الجنوب سودانية إستيلا قايتانو لـ"المجلة": قلوبنا تحوّلت إلى بيت واسع للحزنhttps://www.majalla.com/node/323405/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D9%84%D8%A7-%D9%82%D8%A7%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%88-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D9%82%D9%84%D9%88%D8%A8%D9%86%D8%A7-%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%91%D9%84%D8%AA-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%B9-%D9%84%D9%84%D8%AD%D8%B2%D9%86
وُلدت إستيلا قايتانو في الخرطوم لوالدين تعود أصولهما لجنوب السودان الذي أصبح دولة مستقلة عام 2011. ولأنها تعلمت العربية وأكملت دراستها الجامعية بها أيضا، كتبت نصوصها بالعربية. بدأت تجربتها في الكتابة بمجموعتين قصصيتين هما "زهور ذابلة" (2004) و"العودة" (2014)، قبل أن تنشر روايتها الأولى "أرواح إدّو" (2019) التي نالت ترجمتها الإنكليزية جائزة "القلم" البريطانية، وبفضلها بات اسمها معروفا أكثر، وخصوصا خارج السودان.
في أحداث وعوالم نصوصها السردية، تمزج قايتانو تفاصيل عدة من البيئة السودانية المتداخلة مع عالم أفريقي غارق في غرائبيته وحكاياته الشفوية وأساطيره وأنماط عيشه، بينما تعيش الشخصيات انقسامات الهوية والتمييز على خلفية الصراعات والحروب التي دارت، ولا تزال تدور، في السودان.
تعيش قايتانو حاليا في ألمانيا، وقد صدرت لها حديثا رواية ثانية بعنوان "إيريم"، ونُشرت مختارات من قصصها مترجمة إلى الألمانية. هنا حوار حول تجربتها وحول المشهد الأدبي في جنوب السودان.
* لنبدأ من فكرة أنك كاتبة من جنوب السودان، وتكتبين باللغة العربية. ماذا يعني لك ذلك؟
- قبل أن تظهر كتابات لكتاب جنوبيين يكتبون بالعربية، درج حتى أخوتنا السودانيون في شمال البلاد ووسطها على الاكتفاء بأن الكتاب الجنوبيين يكتبون باللغة الإنكليزية، وإذا اهتم أحد بكتاباتهم فعليه قراءتها بالإنكليزية أو مترجمة. ولم تكن الترجمة نشطة، لذا لم يكن هناك انتشار لكل المكتوب بلغة أخرى غير العربية. بقيت تلك الكتابات متداولة بين النخب الثقافية التي تجيد الانكليزية، سواء في الجنوب أو في الشمال. الكتاب الجنوبيون في ذلك الوقت كانوا تلقوا تعليمهم باللغة الإنكليزية في جنوب السودان، وواصل كثيرون تعليمهم في دول المهجر واللجوء سواء في الجوار الأفريقي او في دول العالم الأول. وهكذا أصبحت الإنكليزية هي اللغة الثانية المكتسبة التي استخدموها في السرد والصحافة والشعر، وكانت لكل منهم لغة محلية أفريقية تعتبر اللغة الأم. بالنسبة إليّ أو الى جيلي إذا صح التعبير، حدث أمرٌ مماثل، لكنه تمثل هذه المرة في النزوح الكبير لكثير من المواطنين الجنوبيين قبل الحرب الأهلية وأثناءها إلى شمال السودان. نزح والداي من الجنوب، وصادف أنني وأخوتي ولدنا وترعرعنا في الخرطوم، وتلقينا التعليم باللغة العربية، واكتسبتها كلغة للتعبير. في كلتا الحالتين كانت هناك لغة أمّ نتحدث بها مع أهلنا وأقاربنا وتختلف من مجموعة أثنية إلى أخرى.
