أحدث أدوار شون بن يذكّر بالأفلام القائمة على شخصيتين

قوة الأداء سبيلا لتجنّب الرتابة

imdb
imdb
شون بن وداكوتا جونسون في فيلم "داديو".

أحدث أدوار شون بن يذكّر بالأفلام القائمة على شخصيتين

حظي الممثل الأميركي شون بن بتكريم في المهرجان الدولي للسينما بمراكش، الدورة 21، الذي تجري عروضه ومسابقاته خلال هذه النسخة ابتداء من يوم الجمعة الماضي حتى 7 ديسمبر/ كانون الأول، وقد ألقى كلمة موجزة أعرب فيها عن ضرورة التعبير بحرية وشجاعة عن الأفكار الشخصية. هذا التقدير الجدير لمسار شون بن السينمائي في مراكش يلفتنا إلى آخر أدواره المميزة، خاصة في فيلم "داديو" من إخراج كريستي هول، الذي قام ببطولته إلى جانب الممثلة داكوتا جونسون.

تكمن طرافة الفيلم في اقتصاره على ممثلين ثنائيين لا غير، بغض النظر عن العبور السريع للعامل المشرف على الإركاب في محطة التاكسيات المجاورة للمطار. يتقمص شون بن دور السائق الذي يذكّرنا بأشهر أفلام مارتن سكورسيزي، "سائق التاكسي"، الذي لمع في أدائه روبرت دونيرو.

رحلة ليلية

الفتاة الواصلة لتوها ليلا، تستقل التاكسي بعد أن تطلب وجهتها إلى وسط المدينة القديمة. وبعد صمت مريب يكسره السائق كلارك بتأكيد عنوان الوجهة كذريعة لفتح محاورة مطولة، ممهورة بالدعابة، فهي زبونته الأخيرة في برنامج عمله لليوم.

في تضاعيف الحوار، نكتشف أن الفتاة مبرمجة حاسوب، وبناء على ذلك يقترح السائق ما يشبه لعبة تستند الى الأصفار والآحاد، ضمن رهان الحدوس واستقراء الواحد منهما حكايات الآخر. في لعبة الحدوس هذه واستدراج الواحد منهما للآخر في الإفصاح عن حكايته، ندنو من صورة الفتاة التي عانت في يفاعتها من طقوس غريبة فرضتها شقيقتها عليها، كأن تربطها في حوض الحمّام الفارغ وتحرضها على تحرير نفسها كتمرين استباقي تواجه به أخطار الخطف المحدقة بها لاحقا في أطوار حياتها اليومية.

فيلم يبدو خفيف الأثر من حيث تقشفه، باقتصاره على شخصيتين مركزيتين أوّلا، واكتفاء معالجته الدرامية ذات الاستغوار النفسي باسترجاعات ذاكرتَي البطلين

يبدو من حرفية السائق، امتلاكه خبرة في قراءة الوجوه واستغوار الملامح بحكم طبيعة عمله، بالنظر إلى احتكاكه بشتى شرائح المجتمع، إذ سرعان ما تلفي الفتاة ذاتها وهي تعترف تارة بتردد وتعثر وتارة بانسياب، فهي متورطة في علاقة حب مع شخص متزوج، بعمر أبيها، وأحد مبررات ذلك له دوافع نفسية غائرة، بالنظر إلى علاقتها المريبة مع أبيها الذي لم يسبق له أن صافحها إلا مرة واحدة في سن السادسة، ولم يعانقها قط في حياتها.

ما يقطع استرسال المحاورة بين السائق وبينها، المحاورة الافتراضية الحميمة الأخرى، الموازية، لكن عبر الكتابة، التي يجريها معها عشيقها المتزوج عبر الماسينجر. ولا يني السائق يفشي أسراره هو الآخر، بعد أن يحذرها من شرك الحب، ويكشف لها بأنه تزوج مرتين، وسبق له أن خان زوجته مع فتاة أصغر استأجر لها شقة متكلفا مصاريفها.

تستغرق هذه المحاورة مسافة بين المطار ووسط المدينة. مما يجعها تطول، هو الحادث المروري في الطريق الرئيسة الذي أجبرهما على الوقوف مطولا. ولحظة التوقف الاضطراري، يتواصل منحى المزاح بين الشخصيتين، مع المزيد من الكشف عن قائمتي رغباتهما، فالسائق بات يمارس الغطس وقد صادف قرشا أثناء رحلة غوص، وكذا حلمه بأن يسافر إلى اليابان، ثم سرعان ما ينقلب دراميا حينما تبوح الفتاة بأن سفرها منذ أسبوعين كان بسبب حملها المفاجئ، وقد تعرضت لحادثة إجهاض طبيعية. ينفرج مسارهما بانفضاض الزحمة عن الطريق فيوصلها إلى عنوانها بعد أن يحفزها على تخطي هشاشتها وتجاوز انكساراتها شاهرا يده للمصافحة. هذا الموقف المتوتر يذكرها بيد أبيها الذي صافحها مرة يتيمة في طفولتها، وبدل أن تسلم على السائق تلامس وجهه كأنما هي رغبتها الطفولية المحتدمة في ملامسة وجه أبيها الممتنعة.

