الإمام الغزالي في ثلاث تجارب روائية عربية معاصرة

تداخل التاريخ والخيال لرسم سيرة إحدى أبرز الشخصيات الإسلامية

Wikicommons
Wikicommons
الإمام الغزالي.

الإمام الغزالي في ثلاث تجارب روائية عربية معاصرة

لعل أول ما يتبادر الى ذهن القارئ هو سر اختيار الإمام أبو حامد الغزالي ليحضر في ثلاثة أعمال روائية عربية معاصرة، ولماذا يحضر الإمام الغزالي في عصرنا هذا تحديدا، بعد وفاته بأكثر من ألف عام، وهل وجد المعاصرون في أحوال الناس اليوم ومشكلاتهم وصراعاتهم ما يستدعي استحضار تلك الشخصية التاريخية الإسلامية الكبيرة، الإمام أبو حامد الغزالي المعروف بلقب "حجة الإسلام"، والرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في عصره ولعصور من بعده، وكان كتابه "إحياء علوم الدين" علامة فارقة من علامات التجديد في الفكر الإسلامي، كما واجه الفلاسفة والمتكلمين في عصره وكتب عنهم مؤلفات لا يزال تأثيرها باقيا إلى اليوم، ولعل كتابيه "تهافت الفلاسفة" و"المنقذ من الضلال" من أشهر العلامات التي يعود إليها الكثير من الباحثين والدارسين.

أسباب كهذه وحدها كفيلة باستحضار شخصية الإمام في عدد من الروايات، لا سيما بعد انتشار ما يعرف بموجة الروايات عن شخصيات تاريخية من علماء وكتاب ومفكرين، قدموا الى العالم الإسلامي الكثير، وشعر الروائيون اليوم بالحاجة إلى العودة إليهم واستحضار أجزاء من سيرتهم ومسيرتهم، علها تكشف لنا وللأجيال المقبلة الكثير مما نحتاج إليه لا سيما في عصور تمتلئ بالحيرة والقلق والتوتر والنزاعات والحروب.

عاش الإمام أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري، لكنه عاصر الكثير من الأحداث المهمة في ذلك الوقت، سواء المتعلقة بالعلم والعلماء وما جرى بينهم من سجالات ومناظرات، أو علاقة العلماء بالسلطان والحكام، حيث اقترب من بلاط الوزراء والخلفاء. ومن جهة أخرى، عاش أيام الفتن والحروب الفارقة حيث دارت رحى واحدة من أهم الحروب بين العرب والغرب سميت بحرب الفرنجة أو الحروب الصليبية التي بدأت من 1096م، وكانت وفاة الغزالي 1111 م على أرجح الروايات.

ولكن كيف رأى هؤلاء الكتّاب رحلة الغزالي الفكرية والعلمية وكيف تحولت إلى مصدر ملهم للكتابة الروائية؟

"طواسين الغزالي" (2011)... رحلات غريبة ومغامرات

يبدأ المغربي عبد الإله بن عرفة روايته وتأريخه لسيرة الغزالي (صدرت الرواية عن دار الآداب) من الطفولة، وسرعان ما ينتقل بنا إلى تناول الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة التي كانت موجودة في فترة شبابه، فبعدما تلقى العلم، سرعان ما قابل زعيم الباطنية المعروفين باسم الحشاشين، الحسن الصباح، ويجعل من تعلقه بفتاة أعجبه مظهرها، "حواء/ الطاهرة" سبيلا لوصوله إلى عالمهم، ومن خلالها ومن خلال صديقه يتعرف إلى "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء" ويأخذ منها منديلا سيعرف ف يما بعد أنه يشير إلى الحشاشين وعلاقتهم بآل البيت، ويدخل بالفعل إلى "القلعة" ويحكي على لسان الغزالي تلك الرحلة إلى مكان يشبه الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهناك يتحوّل الغزالي إلى رجل يخوض غمار مغامرات عجائبية، يفك طلاسم الكلمات ويستخدم "حساب الجمل" حتى يتمكن من الخروج من القلعة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ينتقل إلى علاقته بحواء التي تشترط عليه أن يحل أحجية لغوية لكي يظفر بقلبها، وينجح الغزالي باستخدام تلك الحسابات في الزواج منها، يقول على لسان الغزالي:

"حاولتُ تأليف عدّة كلمات بهذه الحروف، تكون لها القيمة العدديّة نفسها «عف، كفن، مسن، صين...»، لم أُفلِح في كلّ هذه المحاولات لأنّها لم تكن الكلمات المطلوبة. ثم تَفَكَّرْتُ في كلمة المفتاح «أبو الآباء»، وافترَضْتُ أنّه «آدم»، قياسا على حوّا في المثلّث الأوّل. ثم حاولتُ أن أستخرجَ العدد 150 منه. لكن تبيَّنَ لي أنّ عدَدَه 45 فقط".

