أصبحت الفلسفة الرواقية في زمننا هذا صنعة من الصنائع وغرضاً لمن يبحثون عن حياة جيدة من أولئك الذين لا يشعرون بالرضا بحياتهم. أصبحت صناعة، من خلال كل تلك الملخصات والاقتباسات التي تمتلئ بها مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والبودكاست والدورات التدريبية المكثفة. وهي في الواقع مناسبة فعلا– في الجملة- لبرامج تطوير الذات وكتبها التي غصت بها المكتبات، إذ لا يمكن أن نتوقع من عموم الناس أن يصلوا إلى حالة الوعي والرضا من دون مساعدة، وهناك دائماً من يرغب في تقديم المساعدة.
الرواقية متغلغلة في نصوص المُحدثين دون أن يعلم كثير منهم بذلك. "الأمور ليست بذاتها مزعجة، لكنها تصبح مزعجة بسبب الاهتمام الذي نوليه إياها". هذه الحكمة التي أصبحت مشهورة جداً وعلى كل لسان في هذه الأيام، هي في نص "التأملات" للإمبراطور الروماني والفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس. ثمة غاية مشتركة بين الرواقية ودعاة التطوير، لكن دعاة تطوير الذات وهم يستخدمون الرواقية يغفلون عن أمر في غاية الأهمية.
تأسست الرواقية في القرن الثالث قبل الميلاد على يد الفيلسوف اليوناني زينون الرواقي، وازدهرت بعد ثلاثة أو أربعة قرون مع الإمبراطور ماركوس أوريليوس، والوزير سينيكا، والمستعبد المسكين إبيكتيتوس، والثلاثة من الرومان. محور تفكيرها الأخلاق والفضيلة وتحقيق الحياة الطيبة. أزعم أن الفلاسفة الرومان لم يتفوقوا على الفلاسفة اليونان إلا في هذا النوع من الفلسفة.
في كتابه الصغير "عن الغضب" يدعونا الوزير الذكي الحكيم سينيكا إلى أن "ننمي إنسانيتنا معا". هذه هي الفكرة الرواقية الدائمة، تمكيننا من إنسانيتنا المشتركة. إنها ليست خدمة ذاتية بل خدمة جماعية
وإذا كانت الرواقية تستحق القراءة، فذلك لأنها تحثنا باستمرار على الارتقاء إلى مستوى إمكاناتنا من خلال العقل والتعاون ونكران الذات. مستوى الإمكانات هذا مجهول، فنحن لا نعرف كل قوانا الخفية، لكن يمكن لنا الاستمرار في البحث عنها، في أنفسنا، وفيما حولنا.
في عصرنا هذا، انتشرت أفكار الرواقيين بشكل غير مسبوق لأنها بُسّطت ودُسّت بكثافة في كتب تطوير الذات على صورة لم تعد فيها فلسفة، بل نصائح نفسية واجتماعية ومجرد حيل عملية وتمارين للتحرر من القلق والغضب والخوف والحزن، وتأملات تسعى للسكون والهدوء. الفارق الأهم بين الرواقية الفلسفية ورواقية تطوير الذات أن الأخيرة أنانية تركز على الذات وتتجاهل كل ما علمته الرواقية الأولى الأخلاقية من ضرورة ازدهارنا معاً، كذوات اجتماعية متصلة محلياً وعالمياً. الرواقيون الأوائل كانوا يؤمنون بأننا مواطنون عالميون مرتبطون بالبشرية جمعاء من خلال العقل، ولسنا جزءا منفصلا مبتورا عن الآخرين.
كان الإمبراطور ماركوس أوريليوس يقاتل في النهار ليكون العالم دولة واحدة هي روما، حيث يسود النور والتحضر وتحفظ فيها الكرامة الإنسانية، وتنكسر فيها الهمجية والبربرية والظلام الذي كان يخيم على العالم، وفي الليل كان يجلس ليكتب نص "التأملات" الخالد، ويدون ملاحظاته في سكون الليل بعد يوم من القتال الدامي خلال الحملات الجرمانية. بالنسبة له، العالم كله هو الوطن، ولا بد من توحيده مهما كلّف الأمر. وما لم يتحد فنحن لسنا في وطننا. ولسنا أخلاقيين إذا اختُزل الخير في المصلحة الذاتية، أو اعتمدنا على ذواتنا فقط في تحقيق الغايات. لا شيء يمكن أن تقوم به وحدك، فتصف نفسك بأنك صاحب عزيمة. الأمر ليس هكذا. وفي كتابه الصغير "عن الغضب" يدعونا الوزير الذكي الحكيم سينيكا إلى أن "ننمي إنسانيتنا معا". هذه هي الفكرة الرواقية الدائمة، تمكيننا من إنسانيتنا المشتركة. إنها ليست خدمة ذاتية بل خدمة جماعية. هذه هي الفكرة الرواقية في جوهرها، هي بلا شك تسعى للسعادة لكنها ليست سعادة الأنانيين غير المسؤولين، بل هي مشغولة بالأخلاق قبل أن تنشغل بلذة لحظية أو أحزان ذات طبيعة خاصة.