هل نخرج من حقول القتل المشرقية؟

هل من جامع بين الكوارث التي حلّت ببلدان عربية كثيرة؟

أ ف ب
أ ف ب
صور بشار الأسد والمرشد الإيراني علي خامنئي عند مدخل مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، 26 مارس 2024

هل نخرج من حقول القتل المشرقية؟

كيف نصف حقول القتل والأنقاض في بلادٍ عربية لم تُبقِ الأقدارُ لشتات جماعاتها وسيلةً سوى الحروب الداخلية والخارجية أو مزيج منهما، للعيش أو الموت انتقامًا وثأرا من أقدارها؟

وكيف نصف الناس العاديين، غير المنضوين في جماعات مسلحة، أولئك الذين صاروا أنقاضًا يهيمون في التشرد والبؤس والمهانة والجوع في هذه البلاد؟ من فلسطينيّي غزة إلى لبنان إلى سوريا. ومن السودان وحربه شبه المنسيّة بين جنرالين تعاونا على قتل ثورة الشعب السوداني عليهما وعلى أمثالهما. ومن العراق إلى اليمن إلى ليبيا، حيث لا تتوقف الحروب إلا على وعد انبعاثها من جديد.

وحقول القتل والأنقاض تتنقل بين هذه البلدان، وكذلك يتنقل المشردون في مستنقع يُسمى الشرق الأوسط الذي تتقاسم القوةَ فيه اليوم دول قوميّة متماسكة، وإقليمية النفوذ:

إسرائيل الدولة العسكرية الإسبارطية الاستعمارية في فلسطين. وهي الأقوى تسليحًا تكنولوجيًا حديثًا وذرّيًا في الشرق الأوسط. والأقوى في العالم احتضانًا وتبنّيًا من القوى الغربية. ووصفها الكاتب السوري ياسين الحاج صالح بأنها "تتصرف في المشرق كقوة قدر، كألوهةٍ، لا ترضى بأقل من رضوخ كليّ" لها. وهذا ما فعلته طوال أكثر من سنة بشعب غزة الفلسطيني الذي أنزلت به عقابًا "توراتيًا": جردته من إنسانيته، وأبادت نحو 50 ألف نسمة منه، ردًا على هجوم "حماس" الصاعق على مستعمراتها وقتلها نحو 1200 شخص من سكانها وجنودها، وخطفها نحو 200 شخص منهم.

ثم أنزلت بـ"حزب الله" وبالجماعة الشيعية في لبنان عقابًا جويًّا أو سماويًّا طوال شهرين، لأن هذا "الحزب" الإيراني الولاء والإمرة، قام بحرب "مشاغلة" ضدها "إسنادًا" لغزة. وفي ضوء هذه الوقائع وسابقاتها صاغ الحاج صالح فكرته عن قوة إسرائيل التي تُخرِجها من السياسة ومن الحرب معًا، وترفعها كـ"ألوهة" تطلب لنفسها وحدها دون سواها الأمنَ الدائم والأبدي، خارج المعايير والحقوق الإنسانية والظروف والتاريخ. ويرى الكاتب السوري أن للقوة الإسرائيلية هذه "تناسخات" تافهة، كالنظام السوري الذي قَرَن قائدُه "الاستثناء" وابنُه الوريث اسميهما بـ"الأبد" في حكمِ سوريا وشعبها حكمًا طغيانيًا بالدم والسجون. وهناك أيضًا الإسلاميون، سنّة وشيعة (من خلفهم إيران)، الذين صاغوا "مقاومات" تنزع إلى "دوام الحروب الوجودية". ومن صفات هذه القوى "المتألهة": "الأنانية والكراهية والجريمة والتفاهة".

إيران التي تستتبع جماعات في لبنان وغزة الفلسطينية والعراق وسوريا واليمن، فتُنظمها وتسلحها وتزودها بعقيدتها المذهبية. ثم تستعملها دروعًا بشرية في حروب تبعثُ لدى طغمتها الدينية المذهبية الحاكمة الكالحة شعورًا إمبراطوريًا قديمًا بائدًا، وتوفّر لها أن تفاوض القوى الدولية الكبرى على تصنيعها سلاحًا نوويًا وعلى نفوذها الإقليمي في المشرق العربي.

