سوريا من هشاشة الدولة إلى خطر تفككهاhttps://www.majalla.com/node/323410/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D9%87%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%83%D9%87%D8%A7
لم تعد تطورات الأحداث في سوريا مفاجئة، وإنما باتت تثير الاستغراب. فروسيا قررت سحب دعمها لبقاء بشار الأسد في الحكم، وإيران تفكر بالتعامل مع سيطرة الفصائل المعارضة على الحكم باعتباره أصبح أمرا واقعا، وغيرت خطابها في وصفهم من "الإرهابيين" إلى "الجماعات المعارضة". أما تركيا فلم تخف تدخلها عندما أعلنت أن الهدف النهائي لهذه الجماعات المسلحة هو دمشق، وأعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان أن الأسد رفض الجلوس والحوار معه لتحديد مستقبل سوريا. والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب كتب على منصة "X": "هذه ليست معركتنا.. دع الأمور تحدث ولا تتدخل".
سوريا الدولة التي تآكلت شرعية طبقتها الحاكمة، والتي تصدرت تصنيف الدول الفاشلة، وأصبحت سيادتها مخترقة ومتنازعا عليها بين نفوذ إقليمي ودولي، وفق كل هذه الوقائع فإن التفكير ببقاء نظام الحكم فيها يخضع لرهان عامل الزمن ليس أكثر. فالقاعدة العامة التي تحدد بقاء أو انهيار نظام الحكم في الدول الهشة، يرتهن ببقاء الدعم الخارجي له، لأن البلاد التي تتحول إلى ساحة لصراع دول إقليمية، يكون نظام حكمها مشابها لمسرح الدمى.
ورغم أن الأحداث تدور على أرضها، فإن الموضوع أكبر من قضية سوريا ونظام حكمها والقوى المعارضة وفصائلها المسلحة. وإنما هو فشل مشروع إقليمي-دولي، وبداية مرحلة جديدة لإعادة هندسة النفوذ الإقليمي في الشرق الأوسط. المشروع الإيراني الذي بدأ قبل عشرين عاماً بفكرة "الهلال الشيعي" وتشكل بعنوان "محور المقاومة"، وتمظهر بعد الاستثمار بمنجز "حزب الله" في تحقيق انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وفرض نفوذه وأجندته على التغيير السياسي في العراق بعد 2003، وعمّق حلفه الاستراتيجي مع نظام بشار الأسد في سوريا لمواجهة الأميركيين في العراق، وتمركز في اليمن بعد سيطرة الحوثيين هناك، كل هذه المنجزات التي حققتها إيران، كان من أول تحدياتها أحداث سوريا في 2011، والتي تحولت إلى استنزاف للمشروع الإيراني. وصحيح أن إيران نجحت في الحفاظ على حكم الأسد لمدة 13 عاماً، لكن الثمن هو قبول تقاسمها النفوذ مع روسيا وتركيا والولايات المتحدة. حتى أصبحت اليوم خارج معادلة النفوذ بسقوط حكم الأسد.
بقاء النظام السياسي واستمراره يتطلب دعم المجموعات ذات النفوذ، والتي تمتلك الثروة والمهارة اللازمة لإدارة وإدامة بقاء الدولة
بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأ النفوذ الإيراني يدخل مرحلة المواجهة الحقيقية مع إسرائيل. ولم تقتصر هذه المواجهة على "محور المقاومة" الذي تقوده إيران. وإنما مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران، والتي كانت نتيجتها اغتيالات داخل إيران وتبادل الهجمات بالصواريخ بين طهران وتل أبيب. والأهم أن مشروع إيران في تشكيل "محور المقاومة" و"وحدة الساحة"، باعتباره الركيزة الأساسية في استراتيجية الردع والمواجهة مع إسرائيل، بات رهانا خاسرا بالنسبة لإيران وعجز عن تحقيق غايته في منع استهداف العمق الإيراني، وأصبحت إيران تتلقى الهجمات في مناطق نفوذها وعمقها الاستراتيجي!
المشكلة الحقيقية أن البلدان التي رسخت إيران نفوذها فيها، تعمقت فيها هشاشة الدولة أكثر وأكثر، وازدادت الفجوة بين النخب الحاكمة ومجتمعها. لأن إيران لم تعمل على تقوية هذه الدول، وإنما عملت على تقوية سلطة وهيمنة الكيانات الطائفية على حساب الدولة، وحتى النظام السوري، حيث عملت على بقاء سطوة حكم بشار الأسد طوال 13 عاماً، وكان دعمها من خلال السلاح ولم تفكر في حل سياسي يحتوي القوى المعارضة السياسية ويفصل بينها وبين المعارضة المسلحة. وكان يمكن لحكم حليفها بشار الأسد أن يبقى قوياً وليس متقطع الأوصال بين نفوذ روسي وتركي وإيراني.