عندما أقول السودان أعني السودان/ جنوب السودان، من دون تجاهل تأثيرات المحيط العربي والأفريقي علينا
هذا هو التفسير المبسط جدا للأمر برمّته. ولكن إذا كان لا بد من التحدث عن موضوع اللغة لجهة جوانبه السياسية، فإنني أجد أنه من الطبيعي أن يكتب أي مواطن سوداني بالعربية طالما أنها اللغة المهيمنة، لأن هذا كان ولا يزال هو التوجه السياسي والأيديولوجي للحكومات المركزية التي حكمت السودان بعد الاستقلال، ومعروف من وجهة نظرها ومن جزء كبير من المواطنين، أن السودان دولة عربية إسلامية وأن البقية هم عبارة عن أقليات. وكان جنوب السودان جزءا من هذا كله حتى عام 2011 القريب جدا. اللغة العربية الرسمية هي لغة أغلب المناهج الدراسية. لذلك أجد أنه من الطبيعي أن أكتب بالعربية. ماذا يعني لي ذلك كله؟ هذا يعني لي الكثير. إن نشأتي بين كل هذه الثقافات السودانية بتقاطعاتها العربية/ الأفريقية، وبروز الهوية كعامل من عوامل الصراع، شكّلا وعيي السياسي والإبداعي، بحيث أنني لا يمكن أن أرى ما يحدث في السودان كصور منعزلة بعضها عن بعض. وعندما أقول السودان أعني السودان/ جنوب السودان، من دون تجاهل تأثيرات المحيط العربي والأفريقي علينا أيضا.
مؤثّرات
كيف كانت بداياتك، ماذا كانت المؤثرات والقراءات، وصولا إلى نشر مجموعتك القصصية الأولى "زهور ذابلة" سنة 2014؟
كنتُ قارئة نهمة. بدأت بكتب المراهقين والمجلات، ثم انتقلت تدريجيا إلى الكتب الاخرى، ولم أكن افهم كل ما هو مكتوب، ولكن مجرد تمكني من القراءة والتهام تلك الصفحات كان إنجازا بالنسبة إلي. بعدها حدث الانفتاح العظيم على كل شيء. كأنني كنت أقف خلف باب موصد وفتحه أحدهم فجأة. وجدت نفسي في عوالم ساحرة، وأصبحت الكتب ملاذي ونجاتي في أغلب الاوقات.
أعتقد أن أكثر ما حرّضني على الكتابة كان الأدب الروسي، والسحر الموجود في أدب أميركا اللاتينية. وخاصة الاخيرة، أشعر بأن واقعيتها السحرية موجودة بشكل ما في السودان الكبير.
بدأت بنشر قصص قصيرة في الملفات الثقافية في الصحف. كان الامر سهلا لأن بعض الشعراء والصحافيين الذين تعرفت إليهم في سنتي الجامعية الاولى كانوا مشرفين على هذه الملفات. ولحسن الحظ كانوا مهتمين بالأقلام الجديدة في الساحة وخاصة الأصوات النسائية. أصبح النشر الأسبوعي في هذه الملفات بمثابة واجب صارم ألتزم أداءه. لقد تعاملت مع الكتابة بجدّية. في البداية كأي مبتدئ، كنت أكتب قصصا قصيرة، أفكارها تشبه عشرات الافكار التي مرّت عليّ في قراءاتي الى حدّ ما. ثم بدأت أكتب نصوصا مختلفة. تناولتُ المواضيع التي توخز قلبي، تارة احتجاجا وتارة تسليط ضوء وأخرى تعريفا بالجنوب المجهول لدى الكثير من السودانيين غير الجنوبيين. كنت أعتقد بأننا لا نعرف بعضنا البعض، ثم بدأت أتتبع آثار الحرب.
