لم يعرف العالم منذ الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، ومرورا بمجمل الحروب والثورات الأوروبية والآسيوية وصولا إلى العربية، مثل هذه التحديات المصيرية والكيانية والثقافية والحضارية. كأنما العالم، بكل إنجازاته، انقلب على قيمه التاريخية والفكرية والفلسفية والسياسية والثقافية. نحن اليوم في المنقلبات، وفي الضفاف الرمادية الملتبسة. الاهتزاز سمة هذه المرحلة، اهتزاز الديموقراطيات والفنون والدول والمؤسسات والأنظمة. كل شي كأنه رهن المجهول. كل شيء على شفيره.
ونحن في العالم العربي، ولأننا لا يمكن أن نكون بمنأى عمّا يجري حولنا وأبعد منا، جزء من هذه الأزمات الكيانية والوجودية. بل نعاني ما هو أخطر وأفدح، فالإرث، كتراكم حضاري واجتماعي وثقافي على حافة الخطر. وبعض الكيانات العربية مهدّدة بكلّيتها أو بجزئيتها، كأنما هي مهدّدة بالاضمحلال. ليس كهياكل مؤسساتية، من سلطات وأنظمة، بل كشعوب وحدود وديموغرافيات واحتلالات أجنبية صارخة وعنف.
التباسات
أما الثقافة، فليست إطلاقا بمنأى من ذلك: فعندما يلتبس الإرثان السالف والحديث، على هذه الفوضى السديمية، فيعني ذلك تشوشا في أنظمة القيم وتعابيرها ومضامينها، من أدب وفكر وفلسفة ومسرح وفنون: كأنما هذه الهجرات المليونية العربية القسرية، تركت فراغا ليس في أماكنها الأصلية القطرية فحسب، بل في العديد من المناطق العربية. وهذا، قد يؤدي إلى اقتلاع قيَم وجذور.
إنه الجمهور يُطرد من تاريخه ومن منازله، ومن دُوره، ومن مسارحه، ومن فضاءاته، ومن ذاكرته، ومن حاضره، ومن ماضيه. والسؤال الكبير هل ساهمت النخب باختياراتها وانتماءاتها وإنتاجاتها وممارساتها في إدراك هذا الانهيار الرهيب؟ هل استشعرت بالكوارث المحتدمة في بواطن مجتمعاتها؟ وإلى أي مدى يمكن أن يساهم المسرح، والشعر والفنون والفكر؟ لا نقول ذلك من باب المحاسبة والمحاكمة، بقدر ما تطرح أسئلة مباشرة عن واقعنا الكلّي، وعن احتمالات تحدياتنا وقدراتنا، على استدراك نوع من الوعي الشامل، أبعد من التنظيرات والمعطيات الجاهزة التي وسمت القرن العشرين.