سوريا في بداية طريق جديد

لا تكترثوا للأصوات التي تهيج وتجند ضدكم، فكلها سوف تتجند لجانبكم

أ.ف.ب
أ.ف.ب
سوريون حول برج الساعة خلال الاحتفالات في قلب مدينة حمص في وقت مبكر من يوم 8 ديسمبر 2024

سوريا في بداية طريق جديد

حيفا- الشعب السوري، كما كل شعوب الأرض، يريد حرية وديمقراطية واستقرارا. بعد أكثر من خمسين عاما من الظلم والتسلطية والقمع الذي لا تستطيع العقول والأنفس تحمله وتصوره، ولا حتى الأقلام بسرد كل جوانب عمق المعاناة، أتنقل بين صفحات روايات "ناج من المقصلة" لمحمد برو، و"القوقعة" لمصطفى خليفة، لأجد وصفا دقيقا لمعاناة السوريين الذين التقيتهم خلال العقدين الأخيرين، فأعود خائبا، لأن ما وصف عظيم ومهين وغير إنساني ووحشي بحق الضحايا، إلا أن ما أسمعه منهم أعمق وأكثر فظاعة.

قبل نحو عقد ونصف اندلعت ثورة مدنية سورية جامعة وبطرق احتجاج مدنية، إلا أن النظام قمعها بأبشع أنواع الاضطهاد وأدوات القتل. قتل مئات الآلاف من السوريين وهجر الملايين، ونستطيع أيضا أن نضيف فرق الموت من "القاعدة" و"داعش" و"حزب الله" وقوات إيران المدربة على القتل والطيران الروسي وكلهم لم يفرق بين المحارب والرجل والمرأة والأطفال المسالمين. القتل كان هدفا بحد ذاته، وكل ذلك كان بسبب أفعال النظام البعثي وطرق حكمه وفشله في حماية شعبه. حتى بعد هدوء غبار المعركة، استمرت قوات الجيش السوري وإيران و"حزب الله" وباقي الفرق مثل "فاطميون" و"زينبيون" والشبيحة و"الداعشيين" في مسيرة القتل وإجلاء الناس ومنعهم من العودة إلى بيوتهم، بحيث وصل عدد السوريين الذين تم إجلاؤهم إلى نحو عشرة ملايين.

خلال تلك السنوات انحسر اهتمام العالم بسوريا وأهلها، وترك النظام وعساكره ومخابراته يعيثون خرابا.

وبعد عقد ونصف من اندلاع الثورة السورية، المدنية وغير العنيفة، وبعد أن ترك السوريون للأسد وحلفاء النظام من سوريا وخارجها ليقتلوا ويخربوا ويقمعوا، تبين للكثيرين أن هذا النظام وحلفاءه باقون في غيهم، إلى حين توفر الإرادة، والعسكرية منها، لإحداث التغيير. واستجمعت المعارضة قواتها في محاولة جديدة للتخلص من النظام. وتقدمت ببطء، وسمحت لمحطات الأرض ولكل وسائل التواصل الاجتماعي مرافقتها وتقديم التقارير، التي تعج بآلاف السوريين الذين خرجوا إلى الشوارع للتهليل للتحرير ولنهاية النظام البعثي.

يبالغ البعض عن قصد في قوة التيار الإسلامي لكي يجد مبررا لما فعل الأسد

أتابع مثل غيري الأحداث والتقارير، ويدهشني أن كثيرا من المراقبين الذين وقفوا مع أهل سوريا قبلا غيروا جلدتهم وموقفهم، أصبح النضال ضد حكومة بشار الأسد غير مرغوب وإرهابيا، وضمن ذلك فصائل عسكرية "إسلامية" (تشبه "حماس" الفلسطينية) المدعومة من قبل تركيا أصبحت غير شرعية بسبب هذا الدعم، وأصبحت إرهابية ومهم صدها.

يبالغ البعض عن قصد في قوة التيار الإسلامي لكي يجد مبررا لما فعل الأسد. تتجاهل غالبية الأقلام أن القوات والمناضلين في السويداء دروز في غالبيتهم، وأن قوات "قسد" أكراد سوريون، وأن قوات التيار الوطني أو الديمقراطي تساهم في القتال ضد النظام، كل شيء شرعي في التحليل والكتابة في الغرف المغلقة وفي المحطات المجندة والدوائر المنعمة.