تركيا التي مدّت نفوذها إلى سوريا الممزقة، فاستتبعت في شمالها الغربي جماعات وسلّحتها، مدفوعة بهجاسها القومي العنيد ضد مواطنيها الكرد المكتومين، وضد كرد سوريا والعراق على حدودها الجنوبية. ولا يخلو العمل التركي هذا من أصداء أحلام إمبراطورية عثمانية قديمة.

لكن خريطة النفوذ والاستتباع الإقليميين هذه في المشرق العربي المتصدعة دوله، تتقاطع وتتداخل مع خريطة عالمية للنفوذ الدولي، تتصدرها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. هذا فيما تشغل إسرائيل دائمًا موضع القلب من مستنقع الشرق الأوسط في الخريطة الأميركية والأوروبية.

السيل البشري للعائدين بشوق أليم إلى ديارهم وبيوتهم في جنوب لبنان بعد شهري الكابوس الإسرائيلي، رأى البعض أنه ينطوي على "وطنية جنوبية" توّاقة إلى عناق الأرض والموطن الأول

أما حقول القتل والأنقاض في هذا المستنقع، فتنبعث أحيانًا متوازية في بلدين عربيين أو أكثر. وفي أحيان أخرى يتناسل بعضها من بعض، مثل سوائل في أوانيَ مستطرقة. وهذا ما حدث بعد "الربيع العربي" في عام 2011. وحدث في غزة ولبنان السنةَ الأخيرة، ليبلغ القتل والتدمير الإسرائيليان فيهما ذروة يصعب على البشر تحمّلها. وحسب المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي، نادرًا ما سعت إسرائيل منذ عشرينات القرن المنصرم- أي قبل قيامها، وعندما كانت بعدُ جماعات استيطان مسلحة- إلى الخروج من "دائرة الدم". وهي أرغمت الناس في فلسطين والبلدان العربية المجاورة على القبول بقوتها المتعالية فوق البشر العاديين الذين أطلقت عليهم موجات دورية من الصدمات والترويع.

وما إن توقفت موجة الترويع الإسرائيلية الأخيرة في لبنان بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" فجر 27 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، حتى لعلع الرصاص غزيرًا في أرجاء ضاحية بيروت الجنوبية التي ظلت طوال شهرين حقلًا إسرائيليًا للقتل والأنقاض. البعض اعتبر أن ذلك الرصاص تعبير عن "ابتهاج بالنصر الإلهي"، نسجًا على منوال "نصر حزب الله" في حرب يوليو/تموز 2006. آخرون قالوا إنه "عويل" يعبر عن الغضب والصدمة حيال مشاهد الأنقاض والركام، وعن توقف الخروج من شهري الهلع والرعب والقتل اليومي.

أ.ف.ب
رجل فلسطيني يتفاعل وهو يحمل بقايا والدته ملفوفة ببطانية وسط أنقاض مبنى دمر بسبب غارة إسرائيلية على مخيم البريج للاجئين في وسط قطاع غزة في 2 نوفمبر 2023

أما ذلك السيل البشري للعائدين بشوق أليم إلى ديارهم وبيوتهم في جنوب لبنان بعد شهري الكابوس الإسرائيلي، فرأى البعض أنه ينطوي على "وطنية جنوبية" توّاقة إلى عناق الأرض والموطن الأول. وهذه "وطنية" تختلف عن الوعود "الخلاصية الأخروية" التي أطلقها "حزب الله" واستدخلها في "الهوية الشيعية" منذ تسعينات القرن العشرين، وخصوصًا بعد تحرير الشريط الحدودي الجنوبي من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000. والحق أن من سار في بعض مواكب العائدين وسجّل شهاداتهم ومشاعرهم في مدينة النبطية، تنبّه إلى تدافعها وتأرجحها بين الكمد والذهول حيال الكارثة التي حلّت بهم وبين توقهم إلى خلاص دنيوي منها.

