روسيا وإيران... علاقة حيوية ومعقدة على محك نزاعات المنطقة

كشف "الانقلاب السوري" خللا واضحا في التنسيق بين موسكو وطهران

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال لقائهما على هامش منتدى دولي في 11 أكتوبر 2024

روسيا وإيران... علاقة حيوية ومعقدة على محك نزاعات المنطقة

تشهد سوريا منذ السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول انقلابًا في التوازنات الداخلية والإقليمية، ويكشف ذلك عن خلل واضح في التنسيق الروسي-الإيراني. وتأتي أحداث الساحة السورية تتمة لحرب لبنان الأخيرة، ولتطورات الشرق الأوسط المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر 2023، والتي تسلط الضوء على إيران، ومستقبل مشروعها الإقليمي وعلاقاتها الدولية.

ومما لا شك فيه أن الصلة الروسية- الإيرانية لها خصوصيتها في هذا السياق، وذلك بعد أن اكتسبت العلاقات بين طهران وموسكو زخماً جديداً منذ بداية الحرب في أوكرانيا، حيث انتقلت من العلاقات غير المتكافئة منذ عام 1991 إلى محاولة بناء شراكة استراتيجية حقيقية. لكن، وعلى الرغم من تعميق التعاون العسكري والسيبراني والأمني والنووي المدني، تبدو موسكو مترددة في الانخراط بشكل مباشر إلى جانب طهران ضد الولايات المتحدة، وحلفائها في الشرق الأوسط. ولا تزال حسابات كلا الطرفين والخلفيات التاريخية تعيق بناء تحالف مناهض للغرب بين روسيا وإيران. ويتوقف تطور العلاقات الروسية- الإيرانية الحيوية والمعقدة على مصير الصراعات القائمة، والتجاذب بين واشنطن وطهران في حقبة دونالد ترمب الجديدة. وسيكون لذلك تداعياته على الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، وعلى خيارات اللاعب الإيراني.

التطور العملي والمرن لعلاقة معقدة

من أجل الإحاطة بالواقع الحالي، لا بد من التذكير بالعلاقات التاريخية المضطربة بين البلدين الجارين والمتسمة بالتوترات والصراعات، خاصة خلال الحروب الروسية- الفارسية (1804-1813) و(1826-1828) على خلفية الحكم المتنازع عليه للأراضي والبلدان في منطقة القوقاز، ومن بينها أذربيجان وجورجيا وأرمينيا، إضافة إلى كثير من مقاطعات داغستان التي يُشار إليها باسم جنوب القوقاز. وانتهت تلك الحروب بتوقيع معاهدتي "تركمانجاي" و"كلستان"، وخسرت حينها إيران أجزاء كبيرة من أراضيها لمصلحة روسيا.

وخلال العهد السوفياتي شهدت تلك العلاقات تقلباً بين التحالف والتوتر، على خلفية محاولة السوفيات بعد الثورة البلشفية عام 1917 نشر الشيوعية في إيران، مما أدى إلى نشوب بعض الصراعات.

لاحقاً بعد بدء عهد "الجمهورية الإسلامية" عام 1979 أصبحت إيران معادية للولايات المتحدة، مما دفعها إلى تعزيز علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي السابق، ولاحقاً مع روسيا بعد انهيار هذا الاتحاد، حيث تعزز التعاون الثنائي، وخاصة في أوقات التوترات الإيرانية- الأميركية، والروسية- الأميركية.

تتمثل الأولوية الحالية لموسكو في الشرق الأوسط، في تحويل الاهتمام الدولي عن الحرب الأوكرانية، وإضعاف دعم واشنطن العسكري لكييف

وفي سياق الحروب في أوكرانيا وغزة ولبنان، يبدو أن هذا البعد الثلاثي للعلاقات بين إيران وروسيا من جهة، وإيران والولايات المتحدة من جهة أخرى، يبقى أساسياً في مقاربة العلاقة الثنائية بين طهران وموسكو.