مجموعتي القصصية الأولى "زهور ذابلة"، يمكنك أن تقول إنها كانت كتابة هاوية، لم أكن أعرف ما هي القصة القصيرة ولا قواعدها، كنت فقط أريد أن أكتب شيئا مناسبا لكي يُنشر في نصف صفحة او أقل في صحيفة يومية. لحسن حظي، لفتت تلك القصص الأنظار، خاصة أنها لكاتبة شابة من جنوب السودان وتكتب مباشرة باللغة العربية دون الحاجة إلى الترجمة. ولكن تلك الميزة أرعبتني أيضا. خفت أن يجاملني الوسط الثقافي وألا أُعامل بالندّية المطلوبة، فاشتغلت على نفسي وما زلت، لكي أجيد التعبير باللغة العربية، بكل التعقيدات التي فيها.
أدب جنوب السودان
كيف يبدو المشهد الأدبي في جنوب السودان، فهو شبه مجهول في العالم العربي إذا استثنينا ما نعرفه عن السودان العربي. هل هناك جيل تنتمين إليه مثلا؟
هو "أفريقيا غير العربية التي تكتب بالعربية". لكي أكون دقيقة، جاء هذا الاقتباس في مجلة " ذي كومون" الأدبية الأميركية عندما نشرت نصوصا من دول جنوب العالم العربي. أشعر أن هذه التسمية الطويلة، رفعت الحَرَج عن كثير من الكتاب من جنوب السودان/ إريتريا/ تشاد ...الخ الذين يصعب عليهم الكتابة بلغاتهم الأم أو يكتبون بها ولكنهم يأملون أن يقرأهم قراء آخرون، فوجدوا في اللغة العربية ملاذهم. هم ليسوا عربا ولكنهم يكتبون باللغة العربية عن عوالم أفريقية وأخرى غير أفريقية. هل يمكن أن يسمى أدبهم أدبا عربيا؟ أم أنه أدب أفريقي مكتوب بالعربية كما جاء في بداية الحديث؟
الجنوب مجهول لغيابه في المنصات العربية، بالإضافة الى ضعف عملية النشر والتوزيع، وربما هو تقصير متبادل
المشهد الادبي في جنوب السودان مبشّر وفي حالة نمو دائم، خاصة المكتوب بالعربية، فهناك روائيون مثل آرثر غبريال وهو يكتب بمهارة باللغتين العربية والإنكليزية، وبوي جون قاص وروائي، والاثنان حصلا على منحة "المورد الثقافي". بالإضافة إلى الشعراء مثل نيالاو حسن آيول المعروفة بشعرها المميز، والشاعر أتيم سايمون، هذا فقط على سبيل المثل وليس الحصر، وأعتذر لصعوبة ذكر جميع الاسماء هنا. كما أن هناك حركة ترجمة نشطة يقودها الشاب المجتهد يدجوك آقويت. وهناك حركة نشر نشطة تقوم بها دور نشر رائدة تنشر الكتاب العربي والإنكليزي مثل دار "رفيقي للنشر" كأول دار نشر في دولة جنوب السودان، ولحقتها دار "ويلوس هاوس" لصاحبتها النشيطة جدا قاتا ويلو، التي تشارك في أغلب معارض الكتاب في العالم العربي. وهناك أيضا حركة ثقافية في القاهرة، ويمكن أن نعتبر هؤلاء جيلا جديدا من الكتاب والفاعلين الثقافيين في بلاد اللجوء. الشيء الوحيد الغائب هو تتبّع هذه التجارب والانشطة وتسليط الضوء عليها وتقييمها.
الجنوب مجهول لغيابه في المنصات العربية، بالإضافة الى ضعف عملية النشر والتوزيع، وربما هو تقصير متبادل، حيث هناك محاولات خجولة من القارئ والناقد العربي للاهتمام بالمنتوج الابداعي السوادني الحديث ما بعد جيل الطيب صالح ومحمد الفيتوري.
