فتحت سوريا صفحة جديدة مع سقوط نظام بشار الأسد. ويشعر السوريون وكأنهم قد ولدوا من جديد، إذ يغمرهم مزيج من الحماس والسعادة رغم استمرار الشكوك والمخاوف التي تخيم على المشهد.
بينما عاش الأسد، الذي حافظ على موقعه بدعم من روسيا وإيران، حياة مترفة في قصره على جبل قاسيون، كافح الشعب السوري، بما في ذلك الكثير من مؤيديه السابقين، للبقاء على قيد الحياة بأبسط مقومات العيش. استشرى الفساد والأنشطة غير المشروعة، ما أدى إلى زيادة تفكك البلاد إلى أجزاء متعددة. وفي ظل هذه الظروف القاسية، كان من المستحيل أن يستمر نظام الأسد وكأن شيئا لم يكن.
تعلمنا الدروس المستقاة من التاريخ أن الطغاة لا يمكنهم الاستمرار في حكمهم إلى الأبد. فمهما بلغت قسوة الطاغية ودهاؤه، فإن عجلة الزمن تدور دائما. وها هو الأسد ينضم الآن إلى صفوف الطغاة الذين أطيح بهم.
القضية الأكثر إلحاحا في سوريا اليوم هي إنشاء إدارة انتقالية تحول دون وقوع فراغ في السلطة أو عودة الحرب الأهلية.
أحد الشخصيات الرئيسة في هذا الفصل الجديد هو أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني، زعيم "هيئة تحرير الشام". يقدم الجولاني رسائل معتدلة تهدف إلى تعزيز الثقة بين مختلف الأطراف. وكما أشرنا سابقا في "المجلة"، أصبحت "هيئة تحرير الشام" التي تعود جذورها إلى "تنظيم القاعدة" و"جبهة النصرة"، نموذجا مشابها لطالبان، ولكن بطابع مخصص للسياق السوري.
في المقابل، اكتسبت تركيا مكانة دولية مرموقة، حيث يعزى إليها الفضل في دورها المحوري في إسقاط الأسد. وخلال مؤتمر صحافي في الدوحة، تعهد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بمساعدة السوريين في إعادة بناء بلدهم.
وفي خضم هذا التحول، كانت إيران وروسيا أكبر الخاسرين. فقد شهد النفوذ الإيراني في سوريا تراجعا كبيرا، ما أدى إلى إضعاف "محور المقاومة" الذي يربط بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. كما تعطل الممر اللوجستي الحيوي الذي يربط إيران بالمشرق.
وعلى الرغم من احتفاظ روسيا بقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم، إلا أنها فقدت الكثير من مكانتها الإقليمية. وظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، رغم ثقته الظاهرة خلال مشاركته في منتدى الدوحة، في موقف محرج نتيجة للتطورات السريعة التي تلت تصريحاته.
لقد دفعت كل من روسيا وإيران ثمنا باهظا في سوريا، وأصبحتا الآن موضع كراهية لدى شريحة كبيرة من السوريين.
يعكس الوضع الحالي شبكة معقدة من المفاوضات متعددة الأطراف، تضم الكثير من الجهات الفاعلة: تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والدول العربية الإقليمية و"هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" و"وحدات حماية الشعب" وبقايا النظام نفسه. وفي لعبة القوة المعقدة هذه، تتغير التحالفات بسرعة، حيث تتصارع الأطراف وتتعاون في الوقت ذاته.
ليس من المفاجئ أن تشهد هذه الدول صراعات مستمرة ومعارك متبادلة. ففي عالم الدبلوماسية الدولية لأزمات النزاعات، غالبا ما تعمل الديناميكيات الإقليمية والعالمية في منطقة رمادية، حيث يمكن للخصوم أن يتصافحوا بيد، بينما يحكمون قبضتهم بخناق بعضهم باليد الأخرى.