AFP
شون بن يتسلم جائزة "نجمة المهرجان" من فاليريا غولينو في مهرجان مراكش.

هو فيلم يبدو خفيف الأثر من حيث تقشفه، باقتصاره على شخصيتين مركزيتين أوّلا، واكتفاء معالجته الدرامية ذات الاستغوار النفسي باسترجاعات ذاكرتَي البطلين في حوار تلقائي يستغرق مسافة الطريق. لا حركية وقائع إذن، ولا حوادث يفاجئ بها الفيلم مشاهده، وفي المقابل ينجح في رهانه هذا على السفر الداخلي لذوات الشخصيتين، سابرا أغوار التحولات الاجتماعية والتقنية والوجودية، منها ما يرتبط بالذكاء الاصطناعي، ومنها ما يشتبك بمتغيرات الإنساني في أنماط العلاقات الاجتماعية بين الاخوة والأب، وكذا العلاقات الجنسية.

الرهان على الأداء

في هذا النوع من الأفلام الثنائية ذات الصعوبة في تدبير المشاهد بذكاء تحصينا لمتعة الفرجة بتحاشيها السقوط في الملل، يظل الرهان على الإيقاع هو المكسب الفني الأول، والثقل كله ينوء به وجه الممثلين، إذ الصورة البليغة المقربة وحدها قوة تعبيرات الوجه، ما ينجح في إنجاح إبداعية العمل، وهذا ما ينبغ فيه شون بن بمقدراته العتيدة وخبرته المخضرمة، وتبرع فيه أيضا الممثلة داكوتا جونسون ضمن حوارية تتأرجح بين الخفة والعمق، بين الايهام بالسطحية والأثر النفسي الغائر الموازي، بين الدعابة والألم الخفي. وهكذا دواليك.

AFP
شون بن وفاليريا نيكوف في اليوم الثاني من مهرجان مراكش.

يذكرنا هذا النوع من الأفلام بنماذج سابقة نجحت عبر ثنائية الشخصيتين لا غير، في خلق أثر سينمائي متفرد، ومنها أول أفلام ستيفن سبيلبرغ تحت عنوان "المبارزة" عام 1971، تجري وقائعه على الطريق في صحراء كاليفورنيا، إذ يجد بائع متجول نفسه ملاحقا من طرف سائق شاحنة مرعب، وهو ينتمي إلى صنف التشويق الذي اعتمد فيه المخرج على الحد الأدنى من الحوار والموسيقى.

يذكّرنا هذا النوع من الأفلام بنماذج سابقة نجحت عبر ثنائية الشخصيتين لا غير في خلق أثر سينمائي متفرد، ومنها أول أفلام ستيفن سبيلبرغ

كذلك فيلم "المحقق" 1972 للمخرج جوزيف إل مانكيفيتش وبطولة لورنس أوليفيه ومايكل كين. مجمل الحكاية أن يستدرج أندرو ويك، كاتب روايات الجريمة والغموض، الشاب ميلو تيندل، مصفف الشعر إلى كوخه الريفي. هذا الأخير متورط في علاقة حميمة مع زوجة الأول، ولهذا يزج به الكاتب في مخطط جريمة انتقاما منه. في المقابل يبدي الشاب مقدرة هائلة على المخادعة أيضا حينما يقترح لعبة موازية ينسف بها مخطط المحقق، وتنتهي المقابلة الماكرة بحادثة دموية مع إطلاق الكاتب النار على مصفف الشعر تاركا إياه محاطا بالألعاب الالكترونية.

AFP
شون بن ونجوم فيلم "5 سبتمبر" في العرض الأول بهوليوود.

ضمن هذا المنحى، يمكن الإشارة إلى فيلم "عشائي مع أندره" (1981) من إخراج لويس مال، قام ببطولته كل من أندره غريغوري ووالاس شون، ويستغرق زمن الفيلم بالكامل لحظة العشاء بين الشخصيتين استنادا إلى محاورة فلسفية مطولة ذات إبهار مسرحي وفني في آن.

ومن الأفلام الثنائية الشخصيتين الشهيرة أيضا، "الغروب الجزئي" 2011 للمخرج توني لي جونز، ويقوم كل من صموئيل جاكسون وتومي لي جونز بأداء الدورين المركبين ببراعة، إذ يلتقيان مصادفة في محطة المترو، وينتقلان إلى غرفة جاكسون حينما يحاول الأول الانتحار، ويستضيفه هذا في محاورة مطولة حول قلق الوجود والموت.

فضلا عن فيلم "جيري" 2002 ذي الإيقاع الوجودي، من إخراج فاس فان سانت وبطولة مات ديمون وكيسي أفليك، وكلاهما صديقين ينخرطان في مغامرة بصحراء كالفيورنيا ويتعرضان للتيه الطارئ. واستقصاء منهما لطريق العودة والمقاومة من أجل البقاء، يجمعهما حوار العزلة الذي ينحو بهما إلى الإفصاح عن معضلات حياتهما وإعادة التفكير في الصداقة.

font change

مقالات ذات صلة