عاصر الغزالي الكثير من الأحداث المهمة في ذلك الوقت، سواء المتعلقة بالعلم والعلماء وما جرى بينهم من سجالات ومناظرات، أو علاقة العلماء بالسلطان والحكام

لم يكتفِ الكاتب بذلك، بل جعل من الغزالي رسولا بين الجويني والوزير نظام الملك يحذره من خطر الحشاشين الذين يخططون لقتله، وجعل سفره الى نيسابور من أجل ذلك، وهو ما يختلف كثيرا عن المعروف من سيرة الغزالي ومركزه العلمي.

غلاف رواية"طواسين الغزالي"

قسّم ابن عرفة فصول الرواية طواسين، وتنقل في أحداثها بين تلك المغامرة الغريبة التي يخوضها الغزالي، وبين أخبار تاريخية جاءت بشكل تقريري جاف عن العصر والفرق الإسلامية فيه، والدور الذي يجب أن يقوم به العلماء لمحاربة تلك الفرق، ويأتي على ذكر واحدة من أهم محطات حياته وهي "العزلة" التي ترك من أجلها عالم التدريس ومجالس العلماء، فيفسر ذلك بحادث وفاة ابنه الأول حامد، وهو أمر لم يأتِ ذكره  في ما نعرفه من تاريخ الغزالي أبدا، بل ويعود الى ما رواه مرتضى الزبيدي في شرح "إحياء علوم الدين" ليذكر أن قراره العزلة جاء بناء على منام يرى فيه الله يأمره باتباع أحد مشايخ الصوفية هو الشيخ يوسف النساج، ويجعل ذلك في "طاسين الرؤية" حتى يصل إلى رحلته إلى القدس التي يكتب فيها كتابه الأشهر، "إحياء علوم الدين"، ويجعل ذلك في  فصل بعنوان "طاسين الإحياء"، وفيه يعرض بن عرفة كل ما سبق كتاب "الإحياء" من جدال ومناظرات بينه وبين المتصوفة وعلماء الفلسفة والكلام، وما أدى به إلى كتابة ذلك الكتاب المهم. لكن الأمر لا يستقر للغزالي حتى يصل بيت المقدس، وهناك يذهب الكاتب مذهبا غريبا في أن يجعله يحاور النملة بل ويربط بينها وبين "طس" في بداية سورة النمل، ويقيم بين الغزالي وبين النملة حوارا عجيبا، يجمع فيه بين حساب الجمل وما يرد في القرآن، وكأنه يسعى من كل ذلك إلى أن يضفي على الغزالي ما ليس معروفا عنه من خلال تلك الكرامات أو التصرفات والمواقف الغريبة، ويجعل أثر ذلك هو كتابته لعدد من مؤلفاته في ما بعد.

غلاف رواية "دانشمند".

"دانشمند" (2023)... رحلة الغزالي وحياته بتفاصيلها المختلفة

أما الموريتاني أحمد فال الدين فقد قسّم روايته الكبيرة (635 صفحة، دار مسكلياني) خمسة فصول/أقسام،  هي خمس مراحل مرت بها حياة الغزالي، بدءا بمرحلة "اليتيم" ثم كيف أصبح أستاذا وكبير المعلمين الذي يسمونه "دانشمد" حتى بلغت به الحيرة مبلغه، فسعى إلى ترك كل ما حوله وأصبح "الهارب"، ثم تحول إلى "الناسك"، حتى يستقر مقامه في الفصل الأخير "بقلب سليم".

يتحوّل الغزالي عند بن عرفة إلى رجل يخوض غمار مغامرات عجائبية، يفك طلاسم الكلمات ويستخدم "حساب الجمل" حتى يتمكن من الخروج من قلعة "الحشاشين"

 