إذن، انهيار نظام الحكم في سوريا، هو نتيجة طبيعة لرهن إرادة بقائه على الدعم الخارجي. وهو درس مهم للدول الهشة التي ترهن نخبها الحاكمة بقاءها في سدة الحكم تحت رحمة دولة أخرى، بدلاً من الركون إلى توثيق علاقتها مع شعوبها، وتقديم منجز خدمي وتنموي لها.
ولذلك، يبقى السؤال الأخطر بعد سقوط حكم الأسد، الذي فقد سطوته منذ 2011، وفقد سيادته لصالح فاعلين دوليين وإقليميين: هل هناك خطر على تفكك أو انهيار الدولة في سوريا؟ في دراسة تفكيكية مهمة تناقش "ماذا يفعل فشل الدولة؟"، قدمت الباحثة كاتي كليمنت (Caty Clément) أربعة متغيرات أساسية يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة، وهي:
1. المتغير الأول، يتمثل في "تناقض البيئة الخارجية": التحول في البيئة الدولية من التدخل للحفاظ على تماسك الدولة إلى عدم التدخل، بصرف النظر عن درجة تماسكها الداخلي.
2. المتغير الثاني، متغير اقتصادي: ويرتبط بتزايد الحرمان والفقر وانهيار الاقتصاد وتدهور مستويات المعيشة نشوء اقتصاد المافايات.
3. المتغير الثالث، تعبئة الجماعات ذات النفوذ: الهويات الموجودة على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو القومية، والتي لديها دافع قوي للتعبئة السياسية، إلا أنها تشعر بالحرمان أو التهميش، مما يشكل لديها حافزاً قوياً للتمرد ضد الجماعات الأخرى التي تستحوذ على السلطة وتتمتع بنفوذها. ومن هنا يحدث الصدام بين المجموعات التي تطالب بالتغيير لأنها تعتقد بالتهميش، وجماعات تحاول المحافظة على الوضع القائم. وبقاء النظام السياسي واستمراره يتطلب دعم المجموعات ذات النفوذ، والتي تمتلك الثروة والمهارة اللازمة لإدارة وإدامة بقاء الدولة.
ما حدث في سوريا منذ 2011 ولحد يومنا هذا تأجيل لتفكك الدولة بسبب الدعم الخارجي، وتحديداً الإيراني والروسي
4. المتغير الرابع، ضعف الاستيعاب المتبادل للنخب: في النظام السياسي المثالي يمكن تهدئة العنف السياسي بآليات إدارة الصراع. إذ تتم إدامة الاستقرار بآلية "الاستيعاب المتبادل" أو تدوير النخب الجديدة الصاعدة في المجتمع، ودمجها في عمل النظام السياسي القائم، وجعلها أصحاب مصالح فيه، وعلى ذلك سيزيد النظام تأثيره في المجتمع. وفي حال التحول من نظام سياسي إلى نظام آخر يكون أحد أهم أسباب عدم الاستقرار هو عجز النظام عن تدوير النخب واستيعاب النخب الجديدة، أو إقصاء النخب القديمة ومن ثم يتطور عدم الاستقرار إلى صراع حاد وقد يتخذ شكل العنف السياسي، وفي النهاية يؤدي إلى انهيار الدولة.
تفاعل هذه المتغيرات الأربعة يمكن أن يساهم في تفكك الدولة الفاشلة، إلا أن المتغير الأهم الذي يمكن أن يؤجل الانهيار هو العامل الخارجي. لذلك ما حدث في سوريا منذ 2011 وحتى يومنا هذا هو تأجيل تفكك الدولة بسبب الدعم الخارجي، وتحديدا الإيراني والروسي. ومن ثم، بعد سقوط حكم بشار الأسد، أصبحت إيران وروسيا خارج دائرة النفوذ في الأراضي السورية. وأصبحنا أمام احتمالية عالية لتفكك سوريا، إلا إذا كانت للإرادات الخارجية الأخرى مثل تركيا والولايات المتحدة الأميركية ودول خليجية ممانعة لحدوث تقسيم سوريا. وربما لن تنجح القوى السياسية والنخب الحاكمة الجديدة في المستقبل القريب من التخلص من بقايا فشل الدولة، وقد يكون الطريق طويل أمامها إذا لم يكن هناك مشروع سياسي واضح، وخارطة طريق واضحة للعدالة الانتقالية ويتوفر لها الدعم والإسناد من القوى الإقليمية والدولية.
المهم الآن، فرحة السوريين بسقوط نظام دكتاتوري كان نظاماً كاريكاتيريا أمام قوى الفاعلين الإقليميين والدوليين، ويفرض سطوته بالحديد والنار على شعبه. أما مستقبل سوريا كدولة ونظام، ربما يكون تحديا كبيرا أمام السوريين ونخبهم الحاكمة الجديدة. ولكن تبقى المشكلة الأكثر تعقيداً أن الداء هو الدواء في سوريا. إذ لطالما كانت هشاشة الدولة السورية بسبب التدخلات الخارجية، وفي الوقت نفسه فإنّ قرار بقائها دولة موحدة أو تحولها دولة مفككة هو قرار الفاعلين الدوليين والإقليميين.