وكل تقارب آني أو مصلحي يخضع لمتغيرات، نظراً لطبيعة العلاقة المعقدة والانقسام حيال عدد من القضايا، إذ إن الكثير من الإيرانيين يختزنون في ذاكرتهم، ما يعتبرونه تدخلات عانى منها أسلافهم على أيدي الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي. ويتوجب عدم إهمال التنافس بين الطرفين في المدى الجيوسياسي نفسه (آسيا الوسطى والقوقاز)، وكذلك تضارب مصالحهما في أسواق الطاقة وطرق نقلها. 

أ.ف.ب
رئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري وأمين مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو في طهران، 5 أغسطس 2024

إلا أن نهاية الحرب الباردة شهدت تطوراً للعلاقات بين طهران وموسكو بشكل واسع، وسرعان ما أصبحت روسيا الوريثة للاتفاقيات العسكرية الإيرانية- السوفياتية، وكانت أبرز المحطات في منتصف التسعينات حين وافقت روسيا على إنهاء بناء محطة الطاقة النووية في بوشهر، التي تأخرت قرابة 20 عاماً، واستمرت في تطوير البرنامج النووي الإيراني.

الاستراتيجية الروسية الكامنة واختلاف الأولويات مع إيران

من الضروري الإشارة إلى أن الفجوة في مستويات القوة بين إيران وروسيا، لا تجعل الكرملين راغباً في رفع مستوى علاقاته مع طهران، إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية، مع تفضيل إبقاء العلاقة في إطار "المصالح المتبادلة". 

وعلى صعيد الشرق الأوسط، تعتبر روسيا نفسها قوة كبرى لها هامش مناوراتها، في استخدام علاقاتها مع اللاعبين الإقليميين، مثل إيران لتحسين مواقعها في المنطقة، وقد استفادت موسكو من اختلالات السياسة الخارجية الإيرانية. لكن حروب أوكرانيا وغزة ولبنان، أخذت تغير معايير العلاقة بين الجانبين، ولذا من المهم التطرق للاستراتيجية الروسية لفهم المآلات بين الجانبين.

وتتمثل الأولوية الحالية لموسكو في الشرق الأوسط، في تحويل الاهتمام الدولي عن الحرب الأوكرانية، وإضعاف دعم واشنطن العسكري لكييف. علاوة على ذلك، فإن روسيا مضطرة إلى المناورة بحذر في سياق التوترات العسكرية الإسرائيلية- الإيرانية، والتي يمكن أن تؤثر على أمن واستدامة الوجود العسكري الروسي في سوريا. وتنظر موسكو إلى طهران في المقام الأول كوسيلة لتحدي الغرب. وعلى هذا النحو، فلا بد من الحفاظ على النفوذ الإيراني: فالاجتماعات الرسمية الأخيرة بين إيران وروسيا، تثبت رغبة روسيا في إدارة التوترات الإقليمية، وفي هذا الصدد، تردد موسكو وقوفها ضد خطر نشوب حرب شاملة في الشرق الأوسط، وترافق ذلك مع دعم موسكو طهران لعضوية إيران في مجموعة "بريكس" في أغسطس/آب 2023.

الواضح أن روسيا ترغب في الحفاظ على علاقات رسمية وغير رسمية، مع اللاعبين الإقليميين كافة، وتجزئة الملفات في علاقتها مع طهران، خاصة أن احتدام التوترات الجيوسياسية القوية للغاية يتيح استمرار ارتفاع أسعار البترول 

يكمن التناقض كذلك في تضارب الأهداف المباشرة، إذ إن موسكو تؤيد استمرار الفوضى في المنطقة (يهم موسكو ازدهار سوق أسلحتها أيضاً) مع تجنب حرب شاملة في الشرق الأوسط، على عكس طهران التي تعتبر الأولوية في الدفاع عن نظامها، وتعزيز نفوذ محورها بغض النظر عن مآلات التصعيد.