تبدو الرواية عند أحمد فال الدين أكثر ثراء وتفصيلا، ليس على مستوى حياة الغزالي فحسب وإنما المجتمع المحيط به من جهة، ثم أحوال العالم في تلك الفترة التاريخية التي عاش فيها من جهة أخرى، فالرواية لا تدور في المناطق التي عاشها الغزالي فقط، بل تنتقل بنا في الأماكن فنرحل معها إلى فرنسا والقسطنطينية لنتعرف إلى أجواء الحروب الصليبية وما قبلها، كما تظهر بوضوح عناية الكاتب بعرض الكثير من تفاصيل المجتمع الذي عاش فيه الغزالي قبيل مولده وحتى شبابه، مرورا بزواجه وعلاقته بعائلته، ويسمي زوجته "خلوب"، وهي التي سينجب منها ابنتيه عائشة وفاطمة، كما سيتعرف القارئ في الرواية إلى العديد من المدن والأمصار التي يمر بها الغزالي، سواء عاش فيها أو مر بها، كما يورد عددا من الأعلام المعروفين الذين صاحبهم الغزالي وتأثر بهم وأثروا فيه، بدءا بمعلمه الشيخ الجويني، مرورا بأبي علي الفاراماذي، حتى نصل إلى السلاطين والحكام، مثل نظام الملك الذي كان له أكبر الأثر في حياته ومسيرته العلمية، وصولا إلى أئمة الباطنيين الذين ترصدوا له حتى يقتلوه.

 لم يكتف فال الدين برصد حياة الغزالي وعلاقاته بمن حوله، رغم كل ما في ذلك من ثراء، بل اهتم أيضا بوصف المدن والأماكن التاريخية التي دارت فيها الرواية، بدءا بنيسابور والطابران وأصبهان وصولا إلى بغداد ودمشق والقدس، كما اهتم بوصف حياة الناس داخل الأسواق والمكتبات ومجالس العلم ودور الخلفاء، واهتم كذلك بعرض المناظرات والحوارات العلمية وغير العلمية التي كانت تدور في مجالسهم. لا شك أن كل ذلك سيجعل القارئ مندمجا في حياة الغزالي وعالمه، حتى يصل إلى تلك المرحلة الأهم في حياته، وهي حيرته بين العلم والعزلة، بين أن يكون أستاذا كبيرا يتوجه إليه الناس، وبين أن يترك كل شيءٍ بحثا عن الحقيقة، ذلك التحوّل الذي يعد أحد دروس الحياة ليس للغزالي فحسب، وإنما لكل من يتعرف اليه ويقرأ سيرته.

ينتقل فال الدين في عدد من فصول الرواية بين فرنسا والقسطنطينية ليعرض لنا جوانب وأطرافا مما كان يدور هناك من الإعداد للحروب الصليبية، ويبدو قادرا على تمثل عدد من الشخصيات التاريخية الكبرى هناك، فيتحدث كذلك عن الكسيوس قائد الفرنجة وقلج أرسلان قائد الترك وغيرهما من القادة الذين كانوا يتحدثون عما يطلقون عليهم اسم "المحمديين"، والخيانات التي حدثت من بعض قادة حصون السلاجقة حتى تم احتلال بيت المقدس، فيأخذنا إلى الحوارات التي كانت تدور وكيف كانت الدعاوى الدينية لتلك الحرب التي دارت رحاها في تلك الفترة وقتلت الآلاف من المسلمين وأدت إلى احتلال القدس بالفعل عام 1099م، واستمر الأمر كذلك الى فترة زمنية طويلة، وكيف كان تعامل عموم المسلمين والعامة في بغداد ونيسابور مع ما حدث في القدس من قتل ودمار وأهوال وفظائع، يسردها كلها بشكل مفصل، ولا شك أنها ستذكر القارئ بما يحدث من حروب وصراعات مستمرة في فلسطين إلى يومنا هذا.

ينتقل فال الدين في عدد من فصول الرواية بين فرنسا والقسطنطينية ليعرض لنا جوانب وأطرافا مما كان يدور هناك من الإعداد للحروب الصليبية

 

في النهاية يختار فال الدين للغزالي أن تكون وفاته ليست طبيعية، بل يضع له السم أحد المتآمرين عليه من الباطنية (أتباع حسن الصباح) الذين كانوا يخشون كتاباته وتأليب الناس عليهم.

