حدود الغرب المتزايدة... جدران تسكن الأدمغة

تغيرات جذرية تطرأ على مفهوم الهوية

AFP
AFP
عمال يعبرون جسر لندن خلال إضرابات بسبب أزمة غلاء المعيشة.

حدود الغرب المتزايدة... جدران تسكن الأدمغة

لعل أبرز ما يميز دعاة "فكر الاختلاف" هو تحديدهم للهوية على أنها انتقال وعبور. إنها عندهم حركة. ومن يتحدث عن الحركة والعبور لا بد أن يستحضر قنطرات الوصل فينفي الجدران العازلة.

عندما يرسم فوكو، على سبيل المثل، مبدأ الهوية على الشكل أ = أ، فإن ما يهمه في الرسم ليس طرفي التطابق والمساواة، وإنما قنطرة العبور الفاصلة/ الواصلة بينهما. ذلك أن هذه المساواة تنطوي، في نظره، على حركة داخلية لامتناهية تُبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته، وليس عن نقيضه فحسب، وتقرب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه. يتعلق الأمر ببعد إيجابي بين المتخالفين، إنه البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان. إلى المعنى نفسه يذهب جاك دريدا حينما يحدد الهوية على أنها حركة توليد الفوارق والاختلافات، "إنها انتقال ملتو ملتبس من مخالف الى آخر، انتقال من طرف التعارض الى الطرف الآخر".

انتقال وعبور

يعتبر هؤلاء أنهم عندما يعينون الهوية كحركة انتقال وعبور passage، فإنهم لا يعملون إلا على الرجوع بكلمة "اختلاف" إلى أصلها الاشتقاقي. الديفيرانس الفرنسية منقولة عن الكلمة الإغريقية ديافورا، وفورا آتية من الفعل فيري، الذي يعني في الإغريقية، ثم في اللاتينية، الحمل والنقل... الاختلاف ينقل ما يسبق في الكلمة ديافورا فورا، أي السابقة ديا التي تعني ابتعادا وفجوة. الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعدا إحداهما عن الأخرى، إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاما، إنه على العكس من ذلك يُقرب بين الطرفين اللذين يُبعد بينهما.

ما يهم في هذا التحديد لمفهوم الهوية في طبيعة الحال، ليست لحظة الإبعاد بين الطرفين، إذ إن ذلك يبدو من بدهيات كل تضاد وتخالف، المهم هنا هو كون الاختلاف إذ يُبعد الطرفين، أحدهما عن الآخر، يقرب بينهما في الوقت ذاته. المهم هو القنطرة والعبور. إلا أن هذا التقريب غالبا ما يُهمَل في تحديد الاختلاف، وحتى إن أُخِذ في الاعتبار، فإنه يُرَدّ إلى مجرد لحظة التركيب الجدلية.

المهم هنا هو كون الاختلاف إذ يُبعد الطرفين أحدهما عن الآخر، يقرب بينهما في الوقت ذاته

ما يميز "الاختلاف" عن الجدل وثلاثيته بالضبط، هو كون هذا التقريب ليس هو التركيب الجدلي بين نقيضين، ليس هو المصالحة بين الأضداد وصهرها في طرف ثالث. عندما وضع سارتر عنوانا لكتابه الأساس، "الوجود والعدم"، فلكي يعلن أساسا رفضه للثلاثية الهيغلية، لكنه ترك الطرفين منعزلين في مقابلة لا متناهية، لا جسر يربط بينهما. غير أن الوجوديين، منذ الجد الأكبر س. كيركغارد، لم يفلحوا قط في تجاوز هذه الثنائية، والانسلاخ عن الفكر الجدلي، ولا في تفكيك طرفيها وتعيين كل واحد منهما على أنه الآخر ذاته في إرجائه.

الوحدة والاختلاف

سيعمل صاحب "الكينونة والزمان"، على اختراق الكينونة و"تزمينها"، وجعل الذات في ابتعاد عن ذاتها، وسيكتب: "إننا لا نقتصر على جمع الأضداد وضمها والمصالحة بينها"، فـ"الكل الموحد يَعْرض أمامنا أشياءَ يتنوع وجودُها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته".

الوحدة التي يعرضها أمامنا الاختلاف كحركة لا متناهية للجمع والتفريق، ليست هي وحدة الأضداد. ليست هي الهويات الساكنة، المنعزلة والمنطوية على نفسها. ذلك أن الحركة لا تتم هنا بين الكائن وضده أو نقيضه، وإنما تنخر الكائن ذاته. السلب هو الحركة اللامتناهية التي تبعد الهوية لا عن نقيضها فحسب، بل عن ذاتها أولا وقبل كل شيء. الابتعاد والتقريب والعبور يتمان هنا "داخل" الكائن، إن صح الكلام عن داخل. الاختلاف قائم في الهوية، وليس فقط بين هويات. على هذا النحو يلح مفكرو الاختلاف على لاتناهي حركة التباعد. وما يهمهم في تلك الحركة، ليس الطرفين، أو على الأصح ليس الطرف الهارب من نفسه، وإنما القنطرة التي تضع الزمان "داخل" الكائن، فتنخره وتحُول بينه وبين الحضور والتطابق.