أستطيع القول إنني أنتمي الى جيل التسعينات، لقد بدأت نشر قصصي في نهاية تسعينات القرن الماضي. الجيل الذي تفتح وعيه على القمع والعنف والتمييز والتكفير والحرب ومصادرة الحريات من قبل النظام الإخواني الشمولي المتطرف. نظام حارب الجمال والتنوّع بقوة. عمّق إشكالات الهوية واستثمر في عناصر التنوع وحولها الى عوامل صراع. عندما يتفتح وعيك على واقع كهذا، ثم تجد نفسك مصنفا منذ البداية بسبب خلفيتك ولون بشرتك ومن أين جئت، فأنت عدو ومستهدف، ولا بد من التعامل معك بالطريقة التي يحددونها. عندما تترعرع في واقع كهذا، لا بد ان تحمل وعيا نازفا ومتألما وغاضبا بكل معنى الكلمة، ولن يكون أمامك خيار سوى المقاومة، خاصة عندما ترى أمام عينيك البلاد التي تحبها وهي تتعرض لكل هذا التخريب.
الرواية والسودان
في روايتك الأولى "أرواح إدّو" التي حصلت على جائزة القلم البريطانية (PEN) عن الأدب المترجم سنة 2020، كانت الأحداث والشخصيات مرويّة على خلفية الحروب السودانية المتكررة والصراع الذي كان دائرا بين الشمال والجنوب، بينما في روايتك الجديدة "إيريم"، هناك حضور أساسي للانقسام الذي حدث وتأثيره على شخصيات الرواية. كيف ترين هذه النقلة ككاتبة وكمواطنة عاشت ولا تزال هذه التحولات والانقسامات؟
الروايتان تتناولان فترات مختلفة من عمر السودان الحديث بعد الاستعمار، وهذا لا يمنع أن يكون هناك استعادة لفترات أخرى حسب ما يدور في ذاكرة الشخوص. حاولت أن تكون كل رواية قائمة بذاتها، وأن تكون هناك في الوقت نفسه خيوط تربط بينهما. لا أدري إلى أي درجة نجحت في ذلك، ولكني لا أخشى التجريب في الكتابة. اعتقد أن أكبر التحديات التي واجهتها في كتابة هذه الروايات التاريخية، هو هذا الفصل بين الكاتبة والمواطنة التي ولدت وترعرعت في الحرب.
وكانت الحرب هي الصراع الرسمي الظاهر. ولكن كيف لطّخت الحرب وجداننا بالكراهية والخوف من الآخر والحقد والغبن، وكيف فقدت أرواحنا نقاءها لأنها أُفسدت بالكامل. هذا ما لم يُذع في الأخبار ولم تتناوله التقارير. هذا ما حاولت تتبّعه من خلال الروايتين، وربما سأفعل في الراوية المقبلة أيضا. أحاول أن أرصد كيف تؤثر التحولات السياسية على وعي الناس وسلوكهم وحياتهم.
كيف لطّخت الحرب وجداننا بالكراهية والخوف من الآخر وكيف فقدت أرواحنا نقاءها؟ هذا ما لم يُذع في الأخبار ولم تتناوله التقارير
كمواطنة أو إنسانة، عشت أجواء الاقتتال وكنت شاهدة على بعضها، وببساطة انضممت إلى جحافل الضحايا المصابين بالصدمات نتيجة للعنف المتكرر.
ليس هيّنا أن يكتب أحدنا عن تاريخ دموي وقاسٍ كالذي حدث ويحدث في السودان، من دون أن يتورط بالانحياز أو توجيه أصابع الاتهام مباشرة الى المتسبّبين في هذا الشقاء. أمرٌ كهذا يتطلب وعيا ما أو قدرة نفسية ما لكي تواجه نفسك مع الانتهاء من كل فصل: لماذا تكتب؟ هل تكتب من أجل محاكمة الماضي أم من أجل قبول حدوثه طالما لم يعد هناك إمكان العودة ومنع حدوث ما حدث؟ ربما علينا فقط محاولة الشفاء منه. لطالما كانت الكتابة رحلتي الفردية للتصالح مع عبء التاريخ.
