تطورت كتابة أدب الأسفار أو أدب الرحلات كثيراً، ودخلت أساليب مختلفة وواسعة في هذا النوع من الأدب، مثل "المذكرات الشخصية" التي باتت تتعمق في التجارب العاطفية، مع الأدلة التفصيلية التي تشوقنا لمغامرات جديدة كل حين أثناء القراءة... لنتذكر كيف كان السفر معقداً، وكم كان فيه الكثير من القيود، سواء من ناحية الظروف الشخصية، أو بسبب القيود العالمية، ولكن اليوم هناك من يكتب "أدب للرحلات" وهو في بيته من دون سفر، ليشعرنا بسخونة الرمال، أو الهواء النقي في الجبال.
من دون أدنى حركة، يثبت هؤلاء كم هو جميل السفر مع الخيال، وهم يصنعون كتاباً لـ"أدب الرحلات" ومغامرة جديدة مصنوعة خيالاً، وكأنهم يذكروننا بأن الجوهر الحقيقي للسفر، ليس في الوجهات التي نزورها، ولكن في مدى السعادة المنقولة، وهم من فوق كراسيهم، ينقلوننا إلى فكر فلسفي جديد.
منذ العصور القديمة إلى اليوم، لا زال الأدب العالمي يتصدره "أدب الرحلات"، يبحث القارئ عن القصص الحقيقية في الأسفار، حتى ظهر نوع جديد وهجين، بل وخالٍ من الحدود الواضحة، والتي من الممكن العثور عليها في بعض "السجلات" و"الرسائل" و"المذكرات" و"الروايات"... هو نوع من سفر دون سفر يمنح كتاباً مصنوعاً من صاحبه البارع، لا كرواية أو قصة، إنما أدب للرحلات، فهل يمكن أن نطلق عليه مؤرخاً للخيال؟
كل شيء ممكن، إن فكرنا قليلاً في هذا النوع الأدبي الجديد، بشغف البحث في السفر عن شيء ما، فكرة، مكان، إنسان، هويات... لنجد أن المسألة هي العيش في المقاربات المختلفة أثناء الكتابة، التاريخية والاجتماعية والثقافية، والطرق المختلفة لمقاربة المشاهدات، وأتحدث هنا من واقع النظرية الأدبية النقدية، وبالمثل، عن أهمية النوع الثقافي للمكان، وتطوره التاريخي ومساهمته في بناء ذاكرة الهوية للإنسان المغلوب على أمره، نعم هو مغلوب، فلا يوجد اليوم إنسان ليس مغلوباً على أمره. على الرغم من القوانين القوية وحماية الحقوق، يبقى الخيال الخصب مستخدماً فكرة المغلوب، وهو يؤرخ للمكان عبر خرائط "غوغل"، مع عشرات الفيديوهات الناقلة للإحساس بالأشياء، وكتابات متوفرة لتجارب السابقين حول المكان المراد، ويصبح السفر سهلاً عبر الخيال بعد تلك المصادر.
نشهد اليوم مفهوم "أدب الرحلات بين السفر واللاسفر"، و"أدب الرحلات بين الواقع والخيال"، فكلاهما أصبح نوعا أدبيا شيقا، يقع ضمن الأدب السردي، أو فرع الأدب الموضوعي
في عصر الطيران السريع الواقعي، ووفرة الأسفار السهلة أكثر من أي زمن مضى، ورحلات اقتصادية بالمئات، كل عدة ساعات، سفراً مكرراً إلى مدن شيقة لا تتعدى المسافة إليها الثلاث أو الأربع ساعات، تمنح فرصة قَيّمة للانغماس في "أدب الرحلات" القصير جداً، لكن الخيال بات أوسع من تلك الرحلات السهلة.
ونشهد اليوم مفهوم "أدب الرحلات بين السفر واللاسفر"، و"أدب الرحلات بين الواقع والخيال"، فكلاهما أصبح نوعا أدبيا شيقا، يقع ضمن الأدب السردي، أو فرع الأدب الموضوعي، ففي رأيي لا يعكس "أدب الرحلات" القائم على الخيال كذباً، لطالما كُتبَ من خلال النهج التاريخي والبحثي، مثرياً تفكير القارئ، بنظرياته الجديدة حول المكان، ومن خلال المقاربات كما ذكرت، ليصبح "أدب الرحلات خيالاً"، وهو نوع مستقل، باعتباره جنسا مستقلا، وإعادة النظر حول المنتج الأدبي وأنواعه، فتأريخ الخيال يقود رغبة المتلقي إلى سفر واقعي بعد أن صُنع خيالاً... وكم هو سحر ماكر يخرج من بابٍ مجهول.