ومن الواضح أن روسيا ترغب في الحفاظ على علاقات رسمية وغير رسمية، مع اللاعبين الإقليميين كافة، وتجزئة الملفات في علاقتها مع طهران، خاصة أن احتدام التوترات الجيوسياسية القوية للغاية يتيح استمرار ارتفاع أسعار البترول. 

وعلى المدى الأبعد، تريد روسيا استخدام نزاعات الشرق الأوسط، بمثابة رافعة في الوصول إلى إعادة هيكلة "ما بعد الغرب" في العلاقات الدولية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، ولكل هذه الأسباب لم ترتق الصلة الروسية- الإيرانية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية.

حدود التنسيق الثنائي 

كشفت المواجهة العسكرية في (2015-2016) عن فعالية التنسيق بين روسيا وإيران، وإنقاذ حكومة دمشق حينها تحت سقف العين الساهرة الأميركية والتراجع التركي، ومع مرور الوقت وتبعاً لتجارب تاريخية سابقة، برزت صعوبة التعايش بين قوتين مسيطرتين على أرض واحدة، إن لجهة تصور مستقبل سوريا ودور حكم الرئيس بشار الأسد، وإن لناحية الحسابات الاستراتيجية والإقليمية للطرفين. 

رويترز
وزراء خارجية روسيا سيرغي لافروف وتركيا هاكان فيدان وإيران عباس عراقجي خلال اجتماع بشأن الأزمة السورية في إطار عملية أستانا على هامش منتدى الدوحة في الدوحة، قطر، 7 ديسمبر 2024

ومنذ عدة أشهر، دأبت موسكو على نصح الرئيس السوري، بوجوب قبول عروض الرئيس رجب طيب أردوغان والتطبيع مع أنقرة، لأنها كانت مدركة لاحتمال بدء أفول النفوذ الإيراني، بسبب الضغط الأميركي- الإسرائيلي، وثقل الاستحواذ الإيراني لمراكز القرار في دمشق. ولذا لم تبد روسيا متحمسة للانغماس بقوة في مواجهة عام 2024 نظراً للانهيار المتسارع لحكومة دمشق، وعدم نجاح دمشق وإيران في استدراك ذلك، ولأن إهمال العملية السياسية قاد لهذا التدهور، ومما لا شك فيه أن هذا التناقض على الساحة السورية، سيبقى جرحاً غائراً في صلات موسكو وطهران. 

وعلى صعيد أشمل، يراهن الرئيس الإيراني مسعود بيزشيكان (بصحبة مساعده محمد جواد ظريف)، خلافاً لسلفه إبراهيم رئيسي الذي متّن  العلاقات مع روسيا والصين، على تحسين العلاقات مع واشنطن والغرب. ورغم ذلك، شدد سيد الكرملين فلاديمير بوتين في أول قمة مع بيزشكيان على "أهمية التعاون الروسي الإيراني في مختلف الساحات الدولية"، مؤكدا أن "الرؤى المشتركة تساعد البلدين في معالجة التحديات الجيوسياسية المعقدة التي يشهدها العالم حاليا". لكن إيران تسعى من جهتها للحفاظ على توازن في علاقاتها الدولية، حيث إن الاعتماد الكامل على روسيا والصين، قد لا يكون في مصلحتها على المدى الطويل. وبرز ذلك من خلال الجدل الواسع داخل إيران إزاء اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع روسيا والتي لا تزال من دون توقيع.

هكذا يتبين أن التناقضات بين مصالح ورؤى الطرفين تقيد شراكتهما، إذ إن روسيا تقف حتى الآن ضد عسكرة البرنامج النووي الإيراني، وتعارض احتمال انسحاب إيران من معاهدة منع الانتشار النووي. وخلال المفاوضات الطويلة قبل "خطة العمل المشتركة" (اتفاق 2015) ساد عدم الثقة بين وزيري خارجية البلدين محمد جواد ظريف، وسيرغي لافروف، ولم يتوان الأول منذ فترة عن اتهام وزير خارجية بوتين بالعمل على منع الاتفاق حتى لا تتحسن العلاقة الإيرانية مع واشنطن. 