أحاول أن أفهم الظاهرة الكبيرة والمضخمة من تشويه المعارضة، أجدها في غالبيتها انقلبت على الثورة والثوار وأهل سوريا لأن أنظمة عربية وغربية غيّرت مواقفها واستمالها حكم الأسد فأعادت العلاقات معه، تقف الآن من وراء هؤلاء، بالإضافة طبعا إلى مثقفين وكتاب يستكثرون أصلا على الشعب السوري أن يعود لوطنه، أن يحكمه حكم بعيد عن الأسد ونظام "البعث"، أقلام لا يهمها سوى شعارات الحرية عندما يتم الحديث عن غير سوريا، أما سوريا وأهلها فليذهبوا إلى الجحيم، ولتستمر المقصلة. كل شيء قابل للتأويل والشرح والتبرير في خدمة "محور المقاومة" الزائف.

أ.ب
بشار الأسد بعد انتخابه رئيسا لسوريا، يحضر ألعاب التدريب العسكرية مع علي أصلان، رئيس أركان الجيش السوري، سوريا في 12 يوليو 2000

أدرك حجم المخاوف على مستقبل السوريين وسوريا البلد العظيم والذي يستحق نظاما ديمقراطيا وشرعيا، لكن أسوأ ما حصل في سوريا هو حكم الأسد و"البعث"، هذا النظام هو أسوأ من كل البدائل الممكنة. لكنني فعلا مقتنع بأن إزاحة الأسد وميليشياته وأتباعه وكل داعميه من سوريا هو أول المفاتيح لبناء نظام ديمقراطي ومدني حقيقي.

لكل الذين يزرعون الخوف من إمكانيات تغيير النظام يجب أن يقال بصوت واضح إنه لم تتح للسوريين أية طريقة كريمة وإنسانية ليحكموا بإرادتهم، ولم يترك لهم أي مجال

القوات التي تقاتل النظام سورية وترفدها قوى سورية بسواعدها وعقولها وقلوبها، هذه القوى هي المفتاح لتغيير النظام، وتوافقها هو المفتاح لمستقبل سوري ديمقراطي. نعم وبصوت واثق، فإن توافق الإسلاميين والديمقراطيين والدروز والأكراد هو مفتاح إنشاء نظام ديمقراطي في سوريا. نظريات التحول الديمقراطي تشير بشكل واضح إلى أن توافق القوى المتنافرة هو أهم مفاتيح التغيير الديمقراطي. قلبي وعقلي مع كل من ساهم في تغيير النظام، وأملي وندائي إلى هذه القوى أن تكون واعية لأهمية توافقها بعد إزاحة الأسد.

لكل الذين يزرعون الخوف من إمكانيات تغيير النظام يجب أن يقال بصوت واضح إنه لم تتح للسوريين أية طريقة كريمة وإنسانية ليحكموا بإرادتهم، ولم يترك لهم أي مجال سوى بالطريقة التي تسعى لذلك الآن، وأي دعم دولي لهذا الطريق مرحب به، في سبيل إزاحة نظام القتل والتأسيس لسوريا ديمقراطية بشعبها ولشعبها، وحتى تعود لتكون منارة الشرق والشعلة لحمل الحلم بأنظمة مدنية وديمقراطية في عالمنا العربي.

أ.ف.ب
سوريون يحتفلون فوق دبابة في ساحة الأمويين في دمشق في 8 ديسمبر 2024

أيها الثوار لكم كل التمنيات بالنجاح، وعليكم التمنيات بأن تختاروا الطريق الصحيح لمستقبل سوري واعد، ونعم، أول المراحل هو إزاحة نظام الأسد والبدء في حوار وطني حقيقي ويحترم السوريين ومعاناتهم وحقهم في الحياة الكريمة، إنه أول الطريق، فلا تكترثوا للأصوات التي تهيج وتجند ضدكم، فكلها سوف تتجند لجانبكم وتنادي وتكتب لسوريا إذا اخترتم ونجحتم في مهمة التغيير الديمقراطي. طريقكم سيكون شاقا وطويلا، لكن إرادتكم وخياراتكم هي التي ستحدد مستقبل سوريا وأهلها.

font change

مقالات ذات صلة