سوريا ومستقبل إيران

طهران فقدت زمام المبادرة

أ ف ب
أ ف ب
سوريون فوق دبابة تابعة لجيش النظام السوري المخلوع في دمشق، 10 ديسمبر

سوريا ومستقبل إيران

يشكل رحيل بشار الأسد عن دمشق والنهاية الواضحة لنظامه انتكاسة كبرى للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك إضعاف إسرائيل للدفاعات الجوية الإيرانية، وهزيمة "حزب الله" في لبنان، والاستياء الذي يشعر به الإيرانيون منذ أمد بعيد من كفاءة من يتولون قيادتهم، والعودة الوشيكة لدونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فمن المنطقي تماما أن يخشى القادة في طهران من أن يكون مصيرهم مماثلا لمصير عميلهم السوري.

أجرى كاتب هذا المقال، قبل أكثر من 13 عاما بقليل، حوارا مع بشار الأسد تركز على ما هو مطلوب من سوريا لاستعادة الأراضي التي خسرتها أمام إسرائيل في يونيو/حزيران 1967، وخاصة مرتفعات الجولان. وفي إطار الوساطة التي اكتسبت قوة في خريف عام 2010، لعقد اتفاقية سلام بين البلدين، أبدت إسرائيل استعدادها للتخلي عن الأراضي السورية المحتلة شريطة أن تنهي سوريا علاقاتها العسكرية مع إيران و"حزب الله" و"حماس".

أ ف ب
صور بشار الأسد والمرشد الإيراني علي خامنئي عند مدخل مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، 26 مارس 2024

لقد أخبرني الأسد حينها- في 28 فبراير/شباط 2011- أنه سيفعل ما هو متوقع منه. وأكد لي أن إيران و"حزب الله" سوف يتنازلان عن مصالحهما مقابل مصالح سوريا، فتوافقان على إنهاء العلاقات العسكرية مع سوريا إذا توصلت إلى معاهدة سلام مع إسرائيل. ولقد ساورتني بعض الشكوك، ولكن الأسد أصر على أن إيران سوف تتنازل عن علاقتها العسكرية، وأن "حزب الله" سوف يصبح حزبا سياسيا لبنانيا حالما انضم لبنان إلى سوريا في صنع السلام مع إسرائيل. والواقع أن الأسد أكد لي أيضا أن "مزارع شبعا" منطقة سورية، مقوضا بذلك الأساس المنطقي لـ"المقاومة اللبنانية".

أدت إيران دورا فعالا في إنقاذ الأسد من ثورة بدأت سلمية، ولكنها تحولت إلى ثورة مسلحة بسبب عنف النظام وإطلاق الأسد سراح المجرمين الإسلاميين من سجونه

وعندما أبلغت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد يومين بجوهر المحادثة، أعطى الضوء الأخضر للتحرك بأقصى سرعة نحو التوصل إلى معاهدة. ولكن في منتصف مارس/آذار، ضغط الأسد على المكابح بأن سمح باستخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين السوريين السلميين، الذين احتجوا على عنف الشرطة والاعتقالات غير القانونية. وسيؤدي عنف الأسد في النهاية إلى خلق ظروف ستدمر سوريا بالكامل، وتتركها حطاما محترقا تنهبه العائلة الحاكمة وحاشيتها. ومع اختياره العنف بدلا من الدبلوماسية المحلية والمصالحة، تنازل الأسد أيضا عن الجولان لإسرائيل وأخضع سوريا لإيران و"حزب الله".
أدت إيران دورا فعالا في إنقاذ الأسد من ثورة بدأت سلمية، ولكنها تحولت إلى ثورة مسلحة بسبب عنف النظام وإطلاق الأسد سراح المجرمين الإسلاميين من سجونه. وفي عام 2013 أمرت إيران "حزب الله" بالتدخل الحاسم لصالح قوات النظام في القصير. وفي عام 2015 أقنعت إيران روسيا بالتدخل لصالح الأسد بقواتها الجوية. وبمرور الوقت شكلت إيران ميليشيات مقاتلة أجنبية معظمهم من الشيعة تحت قيادة "الحرس الثوري" الإيراني كرديف لجيش الأسد في سوريا.

