الحنان والحزم، حيث يصبح قمر (يؤدي الدور الممثل السوداني مصطفى شحاته)، الوافد الذي جاء إلى السعودية بدافع العمل، رمزا للأمان والاستقرار في حياة سلمى. هنا يظهر ذكاء المخرجة في تقديم علاقة غير اعتيادية، تتجنب السقوط في الميلودراما، وتبني بدلا من ذلك جسرا إنسانيا بين شخصيتين منفصلتين اجتماعيا وثقافيا.
يعتمد الفيلم على بناء سردي هادئ يتناسب في بدايته مع جوهر العلاقة المركزية، التي تمثل استعادة إنسانية للفقد
مع الانتقال السردي إلى سلمى الصبية اليافعة، يحتفظ الفيلم بنبض التسعينات، عبر الديكور والملابس، وكذلك عبر لحظات عفوية كمغامرتها مع قمر في منطقة برية بعيدة لتجربة قيادة السيارة، وأغنيات تلك الحقبة التي تبادلتها مع حبيبها السري (يقوم بالدور الممثل مشعل تامر) الذي ينتظرها بسيارته خارج أسوار المدرسة ومغامراتهما معا أكثر من مرة للذهاب إلى محل الأيس كريم، أو تخطيطها للمبيت قرب البحر. جميعها محاولات جيدة لاستحضار أجواء الفترة التي تجسد نيل السعادة بالسرقات، لكن هل تم توظيفها جيدا في البناء الدرامي للفيلم؟
السرد والأداء بين ضوء وخفوت
يعتمد الفيلم على بناء سردي هادئ يتناسب في بدايته مع جوهر العلاقة المركزية، التي تمثل استعادة إنسانية للفقد: قمر الذي يفتقد عائلته في السودان، ويواسي نفسه عبر سماع شرائطهم الصوتية، يجد في سلمى ابنة رمزية له، بينما سلمى تبحث في قمر عن صديق يغنيها عن غياب والديها العاطفي أو حضورهما السلطوي. إلا أنه، وعلى الرغم من هذه العلاقة الأبوية المقنعة، يقع الفيلم أحيانا في شيء من البطء، حيث المشاهد الطويلة والاستغراق في تفاصيل تُبطئ الإيقاع، خاصة تلك التي ترصد التوتر بين سلمى ووالدتها.
يمكن التوقف أيضا عند الجوانب التي تشكّل ملامح الشخصيات الثانية بين فترتي الشباب ومنتصف العمر، إذ تتجلى نمطية الصورة الشكلية لمكياج التقدم العمري الذي بدا مجرد إكسسوار ارتداه الممثل مصطفى شليطا دون إضافة تصدير لإحساس النضج الشكلي و الروحي لأزمة منتصف العمر، إلا أنه على صعيد آخر قدم أداء متزنا في تصدير الأبوة غير المعلنة. قمر هو العمود الفقري للقصة، لذلك استمرت شخصيته نقية وخالية من أي تطورات عاطفية تجاه سلمى، مما عزز شعور المشاهد بواقعية العلاقة.
يظل قمر، بشخصيته الأبويّة، رمزا للرعاية والإخلاص في ظل حقبة التسعينات التي تعكس بعدا اجتماعيا بسيطا وحميما
في الوقت نفسه، نجد تفاوتا ملحوظا بين أداء كل من سلمى ووالدتها. رنا علم الدين الممثلة اللبنانية العائدة إلى التمثيل بعد انقطاع طويل، التي تؤدي دور والدة سلمى، كان يمكن تعزيز دورها بمزيد من العمق الذي يتيح للمشاهد استكشاف دوافع الشخصية أو مشاعرها تجاه الفجوة المتزايدة بينها وبين ابنتها. فقد بدا أداؤها أسير النمط المسرحي، مما أفقد شخصية الأم تأثير جرحها النفسي. أما سلمى، وهي محور القصة التي تمتلك مساحة كبيرة على الشاشة، فقدمت أداء متماسكا نسبيا، خاصة في مرحلة تفتق مشاعر الرغبة و الانطلاق، لكن هذا وحده لم يعكس بشكل دقيق مراحل النضج أو الصراعات الداخلية. هذه الثغر جعلت بعض اللحظات الحاسمة تفقد تأثيرها الوجداني، خاصة مع وجود خطوط درامية واعدة لم تُستغل بالشكل الكافي.
سعت المخرجة إلى تسليط الضوء على علاقتها الشخصية مع سائقها محيي الدين عبر الإهداء الوارد في النهاية، محاولة الحفاظ طوال الوقت على رهافة الشخصيات، و يظل قمر، بشخصيته الأبويّة، رمزا للرعاية والإخلاص في ظل حقبة التسعينات التي تعكس بعدا اجتماعيا بسيطا وحميما، لتنقلنا إلى زمن كانت فيه الأغنيات والآيس كريم والمغامرات الصغيرة، تكفي لتشكيل عالم كامل.