لكن بعد ساعات قليلة من وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله"، سرعان ما اشتغل قانون الأواني المستطرقة: خطفَ هجومُ الفصائل المسلحة السورية الموالية لتركيا على مدينة حلب ومناطق واسعة في شمال سوريا الغربي، وطردُها بقايا جيش نظامها منها، الاهتمامَ الإعلامي من لبنان وتبعات الكارثة فيه. والحرب التي اندلعت فجأة في الشمال السوري تتداخل فيها عضويًا عوامل محلية أهلية وإثنية بأخرى إقليمية ودولية.

مقاتلو الفصائل والمنظمات العسكرية جميعًا رجال قساة وذكوريون، موتورون ومهانون، مأجورون ومأمورون، ومعبأون بأحقاد متأرثة، وليس لديهم ما يخسرونه بانقيادهم إلى الولاءات العصبية والحرب والاحتراب

فهل هناك من جامع بين الكوارث التي حلّت ببلدان عربية كثيرة من المشرق؟

هناك أولًا  غرسُ  دولة استعمارية استيطانية في فلسطين، لا حدّ لجبروتها العسكري ولا لتبنيها من القوى الكبرى الغربية.

وهناك ثانيًا نحو 60 سنة من تسلط أنظمة عسكرية ديكتاتورية على تلك البلدان العربية. وهي اختصرت السياسة كلها بجبروتها الأمني وسجونها وبترويعها مجتمعاتها وخنقها. وما إن تصدّعت هذه الأنظمة بعد عام 2011، حتى تحوّل المشرق مستنقعًا لجماعات وولاءات أهلية، عصبية وطائفية وإثنية، تستتبعها قوى إقليمية وتستعملها في صراعاتها في إطار نزاعات القوى الدولية الكبرى.

وقد يكون من نافل القول إن مقاتلي الفصائل والمنظمات العسكرية لهذه الجماعات، هم جميعًا رجال قساة وذكوريون، موتورون ومهانون، مأجورون ومأمورون، ومعبأون بأحقاد متأرثة، وليس لديهم ما يخسرونه بانقيادهم إلى الولاءات العصبية والحرب والاحتراب. أما الناس العاديون، أي غير المسلحين وغير المقاتلين من الرجال والنساء والأطفال، فهم المادة البشرية التي لا يحسب لها أحدٌ حسابًا، فيما تطحنهم أفعال القتل اليومي أو تشريدهم في العراء.

أ ف ب
سوريون ولبنانيون يحتفلون بسقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر، في مدينة طرابلس بشمال لبنان

وفيما اشتد تناسل حقول القتل والأنقاض والترويع في مستنقع الشرق الأوسط، صاغت الكاتبة الحضرمية هدى العطاس تجربتها العامة كوجه نسائي في الثورة اليمنية في صنعاء وعدن- قبل أن تقيم في بيروت- صوغًا شخصيًا كثيفًا، فكتبت متسائلة: "هل هذا شعوري وحدي؟ أصبح يساورني الشك الشديد حيال كل ما يجري من أحداث وما أسمعه أو أراه من أشخاص. لم أعد أثق أين يبدأ الصدق. وأين تنتهي المؤامرة. ومن أي نقطة أمنح مساحة الثقة. وأين أقف من حدود التوجس. مصابة بشعور مبهم بالترقب أينما أدرت وجهي في الجهات الأربع".

أما الكاتبة اللبنانية جوي سليم، فاختارت من قاموس "أكسفورد" عبارة "تعفن العقل" وجعلتها صفة للعام المزمع على الأفول. وأضافت أنه العام الذي "تشبعنا فيه بصور الإبادة ومشاهدها. تخمةٌ بالفظائع جعلتنا نلوك مشاهد العنف والمآسي كعلكةٍ تختفي نكهتها بعد ثوانٍ". لقد "أصبح عاديًا أن نشاهد جسد طفلةٍ ممزّقا يسبق إعلانًا لحقيبة يد. وتفصل بين الصورتين لمسة بطرف الإصبع". واستنتجت سليم أخيرًا أن "معرفتنا وأنماط حياتنا ورغباتنا وذائقتنا باتت تشكّلها حفنة من الخوارزميات- الآلهة الجديدة التي تصنعنا على صورتها ومثالها".

أخيرًا لا بد من التساؤل: كيف يمكن أن نخرج من حقول القتل والأنقاض؟

font change

مقالات ذات صلة