أ ف ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يلتقي بشار الأسد في الكرملين بموسكو في 13 سبتمبر 2021

ولكن إيران ومعها روسيا، أثبتتا عجزهما عن إنقاذ الأسد، عندما شنت "هيئة تحرير الشام" هجومها في 27 نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. وأعتقد أن "هيئة تحرير الشام"، التي اغتنمت هزيمة "حزب الله" في لبنان وخسارة إيران لنظام دفاعها الجوي الروسي (غير الفعال) بفعل ضربات إسرائيل، قررت توسيع حكمها المحلي في شمال غربي سوريا ليمتد إلى حلب. وقد تمكنت من ذلك دون جهد تقريبا، ولاحظتْ أمرا مفاجئا في أثناء استيلائها على حلب: قوات نظام الأسد تتلاشى ببساطة، وهي ظاهرة تكررت في كل من حماة وحمص. وأصبحت بوابة دمشق مفتوحة أمامها على مصراعيها، ولا أحد يسد عليها الطريق.

أفضل سيناريو من الناحية النظرية هو أن يسعى من يتولون السلطة في سوريا إلى إقامة نظام حكم يعتمد على الوطنية السورية والمواطنة السورية

بطبيعة الحال، أرادت طهران وموسكو إنقاذ عميلهما. فسوريا هي حلقة الوصل البرية الحيوية التي تربط إيران مع "حزب الله"، درة تاج طموحاتها بالهيمنة. وتعلم طهران أن لا أحد سوى الأسد يمكنه أن يخضع سوريا لها ولوكيلها اللبناني. وكانت تأمل في إعادة بناء هذا الوكيل بعد هزيمته المدمرة. أما بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فسوريا أكثر من مجرد قاعدة عسكرية على البحر الأبيض المتوسط. فهي "الدليل" الذي يقدمه للشعب الروسي على عودة روسيا المفترضة إلى مقام القوة العظمى. فقد "أنقذت" موسكو الأسد على الرغم من مكائد الرئيس باراك أوباما المزعومة في تغيير النظام في سوريا.
ولكن عندما حاولت إيران وروسيا دعم الجيش السوري، وجدتا أيديهما تمسكان ببزّات عسكرية فارغة. فسنوات من الخمول القتالي، التي تملؤها الجريمة والفساد والسرقة وإنتاج الأمفيتامينات، أدت إلى استنزاف الجيش السوري وهدر معنوياته، وجعلته غير صالح للقتال. وكانت روسيا تعرف أن القوة الجوية التكتيكية لن تكفي لوقف المتمردين. وعلاوة على ذلك، أمضى الطيارون الروس سنوات في سوريا في استهداف المدنيين العزل، وتطوير تخصص مميت في تدمير المرافق الطبية. كما تعلم إيران أن ميليشياتها المساعدة لن تكون كافية. وشوهدت قوات "حزب الله" وهي تغادر سوريا عبر القصير، هذا المكان الذي حققت فيه انتصارها على المتمردين السوريين عام 2013.

أ ف ب
صورة التقطت في 2 أغسطس 2017 خلال جولة نظمها "حزب الله" في بلدة فليطة بالقرب من الحدود اللبنانية السورية