وبالرغم من توصيف نظام إيران الولايات المتحدة بأنها "الشيطان الأكبر"، تسود لدى الأغلبية في الرأي العام الإيراني، تصورات سلبية حول روسيا بسبب ثقل التاريخ. وأشار استطلاع للرأي حديث أن65 في المئة من الإيرانيين، لهم رأي سلبي تجاه روسيا، وعارض 71 في المئة الاتفاق بين إيران وروسيا بشأن النظام القانوني لبحر قزوين، ورفض 66 في المئة فكرة مسودة اتفاقية التعاون لمدة عشرين عاما بين إيران وروسيا.

وما يزيد الطين بلة، عدم تطور التعاون في حقول الطاقة، نظرا للتنافس في مبيعات النفط والغاز، ولعدم وجود قدرات روسية تقنية، لتطوير الموارد الهيدروكربونية الإيرانية بشكل فعال.

رغم تطور التعاون العسكري بين إيران وروسيا منذ اندلاع حرب أوكرانيا، فإنه لم يصل إلى مستوى طموح طهران، خاصة في الحصول على أنظمة دفاع جوي متطورة، وطائرات من الجيل الجديد

بالإضافة إلى ذلك، على المستوى الاقتصادي، تواجه إيران أهمية العلاقات بين روسيا والدول العربية في الخليج (لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة)، وهو ما يفسر دعم موسكو للموقف الإماراتي في عام 2023، بشأن مسألة السيادة على الجزر المتنازع عليها مع إيران. ويعزز ذلك موقف "الدولة" بقيادة مسعود بيزشكيان لجهة الانفتاح الاقتصادي على الدول الأوروبية، الذي من شأنه أن يخدم مصالح إيران.

وبالرغم من تطور التعاون العسكري بين إيران وروسيا منذ اندلاع حرب أوكرانيا، فإنه لم يصل إلى مستوى طموح طهران، خاصة في الحصول على أنظمة دفاع جوي متطورة، وطائرات من الجيل الجديد. وهكذا تعتبر أوساط عديدة أن تزويد طهران لموسكو بالمسيرات والصواريخ، بقي في إطار تبادل مصالح استفادت منه روسيا، وتنتظر إيران تلبية موسكو لطلباتها في هذا المنعطف الحرج من التصعيد في الشرق الأوسط. لكن موسكو لها قواعدها في التعاون الأمني والعسكري إذ إن صلاتها مع أطراف ما يسمى "محور المقاومة" تقتصر على حوار دبلوماسي أو على تنسيق موضعي في حالة "حزب الله" وتعاون تبادلي مع الحوثيين (تزويد الميليشيا اليمنية بإحداثيات السفن أو احتمال تجنيد مقاتلين في الحرب الأوكرانية). وحتى اللحظة تتجنب موسكو في سوريا وجوارها، أي صدام مباشر مع إسرائيل، وتسعى دوماً للحفاظ على مكسبها السوري في شرق البحر الأبيض المتوسط، مع عدم استبعاد دعمها المحور الإيراني في حال استهدافه القواعد الأميركية. 

وسيتوقف تطور هذه العلاقة في المقام الأول على تتمات الصراع السوري، ومقاربة إدارة دونالد ترمب القادمة للملفات الإيرانية، وعلى مستقبل الصراع الإسرائيلي- الإيراني والبرنامج النووي الإيراني في المقام الثاني. ويبرز كل ذلك المسالك الوعرة للعلاقة الخاصة بين موسكو وطهران، وستكون إيران كما غرب آسيا في قلب الصراع الدولي اقتصاديا واستراتيجيا.

font change

مقالات ذات صلة