سقط بشار الأسد. انتهى نظام عائلة الأسد. التاريخ يثبت أحكامه. الشعب يقهر ولايُقهر. الوحشية لا توقف مسار التاريخ. السقوط، هو النهاية الحتمية لأي ديكتاتور.
طوت سوريا 54 سنة من تاريخها. بعد 14 سنة من الثبات، يفتح السوريون صفحة جديدة في تاريخهم. بعد 11 يوما من الجولة الأخيرة، فر بشار الأسد إلى موسكو ودخل رئيس "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) إلى دمشق. تجول الثوار في قصور الرئاسة وأنفاقها السرية واستنشق السجناء الحرية وعانقوا الشمس، وبات الأسد وعائلته في المنفى في انتظار القدر والملاحقة.
لكن كيف أسقطت المعارضة الأسد في 11 يوما؟
لا شك أن الإطار العام لهذا الانتصار، هو تضحيات السوريين المستمرة منذ عقود ضد النظام، فوق الأرض وفي الأقبية والزنازين. كثيرون قتلوا وسجنوا وشردوا وعانوا. المعاناة شملت الملايين. قلائل هم الأشخاص الذين لم يصابوا بأذى مباشر أو غير مباشر من النظام، سواء كانوا داخل البلاد أو خارجها. الضرر لحق بكثيرين وإن اختلفت الدرجات. زادت المعاناة بعد 2011. قُتل وعُذب وسُجن كثيرون وهجر الملايين داخل البلاد وخارجها. لكن الإصرار على التغيير بقي ملازما الكثيرين رغم يـأس البعض وتخلي حلفاء عن دعم المعارضة وقبول النظام كأمر واقع.
لكن يمكن الحديث عن خمسة أسباب مباشرة للقضاء على الأسد بالضربة القاضية:
أولا، 7 أكتوبر السوري: بينما كان هناك قبول إقليمي بالأسد، كانت فصائل معارضة تعد العدة لهجوم كبير. عكفت "هيئة تحرير الشام" وفصائل مسلحة على إعداد العدة لمعركة كبيرة للسيطرة على حلب ثاني أكبر المدن السورية. اشتغل هؤلاء في شمال غربي سوريا، على خطة عسكرية وأمنية وإعلامية ومدنية لأكثر من سنة، تضمن هذا الكثير من التدريب والاستعداد والإعداد لـ"المعركة الكبرى" وساعة الصفر.
ثانيا، الأسد عاريا: في السنتين الأخيرتين، أصيب كثيرون بخيبة إضافية من الأسد. لا شك أن دولا كثيرة بقيت متشككة في نيات الأسد وتعتبره دكتاتورا قتل وهجر الكثيرين ويستحق المحاسبة. أيضا، فوّت فرصة إضافية أعطيت له، إذ إنه لم يقم بالوفاء بالتزاماته بعد قرار التطبيع معه في منتصف 2023، التي شملت إصلاحات داخلية تتضمن عودة اللاجئين، وإطلاق سراح السجناء، والتوقف عن تصنيع "الكبتاغون" وتهريبه، وإعادة تموضع إقليمي في علاقته مع إيران و"حزب الله".
لم ينفذ عمليا أيا من هذه الوعود، بل بالعكس واصل أسلوب التنصل مع الوعود واللعب على الكلمات و "التذاكي" لشراء الوقت.
تعرضت إيران ووكلاؤها لضربات كثيرة، فكان هروب بشار الأسد امتدادا لاغتيال حسن نصرالله كتعبير عن حال "محور الممانعة"
ثالثا، الجيش السوري: تبين بوضوح في "معركة حلب" أن الجيش السوري غير قادر ولا يريد القتال. صحيح أن الفصائل أعدت لمعركة "ردع العدوان" في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن حجم الانهيارات في خطوط الجيش غربي حلب، كان مدهشا. كان يسقط خطا وراء آخر، ثم قطعة عسكرية وراء أخرى، مدينة بعد أخرى.
الجيش السوري قرر عدم القتال. لقد فقد العقيدة والعدة والرغبة والإمكانية والعصب. قاتلوا بعد الاحتجاجات السلمية في 2011، ماذا حصدوا؟ حصدوا مزيدا من الفساد والمحسوبيات والتهميش والفقر. في مقابل العقيدة والانضباط والتدريب والاستعداد للفصائل، كان الجيش في الضفة المناقضة في كل شيء.