وأفضل سيناريو من الناحية النظرية هو أن يسعى من يتولون السلطة في سوريا إلى إقامة نظام حكم يعتمد على الوطنية السورية والمواطنة السورية. لا شك أن الأقليات مذعورة مما قد يأتي بعد ذلك. غير أن جعل هزيمة إيران في سوريا هزيمة دائمة، تتطلب شيئا يقترب من الوحدة الوطنية، ولن تكون الوحدة قابلة للتحقيق إذا اتُبعت أجندات طائفية ومورست انتهاكات لحقوق الإنسان. وليس سجل "هيئة تحرير الشام" في محافظة إدلب إيجابيا في هذا الصدد. وقد تمنح واشنطن وأنقرة وغيرهما من الدول "هيئة تحرير الشام" قبولا مشروطا بتعديل سلوكها في الاتجاهات الصحيحة. إلا أن طهران تأمل وتصلي أن تعاود جذور تنظيم "القاعدة" بروزها إلى واجهة "هيئة تحرير الشام"، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى عودة نظام صديق للهيمنة الإقليمية الإيرانية في سوريا.
اعتمدت طهران طيلة عقود على الخوف الأميركي من اندلاع حرب إقليمية لتحقيق أهدافها بـ"الضرب بما يفوق حجمها"، إذا استعرنا هذا التعبير من رياضة الملاكمة. ففي عام 1983، دبرت طهران هجمات على السفارة الأميركية في بيروت وعلى مقر قوات حفظ السلام الأميركية في لبنان، أسفرت عن مقتل 241 أميركيا في لبنان. وكان هذا الهجوم في لبنان يعادل الهجوم على بيرل هاربور عام 1941. وحتى يومنا هذا، لا يكاد زعماء الجمهورية الإسلامية يصدقون أنهم أفلتوا من العقاب. ومنذ ذلك الحين، باستثناءات نادرة، افترضوا في طهران أن تجنب واشنطن للحرب مع إيران، يأتي على رأس أولوياتها.

بالنسبة لطهران، فإن خسارة سوريا ليست سوى آخر حلقة من سلسلة الأخبار السيئة غير المتوقعة

لن تسعى إدارة ترمب القادمة إلى إيجاد ذريعة كي تشن حربا على إيران. بل ستكون منفتحة على التوصل إلى اتفاق مع طهران، يرفع جميع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن إيران في مقابل اتفاق نووي قوي طويل الأمد وقابل للتحقق، مع إجراءات إيرانية محددة تشير إلى نهاية مغامرات الهيمنة التي اتبعتها حيال العالم العربي. ولكن ينبغي على طهران أن تتخلى عن كل وهم، وإلا فسوف يعود ترمب إلى سياسته القائمة على  ممارسة "الضغط الأقصى"، كما لن تتراجع إدارة ترمب عن اتخاذ تدابير عسكرية إذا استدعت طهران ذلك، بتحركها نحو التسلح النووي، أو مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة، أو مهاجمة القوات الأميركية في العراق أو سوريا.
إن الوحشية والفساد وانعدام الكفاءة، كلها سمات الحكم في إيران، كما كانت سمات حكم الأسد في سوريا. وهذه السمات هي التي تفسر لِمَ يشكل الشعب الإيراني أكبر نقاط الضعف في النظام الديني في إيران. وقد أثبت بشار الأسد أنه مزيج من عدم الاهتمام بالإصلاح الجاد وعدم القدرة عليه. ويشتبه المرء في أن الملالي وأعوانهم غير مهتمين وغير قادرين مثله. وربما يختبرون ما اختبره عميلهم السوري: انهيار مباغت لنظام فاسد.
بالنسبة لطهران، فإن خسارة سوريا ليست سوى آخر حلقة من سلسلة الأخبار السيئة غير المتوقعة. فقبل بضعة أشهر فقط بدا كأنما تشجيعها لـ"حماس" على "القيام بشيء كبير" في إسرائيل، هو ضرب من العبقرية الاستراتيجية، بعد أن بدا أنها دمرت احتمال تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. أما الآن فكل شيء أمسى رمادا. وكل ما يمكنها الاعتماد عليه الآن، لتعويض ثروتها وموقعها، هو أن يخطئ لاعبون متباينون مثل بنيامين نتنياهو، وأبو محمد الجولاني من "هيئة تحرير الشام"، ودونالد ترمب، في لعب الأوراق التي في أيديهم. فمصير طهران بات في أيدي هؤلاء حقا. ولا شك أن هذا شعور غير مريح لمن اعتاد على امتلاك زمام المبادرة.

* زميل أول في مركز "بارد كوليدج للمشاركة المدنية". وهو مؤلف كتاب "الوصول إلى المرتفعات: قصة من داخل محاولة سرية للتوصل إلى سلام سوري إسرائيلي" (2022)

font change

مقالات ذات صلة