كسوريين سنحكي الكثير ولسنوات وسنوات عن تجاربنا، عن طفولتنا، ونحن نرتدي البدلة العسكرية، سنوات وملايين الصفحات سنملؤها. كم كانت أحلامنا كشعب بسيطة، وكم كان الثمن الذي دفعناه كبيرا، سنحكي كثيرا ونبكي كثيرا، وسنضحك كثيرا اليوم ونحن نعيش لحظات قضيت أكثر من نصف عمري أنتظرها، وأدفع ثمنها. سأؤجل الحديث عني وعنا قليلا لأحكي عنهم، عن المعتقلين غير السوريين الذين يخرجون من سجون الأسد. علي حسن العلي، مواطن لبناني من عكار، بعد نحو 40 عاماً على اختفائه، خرج قبل أيام من سجن حماة المركزي، بعد سيطرة الفصائل السورية على السجن وتحرير المعتقلين، 40 عاماً ماتت خلالها والدته قهرا، كآلاف الأمهات، وهي لا تعلم إن كان ابنها حياً أم ميتاً، علي اعتقله الجيش السوري عام 1985 في مدينة طرابلس. عودة العلي أعادت الحديث عن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، المعتقلين الذين طالما رفضت حكومة دمشق إعطاء إجابات شافية عنهم، والذين أنكر رئيس الجمهورية اللبنانية السابق ميشال عون أيضا وجودهم.
بعد خروج العلي من المعتقل حياً، عاد الأمل لمئات العائلات اللبنانية لكشف مصير أبنائهم، 622 عائلة لبنانية تنتظر اليوم، هل سيعودون جميعاً أحياء بعد تحرير السجون؟ أن تمضي أمهات أعمارهن ينتظرن هل يتشحن بالسواد حزناً على مقتل أولادهن، أم ينتظرن عمرهن خبراً عن مصيرهم؟ في السجون السورية أكثر من 3000 فلسطيني وفقاً لتوثيق "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا" صدر قبل عام، المجموعة التي وثقت قتل الأمن السوري لـ643 لاجئاً فلسطينياً تحت التعذيب في معتقلاته، بينهم نساء وأطفال وكبار في السن، أشارت يومها إلى أن الأعداد أكبر من ذلك، ولكن هناك غياب لأي إحصاءات رسمية صادرة عن الأجهزة الأمنية السورية، بالإضافة إلى تخوف بعض أهالي المعتقلين والضحايا من الإفصاح عن تلك الحالات، خوفاً من ردة فعل الأجهزة الأمنية السورية.
لقد دفع أبناء سوريا بكل ألوانهم وعقائدهم، ثمنا يفوق الخيال حتى بانت أي بارقة أمل يتلقاها الجميع بمزيج من الفرح والقلق
من السجون سيخرج سوريون ولبنانيون وفلسطينيون وعراقيون وأردنيون، وأجانب، ولكن هل كان يخطر على بال أحد منا أن تحرير السجون سيحرر معتقلات إثيوبيات وإندونيسيات وغيرهن؟ كتبت إحدى المحررات السوريات عن "زميلاتها" في المعتقلات، إثيوبيات وإندونيسيات وفلبينيات كما ذكرت، أتين إلى سوريا للعمالة المنزلية وعند انتهاء عقود العمل، وقبيل سفرهن، اعتقلن من المطار ليزج بهن في السجون، وليتم تخييرهن لاحقاً بين العمل عند زوجات الضباط مقابل حريتهن، أو البقاء في السجن. ليأتي التعليق من معتقلة سابقة تؤكد على مأساة العاملات الأجنبيات في السجون السورية، وتقول عمن شاركت معهن الزنزانة "أقله نحن كنا فاهمين ما يحصل ولكن هن؟"، هذه ليست "انتهاكات" لحقوق الإنسان، هذه عبودية ورق في عام 2024 في "سوريا الأسد".
هذا ما حصل لغير السوريات، هذا بعض ما حصل، ولهن حكايات وحكايات سيروونها يوماً، لهن أسماء حوّلت إلى أرقام منسية، لهن أحلام راحت، لن يكون الانتقال إلى سوريا الحلم سهلاً، سنواجه الصعوبات وسنتعثر، لكن المسيرة انطلقت نحو وطن يتسع لنا جميعاً، نحو بلد لا يخاف زواره أن يُغيّبوا في أقبية السجون عشرات السنين حتى يصبحوا ذكرى... إنها ساعات الفجر الأولى بعد ليل طويل.
لقد دفع أبناء سوريا بكل ألوانهم وعقائدهم، ثمنا يفوق الخيال حتى بانت أي بارقة أمل يتلقاها الجميع بمزيج من الفرح والقلق، الفرح بتحطيم الصخرة التي كانت تسد طريق المستقبل، والقلق من الإخفاق والمزيد من الجراح. لكن هذا الفرح لا يمكن أن يكتمل إلا بالكشف عن مصير المفقودين والمغيبين، فعشرات آلاف الأسر التي باتت تدقق في صورة كل معتقل يتم تحريره من السجون، تنتظر أخبارا يقينية عن مصير أولادها، وهم يبتهلون بأن يكونوا على قيد الحياة، وأن لا يكونوا من أولئك الذين قضوا تحت سياط التعذيب، فجمال المستقبل لن يكتمل إلا بهم.
إلى صديقي الذي يتهرب من الرد على اتصالات والدته لتسأله عن مصير شقيقه، إنه زمن المعجزات، وليكن مصير محمود كمصير علي العائد إلى عائلته.