غرائبية
في أعمالك، وفي الكثير من الأعمال السردية السودانية، هناك غرائبية وعوالم شبه سحرية ومعتقدات وأساطير وعادات لا نجدها في السرديات المكتوبة باللغة العربية. من أين يأتي هذا كله... هل هي البيئة الأفريقية؟ وكيف تستثمرين ذلك في الكتابة؟
للسودان خصوصية ثقافية لا تخفى على العين. ولكل مجموعة ثقافية او اتجاه جغرافي إذا ذكرنا بالتفصيل الشمال/ الجنوب/ الشرق/ الغرب/ الوسط، هناك تراث وأساطير تختلف كل واحدة منها عن الأخرى. هناك بيئات ساحرة لا حصر لها، وليس باستطاعتنا حتى نحن كسودانيين، الالمام بها كلها. لذلك أرى أن السودان موعود بانفجار أدبي كبير في المستقبل. فالتنوع البيئي والثقافي والأحداث التي مرّ بها، بالإضافة الى أساطير كل المجموعات الإثنية الموزعة في تلك المساحات الشاسعة والهويات المختلطة، كلها عوامل محرضة للكتابة.
لقد امتزجت كل المعتقدات والتقاليد بفعل الزمن لنصبح ما نحن عليه الان. التقاء العربية بالأفريقية، بالإضافة الى تأثيرات الاستعمار والغزاة، كل ذلك يترك أثرا فينا وقد يخرج متأثرا بنا. ربما عادة ما أو تقليد ما، يجد له جذورا اجتماعية مثلا، فيُمارس كعادة دينية والعكس صحيح، ومع مرور الزمن ينتج ما يمكننا تسميته تراثا شعبيا أو ما يشبه ذلك. كل هذا يمور في بلد غير مستقر، حدث فيه نزوح داخلي متكرر، حيث أُجبرت مجموعات سكانية كاملة على أن تهجر بيئاتها ويستقر بها الحال للتجاور مع مجموعات سكانية أخرى في بيئة مختلفة تماما. كل هذا لا يخلو من التفاعل الثقافي والإنساني، ومع مرور الزمن ينتج شيئا يحمل في طياته كل عناصر هذه المجموعات التي اضطرت إلى أن تتعايش أو تتعارك بشكل ما. وهذا كله يؤثر في المنتوج المكتوب، سواء لروائيين أو لشعراء.
سودان اليوم هو حصيلة ذلك كله. كان هذا واضحا وطاغيا، على خلاف ما تحاول السردية الرسمية عكسه. إذ تعمدت إبراز العنصر العربي فقط على حساب العناصر الاخرى كالأفريقية، وهو ما أدّى الى أن تأخذ صراعاتنا صبغة الهوية في أعماقها. ونرى هذا أيضا بجلاء في دول عربية في شمال أفريقيا، حيث تتفاجأ بوجود مجموعات أفريقية كبيرة يسمونها أقليات، يتم عمدا مواراتها في الخلف، كأنها ستشوّه تلك السردية الرسمية. مع أن المنطق يقول إن التنوع هو نوع من الثراء الذي يجب خلق بيئة آمنة له ليزدهر، ولكي يتمتع الجميع بالمواطنة المتساوية من دون الحاجة لإجبار مجموعة ما على الشعور بأن أفرادها مواطنون درجة ثانية أو حتى ثالثة.
بالنسبة إليّ ككاتبة، أجد أنني محظوظة بالمجتمع المتنوع الذي ولدتُ فيه، وأشعر أنه ينبغي لكل كاتب سوداني أن يحس بالشعور نفسه. نحن محظوظون لأن لدينا ما ننهل منه وندهش العالم.
