كيف نصف حقول القتل والأنقاض في بلادٍ عربية لم تُبقِ الأقدارُ لشتات جماعاتها وسيلةً سوى الحروب الداخلية والخارجية أو مزيج منهما، للعيش أو الموت انتقامًا وثأرا من أقدارها؟
وكيف نصف الناس العاديين، غير المنضوين في جماعات مسلحة، أولئك الذين صاروا أنقاضًا يهيمون في التشرد والبؤس والمهانة والجوع في هذه البلاد؟ من فلسطينيّي غزة إلى لبنان إلى سوريا. ومن السودان وحربه شبه المنسيّة بين جنرالين تعاونا على قتل ثورة الشعب السوداني عليهما وعلى أمثالهما. ومن العراق إلى اليمن إلى ليبيا، حيث لا تتوقف الحروب إلا على وعد انبعاثها من جديد.
وحقول القتل والأنقاض تتنقل بين هذه البلدان، وكذلك يتنقل المشردون في مستنقع يُسمى الشرق الأوسط الذي تتقاسم القوةَ فيه اليوم دول قوميّة متماسكة، وإقليمية النفوذ:
إسرائيل الدولة العسكرية الإسبارطية الاستعمارية في فلسطين. وهي الأقوى تسليحًا تكنولوجيًا حديثًا وذرّيًا في الشرق الأوسط. والأقوى في العالم احتضانًا وتبنّيًا من القوى الغربية. ووصفها الكاتب السوري ياسين الحاج صالح بأنها "تتصرف في المشرق كقوة قدر، كألوهةٍ، لا ترضى بأقل من رضوخ كليّ" لها. وهذا ما فعلته طوال أكثر من سنة بشعب غزة الفلسطيني الذي أنزلت به عقابًا "توراتيًا": جردته من إنسانيته، وأبادت نحو 50 ألف نسمة منه، ردًا على هجوم "حماس" الصاعق على مستعمراتها وقتلها نحو 1200 شخص من سكانها وجنودها، وخطفها نحو 200 شخص منهم.
ثم أنزلت بـ"حزب الله" وبالجماعة الشيعية في لبنان عقابًا جويًّا أو سماويًّا طوال شهرين، لأن هذا "الحزب" الإيراني الولاء والإمرة، قام بحرب "مشاغلة" ضدها "إسنادًا" لغزة. وفي ضوء هذه الوقائع وسابقاتها صاغ الحاج صالح فكرته عن قوة إسرائيل التي تُخرِجها من السياسة ومن الحرب معًا، وترفعها كـ"ألوهة" تطلب لنفسها وحدها دون سواها الأمنَ الدائم والأبدي، خارج المعايير والحقوق الإنسانية والظروف والتاريخ. ويرى الكاتب السوري أن للقوة الإسرائيلية هذه "تناسخات" تافهة، كالنظام السوري الذي قَرَن قائدُه "الاستثناء" وابنُه الوريث اسميهما بـ"الأبد" في حكمِ سوريا وشعبها حكمًا طغيانيًا بالدم والسجون. وهناك أيضًا الإسلاميون، سنّة وشيعة (من خلفهم إيران)، الذين صاغوا "مقاومات" تنزع إلى "دوام الحروب الوجودية". ومن صفات هذه القوى "المتألهة": "الأنانية والكراهية والجريمة والتفاهة".
إيران التي تستتبع جماعات في لبنان وغزة الفلسطينية والعراق وسوريا واليمن، فتُنظمها وتسلحها وتزودها بعقيدتها المذهبية. ثم تستعملها دروعًا بشرية في حروب تبعثُ لدى طغمتها الدينية المذهبية الحاكمة الكالحة شعورًا إمبراطوريًا قديمًا بائدًا، وتوفّر لها أن تفاوض القوى الدولية الكبرى على تصنيعها سلاحًا نوويًا وعلى نفوذها الإقليمي في المشرق العربي.
تركيا التي مدّت نفوذها إلى سوريا الممزقة، فاستتبعت في شمالها الغربي جماعات وسلّحتها، مدفوعة بهجاسها القومي العنيد ضد مواطنيها الكرد المكتومين، وضد كرد سوريا والعراق على حدودها الجنوبية. ولا يخلو العمل التركي هذا من أصداء أحلام إمبراطورية عثمانية قديمة.
لكن خريطة النفوذ والاستتباع الإقليميين هذه في المشرق العربي المتصدعة دوله، تتقاطع وتتداخل مع خريطة عالمية للنفوذ الدولي، تتصدرها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. هذا فيما تشغل إسرائيل دائمًا موضع القلب من مستنقع الشرق الأوسط في الخريطة الأميركية والأوروبية.