"الغواص" (2024)... التركيز على الجوانب الإنسانية

من مخطوط ترى الكاتبة والباحثة المصرية ريم بسيوني في روايتها "الغواص" (صدرت عن "الشروق) أنه ربما يعود الى زوجة الإمام الغزالي باسم "الأسد والغواص" تبدأ رحلتها للتعرف إلى عالم الإمام الغزالي على نحو مختلف، حيث يبدو اهتمامها منذ البداية بالجانب الإنساني والنفسي للغزالي، فتركز على علاقته الخاصة بالمرأة، ليست الحبيبة فحسب، وإنما تضع في طريقه عددا من النساء، بدءا بعلاقته بأمه (تذكر أنها تكفلت بعايته بعد وفاة والده) ثم ثريا الفتاة التي أحبته، وتتبعت خطاه حتى تزوجها في ما بعد، وصولا إلى تركان خاتون زوجة السلطان التي تحاول التآمر عليه لما ترى من مكانته عند زوجها، ثم تتحول العلاقة إلى علاقة نفعية، حيث يتوسط لديها لكي تتنازل عن تولية ابنها العرش بعد وفاة زوجها، كما تركز بسيوني على علاقة الغزالي ببيته وأسرته، فثريا تشعر بالغيرة عليه من علاقته بتركان خاتون، وتقف أمامه رافضة عزلته التي تعد واحدة من أهم محطات حياته، ويدور بينهما عدد من الحوارات والنقاشات الخاصة بالبيت وضرورة الموازنة بين دوره كعالم ودوره في منزله. وهي حوارات ونقاشات، وإن بدت ذات صلة بالغزالي وحياته، إلا أنها تلقي بظلالها على حياتنا وواقعنا اليومي، وتبدو فيها بين حين وآخر وجهة نظر الكاتبة، لا سيما أن شخصية ثريا كزوجة للإمام ليست شخصية تاريخية، وإنما هي من وضع الكاتبة.

غلاف رواية "الغواص".

 ربما يؤخذ عليها من جهة أخرى فرض وجهة نظرها أو تصورها الشخصي حول ما حدث للغزالي على لسان شخصيات الرواية، فقد تحدث الكثير من المؤرخين عن عزلة الغزالي وأسبابها ودوافعها، ورأت ريم بسيوني من خلال بحثها في سيرته وعلاقته بالسلطان أنه كان يخشى تلك العزلة لأنه قد يكون فيها مقتله، فتأتي بتلك الفكرة بشكل مباشر على لسان أحد رجال الوزير أثناء فترة مرضه:

"لو مثلا افترضنا أن مرض الشيخ ليس حقيقيا، وأن الشيخ يريد أن يستريح من الإمامة ومن المنصب، فالقتل حينها يكون جزاء عادلا لمن خان الأمانة. هذا المنصب مبايعة للخليفة وتأكيد لشرعيته، لا يتركه سوى مجرم أو غادر. والغزالي ليس كذلك. الإمام قَبِل المنصب، والمنصب أمانة، من يتركه يتحدى الخليفة، ويثير العامة على الحكام، كأنه يحاول أن يأخذ من شرعية الخليفة ويتهمه".

يبدو اهتمام بسيوني منذ البداية بالجانب الإنساني والنفسي للغزالي فتركز على علاقته الخاصة بالمرأة

 

وهي بذلك كأنما تبرر للغزالي ذلك الموقف الذي يبدو غريبا من رجلٍ كان يهتم برعاية بيته وأسرته، ولكنها في الوقت نفسه تبالغ في وصف شدة تعلق زوجته ثريا به وعدم تقبلها لتلك الحالة الغريبة.

ثم تنطلق بسيوني بنا إلى محنة الإمام الغزالي وعزلته، وهي أهم مراحل سيرته، وتمعن في وصف حيرته وكيف وصل به الحال إلى الزهد التام والاستغناء عن الناس وتصف حاله في البحث عن الحقيقة أثناء العزلة وقرار كتابته "إحياء علوم الدين"، وفي فصلٍ خاص تتناول بعض أجزاء الكتاب بالشرح والتحليل من خلال أسئلة بين الغزالي وتلاميذه، ولعلها اختارت تحديدا تلك الجوانب التي تعكس شخصيته بعيدا من الأجزاء الفقهية النظرية في الكتاب (مثل التوكل)، ثم يعود الغزالي الى زوجته فجأة ويخبرها أنه سمع نداءها (في باطنه) فجاء مسرعا (تستند هنا إلى الرواية التي ترجح أن عزلته كانت لمدة سنتين فقط) ولكنه يعود مختلفا عما كان عليه، لا يسعى إلى أن يكون أستاذا كبيرا ولا أن يكون له مريدون، ويتفرغ لكتابة عدد من كتبه، لعل أبرزها وأهمها "المنقذ من الضلال"... حتى تنتهي أيام الغزالي ويحين وقت وفاته. ورغم إشارتها لالى عدد ممن كانوا يريدون قتله ويسعون الى ذلك، إلا أنها تنتهي إلى ما انتهت إليه أكثر كتب التاريخ، من أن وفاته كانت عادية.

في الفصل الأخير تختصر ريم بسيوني رحلة الغزالي بعنوان "على هامش التاريخ" وتؤكد فكرة كتاب "الأسد والغواص" الذي تعتقد أن زوجة الغزالي كتبته ورمزت فيه الى حياته وعلاقته بالسلطة.

font change

مقالات ذات صلة