هل يمكن القول، بناء على ذلك، إن التراث الشفوي والحكايات الشعبية وعناصر البيئة لا يزال لها تأثير أكبر من الأساليب الحداثية في الكتابة، وإن الواقع يقدم مواد وسياقات شبه جاهزة للكاتب ولا تدفعه الى البحث عن وصفات كتابية أخرى؟
حتى الآن نعم، لأن الكتابة نفسها في بيئات كجنوب السودان هي أمر دخيل ولا يزال حديثا نوعا ما. نحن شعوب شفوية والحكايات تشكلنا وعناصر البيئة تعتبر عوامل ما زلنا نكتشف بعضها، ولأن واقعنا لا يزال مدهشا لنا وللآخرين أيضا. التراث المحكي يمسك بتلابيبنا، وليس من السهل الفكاك منه. لذا ربما نمارس الكتابة كأننا نمارس الحكاية الشفوية، ولكن بأدوات مختلفة كالورقة والقلم حتى الآن على الأقل في حالتي. ولكن هذا لا يمنعنا من الانفتاح على الأساليب الحديثة. هناك كُتّاب من الاجيال الجديدة لديهم محاولات جريئة للتجريب.
صراعات وحروب
ضمن تجربتك أنت، هل شكّلت الصراعات والحروب التي كنت شاهدة عليها بين الشمال والجنوب في السودان نوعا من العبء على الكتابة والسرد، هل أعاق ذلك أو ساهم في لجم التجريب في الكتابة أو على الأقل كتابة موضوعات أخرى مختلفة؟
الإجابة هي نعم، وأحب دائما إضافة "حتى الان"، لأن الواحد لا علم له بالتغيرات التي سوف تطرأ. ولكن ما أنا واثقة منه، دعني أسمّيه مشروعا أدبيا أعمل عليه منذ عشرين عاما. تتنوع أساليب تنفيذ هذا المشروع ما بين القصة القصيرة والمقال. منذ 2018 وطئ قلمي عالم الرواية وما زلت أتحسّس طريقي فيه بعدم ثقة كبيرة، ولكني أتشجع لكي أستمر وأتعلم أشياء جديدة مع كل كتاب أُنجزه.
التقاء العربية بالأفريقية بالإضافة الى تأثيرات الاستعمار والغزاة، كل ذلك يترك أثرا فينا وقد يخرج متأثرا بنا
لقد مرّ السودان بالكثير من المتغيرات السياسية المصحوبة بالفظائع. وأخرست كل الاصوات التي تتحدث عن تلك الفظائع الى درجة أنها تتعرض للنسيان ولا يبقى لها أثر سوى في ذاكرة الضحايا وذويهم. وهذا النسيان سواء كان متعمدا أو طبيعيا، سيكون سببا لتكرار العنف بالكيفية نفسها. فقط يختلف المكان.
لقد عبّرت عن ذلك في واحدة من الروايتين: "بدأت الحرب في قرية صغيرة في الجنوب ثم اخذت تتوسع كما تتوسع بقعة من الزيت على سطح صفيح ساخن الى أن تغطيه بأكمله على غفلة من الناس". هذا بالضبط ما حصل لنا. الحرب لا تنتهي بل تتوسع وتُذيقنا جميعا من الكأس نفسها. سلسلة هذه الحروب لديها جذر واحد، وكل حرب تؤدي الى أخرى الى أن وصلت إلى عاصمتي البلاد، الخرطوم /السودان، وجوبا/ جنوب السودان.
أريد أن أبقى ملتزمة هذا المشروع الى أن أحس أنني قلت كل شيء. إنها "الكتابة ضد النسيان" كما عبّر أحدهم. عبء التاريخ الدموي السوداني أصابني بما يشبه اللعنة. وأنا أتوهّم أنني قد أُشفي روحي إذا ما أفرغتُ ما أحمله في قلبي ووعيي من ألم على الورق. وأحب أن أُوهم نفسي بأن تشكّل كتاباتي عيادة نفسية للتشافي الجماعي للسودانيين من الحروب وآثارها. وربما نصل جميعا إلى قناعة بأن الحروب هي أسوأ ما حدث لنا.
