كانت أقسى الحروب اللبنانية وأصعبها، ليس من حيث حجم الدمار وعدد الضحايا في مدة زمنية قصيرة بالكاد تجاوزت الشهرين، بل لأنها حرب تطوي مرحلة بأكملها من دون أن تكون معالم المرحلة الجديدة واضحة. خصوصا أن وطأة المرحلة السابقة التي تستمر في أقل تقدير منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، هي وطأة ثقيلة جدا لن يكون من السهل التخفف أو التخلص من أعبائها واختلالاتها الفادحة على المستوى الوطني. ولا سيما أن تلك الاختلالات العميقة والمستمرة، والتي تعود بالدرجة الأولى إلى محاولة "حزب الله" فرض هيمنته على الدولة والمجتمع في سياق المشروع التوسعي الإيراني، صحّرت السياسة اللبنانية، وقضت تدريجيا على أي أفق لمشروع وطني جدّي، يعيد استنهاض البلد من الركام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يغرق فيه.
لا ريب إذن أن مقولة غرامشي الشهيرة: "تتجلى الأزمة تحديدا في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد"، تنطبق بقوة على الحالة اللبنانية الحاضرة. ولا سيما أن القديم اللبناني شهد تحولات كبرى منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 وبدء الوصاية السورية على لبنان، ومنذ اغتيال الحريري وبعده حرب صيف 2006، ومنذ الانهيار الاقتصادي في 2019 وبعده انفجار مرفأ بيروت في صيف 2020. وهي تحولات أوصلتها الحرب الأخيرة إلى نهايتها بل إلى مأزقها، وذلك بالنظر إلى أن الشعارات والسردية الأساسية التي تبناها "حزب الله" وفرضها بالقوة طيلة المرحلة السابقة قد سقطت، وأهمها نظرية "توازن الرعب" مع إسرائيل والتي بنى "الحزب" عليها واقعا سياسيا مختلا ومشوبا بالتناقضات الوطنية الكبرى.
والحال فقد استطاع "حزب الله" بالترهيب والترغيب إعادة هندسة الواقع اللبناني على قاعدة أن السياسة في لبنان يجب أن يكون مؤداها الحفاظ على "توازن الرعب" ذاك وتقويته، ولو أدى ذلك إلى تعميق الانقسام اللبناني الطائفي– السياسي في بلد ذي تركيبة معقدة، ما يجعل أي محاولة من جانب أي مكون سياسي– طائفي للهيمنة على المكونات الأخرى، تؤدي حكما إلى ضرب التوافقات والتسويات التي تحافظ، بالحدود الممكنة، على النظام والدولة. وإن كانت تلك التسويات والتوافقات ذات منحى سلبي أحيانا، إذا ما قيست على إمكانات تطوير النظام والدولة، لناحية تجسيد فكرتي المواطنة والديمقراطية إلى جانب العدالة الاجتماعية.
والأدهى أن محاولة "حزب الله" لجعل البلد رهينة نظرية "توازن الرعب"، جعلت سلاحه فوق البلد برمته، وصولا حتى إلى استخدامه في الداخل اللبناني في 7 مايو/أيار 2008 تحت شعار "السلاح دفاعا عن السلاح"، ومن ثم مشاركته في الحرب السورية بدءا من عام 2012، على اعتبار أن تلك الحرب هي مؤامرة دولية على "محور المقاومة" وأنه "سيكون حيث يجب أن يكون" للدفاع عن "المقاومة.