رابعا، "المحور الإيراني": تعرضت إيران ووكلاؤها في السنوات الأخيرة لضربات كثيرة، تحديدا في السنة الأخيرة، أُضعفت إيران و"حزب الله" أمام الضربات الإسرائيلية في سوريا ولبنان. فكان هروب بشار الأسد امتدادا لاغتيال حسن نصرالله كتعبير عن الضربات التي تعرض لها "محور الممانعة".
عمليا، ظهر هذا في خطوط القتال غربي حلب. بالتوازي مع انهيار خطوط النظام بسرعة، كانت ميليشيات إيران تنسحب وتنهار أمام ضربات الفصائل.
في 2012 وصل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني إلى سوريا، مع السلاح والميليشيات بل إنه قاد بعض المعارك بنفسه. في 2024، لم يأت إسماعيل قاآني إلى ساحات الوغى. فالمسرح السوري تغير وبات تحت السيطرة الجوية لضربات الانتقام الإسرائيلية لـ"7 أكتوبر" 2023.
آخر شيء يريده بوتين هو تشويشه عن المعركة الكبرى وتحسين موقفه التفاوضي إزاء أوكرانيا مع قرب تسلم دونالد ترمب
خامسا، أولويات روسيا: منذ تدخله في أوكرانيا في 2022، باتت أولوية الرئيس فلاديمير بوتين تحصين "الحديقة الخلفية" التي تحولت قضية داخلية وشخصية لـ"القيصر". وفي هذه الفترة التي يقدم فيها بايدين، في آخر أيامه، الدعم العسكري والصاروخي لفلوديمير زيلينسكي، فإن آخر شيء يريده بوتين هو تشويشه عن المعركة الكبرى وتحسين موقفه التفاوضي إزاء أوكرانيا مع قرب تسلم دونالد ترمب الراغب في تسوية سريعة.
في 2015، زار سليماني بوتين واتفقا على معادلة: روسيا توفر الغطاء الجوي وإيران توفر الميليشيات لدعم الأسد. هذا ما حصل، خرج الأسد من حافة الانهيار واستعاد 63 في المئة من سوريا بعدما كان يسيطر على 10 في المئة. كما حصل بوتين على قاعدتين عسكريتين، جوية في اللاذقية وبحرية في طرطوس.
في 2024، لم يجد "المرشد" علي خامنئي "جنديه" قاسم سليماني كي يرسل الميليشيات الإيرانية. بوتين لم يجد "جنديه" سيرغي شويغو كي يرسل الطائرات. خامنئي مشغول بتضميد جراحه الداخلية والإقليمية. بوتين مشغول بتضميد جراحه الروسية والأوكرانية.
هناك الكثير من التحديات أمام سوريا المستقبل. لكن لا خلاف أن حقبة طويت. انتهت "سوريا الأسد" وسقط نظام الأسد. هذا تحول كبير ولحظة انتظرها السوريون
أمام هذا المشهد باتت سوريا أمام وصفة صاغها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ملامحها: خروج الأسد من دمشق ودخول الشرع (الجولاني)، والإبقاء على القاعدتين العسكريتين غربي سوريا والاعتراف بالنفوذ الروسي، وتحييد الجيش والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، والتمسك بالتنوع السوري وعدم المساس بالعلويين وبيئتهم المحيطة بالقاعدتين الروسيتين، والحفاظ على وحدة سوريا عبر عملية انتقالية تجمع "الدويلات الثلاث" بخيمة مركزية في دمشق، وإضعاف النفوذ الإيراني وقطع طريق الإمداد العسكري من طهران إلى "حزب الله" تواكبه ضربات و"منطقة عازلة" إسرائيلية.
ليس سهلا تنفيذ هذه التقاطعات. صحيح أن هناك الكثير من التحديات أمام سوريا المستقبل، وأن الطريق لن يكون سهلا، وأن تجارب التغيير التي حصلت في العراق وليبيا لم تكن سلسة وسهلة.
لكن لا خلاف أن حقبة طويت. انتهت "سوريا الأسد" وسقط نظام الأسد. هذا تحول كبير ولحظة انتظرها السوريون لعقود وضحوا لأجلها لعقود. لحظات تستحق الاحتفال والاستعداد لمعالجة أسئلة كبيرة قادمة.