الكتابة والسياسة
إلى جانب الكتابة، كنتِ ناشطة في المجال الثقافي والسياسي. ماذا يقدم ذلك للكاتب عموما، وفي حالتك كجنوب سودانية خصوصا؟
مارستُ السياسة في المرحلة الجامعية، ولكن بمجرد أن وجدت ضالتي في الكتابة قاطعت فكرة أن أنتمي إلى تنظيم سياسي ما. ولكني لا أنفي أن الوعي السياسي هو أمر في غاية الاهمية للكتّاب الذين لديهم موقف مما يحدث في بلادهم من نزاعات وانقلابات عسكرية وسيطرة الفاسدين على مقاليد الحكم، مما يتسبّب في شروخ غائرة لا يمكن الشفاء منها بسهولة.
البلاد غير المستقرة كالسودان/ جنوب السودان، ورّطتها منظوماتها السياسية والعسكرية والطائفية والقبلية في صراعات يمكن أن نقول إنها دائرية، حالما تنتهي واحدة، تندلع أخرى للأسباب نفسها أو لأسباب مختلفة. إذا وصل الكاتب الى مرحلة الإدراك ووضع الصورة الكبيرة أمامه، فإن كتاباته قد تفجّر الاسئلة وتُجبر ضحايا هذه الصراعات على التفكير، وربما يتشكل وعي رافض للحرب. هذا ما آمله طبعا، إذا تمعّن هؤلاء جيدا كيف تنتهي هذه الحروب ومَن المستفيد الأول والاخير من اندلاعها وإخمادها، بينما تتحمل الشعوب نتائج الحرب وتُسحق تحت أقدام المتصارعين.
تقيمين منذ أكثر من سنتين في ألمانيا بفضل منحة أدبية، وصدرت لك حديثا مجموعة قصصية مترجمة إلى الألمانية. ماذا قدّم لك المنفى، وكيف ترين الحال في السودان وأنت بعيدة. هل هناك نجاةٌ ما ولو جغرافية؟
السودان من بعيد أكثر قسوة عليّ من السودان عن قرب. على الأقل عندما كنت هناك، كنت أنشغل بالعمل والانشطة المختلفة، فشعور أنك تفعل شيئا حيال مصيرك ومصير الناس، ولا تقف هناك مكتوف اليدين وتتلقى الصفعات، هو أمر مهم وجوهري. لذا عندما غادرت السودان، شبهت ذلك بتجربة الموت الفجائي.
البلاد غير المستقرة ورّطتها منظوماتها السياسية والعسكرية والطائفية والقبلية في صراعات يمكن أن نقول إنها دائرية، حالما تنتهي واحدة تندلع أخرى
تغادر وتبتعد عن الأرض والناس وتترك مشاريع كنت تعمل عليها ليل نهار. هذا طبعا تصور مبالغ فيه، ولكن لشخص كان مرتبطا بكل التفاصيل، هذا كان شعوري. كيف تحايلت على هذا الشعور؟ بالانغماس في الكتابة. كنت أكتب باستمرار في مكتبة المدينة التي أسكن فيها، ثماني ساعات في اليوم.
أستطيع القول إن المنفى الجغرافي قدّم لي الوقت وأجواء مناسبة للكتابة والقراءة وبعض الأمان. لقد ملأتُ شعور الافتقاد بالكتابة. ولكن ليس هناك نجاة بمعنى الكلمة، طالما جزء كبير من الأهل والأصدقاء والمعارف لا يزالون هناك يعانون من الحرب والاشتباكات. وفي كل يوم جديد ندخل مواقع التواصل الاجتماعي، وكل أمنيتنا ألا نعزّي في أحد نعرفه ونحبه. ولكن للأسف تحولت قلوبنا إلى بيت كبير وواسع للحزن. كيف ننجو من مآل كهذا؟