AFP
الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في سبعينات القرن الماضي في باريس.

لذا، هم يميزون الهوية عن التطابق. ويعتبرون الذات في تباعد عن نفسها، كما ينظرون إلى الآخر، لا على أنه ذاك الذي تفصلني عنه الحواجز والجدران، وإنما على أنه، أولا وقبل كل شيء، بُعد الذات عن نفسها. فلا مكان في نظرهم لهوية متوحشة معزولة تقوم في غياب عن الآخر، وهم يطرحون الاختلاف على مستوى الأطروحة قبل "الخروج" نحو النقيض. ويرون في ذلك لا عمل السلب وحده، بل عملا ايجابيا، عملا بناء "يشكل" الهوية ويبنيها. كتب ج. دريدا: "إن الخاصية المميزة لكل ثقافة هي ألا تكون مطابقة لذاتها. لا أعني ألا تكون لها هوية تحددها، وإنما ألا يكون في وسعها أن تتطابق مع ذاتها، وتقول "أنا" أو "نحن"، وألا تتخذ شكل الذات إلا بكيفية غير مطابقة لنفسها، أو إن شئنا فلنقل، إلا في اختلافها عن ذاتها. ما من علاقة مع الذات وتطابق معها دون ثقافة، إلا أنها ثقافة الذات مثلما هي ثقافة الآخر، ثقافة المضاف إليه المزدوج، ثقافة الاختلاف مع الذات".

shutterstock
حشود من المتسوقين في أكسفورد سيركس.

هوية هاربة

هي إذن هوية هاربة، وهو هروب يجعل التفرد ضعيفا أمام قوة التعدد، والتوحد ضيقا أمام شساعة التنوع، والاقتصار على الأنا فقرا أمام غنى الآخر، والتوقف عند الحاضر هزالا أمام كثافة الزمن، والانغلاق على الذات سدا أمام انفتاح الآفاق، والانطواء على النفس حدا أمام لانهائية الأبعاد الممكنة، والوقوف عند مقام بعينه ضياعا أمام رحابة التنقل.

هي إذن هوية هاربة، وهو هروب يجعل التفرد ضعيفا أمام قوة التعدد، والتوحد ضيقا أمام شساعة التنوع، والاقتصار على الأنا فقرا أمام غنى الآخر

ما أبعدنا هنا عن كل ما يروج في أغلب العواصم الغربية التي لا تكف عن ترديد عبارة "التعدد والاختلاف"، من مقاومة عنيدة لكل أشكال العبور.

shutterstock

لا نعني هنا أساسا لجوء بعض تلك العواصم لتبَني أشد أشكال الهوية فقرا، وأكثرها سكونا وانغلاقا، وأقلها حركة وانفتاحا، وللتجسيد المادي للانفصال وإقامة جدران من إسمنت وحجر لتفصل البشر وفق ألوان بشرتهم، وأنواع قيمهم وأشكال ثقافاتهم، كما أننا لا نشير فحسب إلى تلك الجدران "المعنوية" التي تبدو أقل صلابة من الأولى وأخف وطأة، وأضعف حضورا، لكونها تتخفى وراء قوانين تشريعية، أو مؤسسات إدارية، أو وزارات تحمل أسماء مراوغة، كوزارة الهجرة، أو وزارة الهوية الوطنية، أو حتى وزارة "الاندماج" والتكافل، ونحن لا نقصد فحسب تلك الجدران "اللامرئية" التي لا تكف عواصم الغرب تذكرنا بها كلما طلبنا "تأشيرة" عبور، مهما كان شكل العبور الذي نرومه، ولا نقصد فحسب هذه الجدران التي لا تفتأ عواصم الغرب تزرعها، لا في نفوس من يَفِدون عليها فحسب، وإنما في نفوس أبنائها ومواطنيها، وإنما نعني أساسا الجدران التي تسكن الأدمغة، أدمغة الساسة التي تعود بنا، وبالفكر الغربي ذاته، إلى مفهوم قبل- جدلي عن الهوية يردّها إلى أفقر أشكال التطابق، وينزع عنها كل حركة، وينفي عنها قدرتها على العبور، ويحول بينها وبين توليد الفوارق إقحاما للآخر في الذات.

font change

مقالات ذات صلة