سوريا... بين الصراع على الأرض والمساومات وراء الكواليس

مخاوف تركية من تحفيز التطورات مسار إنشاء "هيكل كردي"

أ ف ب
أ ف ب
مقاتلون مناهضون للحكومة السورية فوق طائرة تابعة للجيش السوري بعد أن سيطروا على قاعدة جوية عسكرية بالقرب من مدينة حماة في وسط البلاد، 6 ديسمبر

سوريا... بين الصراع على الأرض والمساومات وراء الكواليس

يواجه الرئيس السوري بشار الأسد أصعب أيامه منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، فعلى جبهة المعارك، تمكنت القوات المناهضة للأسد بقيادة "هيئة تحرير الشام" من السيطرة على حلب وحماة وتتقدم الآن في ريف حمص في ظل معارك للسيطرة على المدينة، في وقت أكد الجيش السوري انسحابه من درعا والسويداء. وعلى الجبهة الشمالية، سيطر "الجيش الوطني السوري" على تل رفعت، ويُقال إنه يحشد قواته حول منبج بهدف طرد "وحدات حماية الشعب" من هناك أيضا.

تجد الفصائل المسلحة نفسها هذه المرة قوية في الأسلحة والمعدات التي تمتلكها، ولكن أيضا في المعنويات والحافز.

وفي المقابل، فإن إزالة "وحدات حماية الشعب" من المنطقة واستعادة حلب وريفها– وهي منطقة ينحدر منها عدد كبير من اللاجئين السوريين في تركيا– منحتا أنقرة ميزة كبيرة. وهذا يتماشى مع أولويات تركيا الرئيسة في الأزمة السورية: معالجة المخاوف الأمنية المتعلقة بـ"وحدات حماية الشعب" وتسهيل عودة اللاجئين السوريين.

ومع ذلك، أعلنت تركيا منذ البداية أنه لا علاقة لها بهذه العملية، على الرغم من أن الاعتقاد السائد داخليا ودوليا هو أن التحضيرات لهذه العملية وتنفيذها لم يكن ممكنا من دون دور تركي بطريقة أو بأخرى. وفي تصريح حديث لوزير الخارجية هاكان فيدان، أكد المسؤول التركي على علاقات تركيا مع المعارضة السورية عبر السنوات، قائلاً إن تركيا تقاتل مع المعارضة السورية ضد إرهاب "داعش" و"وحدات حماية الشعب"، لكنه أشار إلى أن هذه العملية كانت نتيجة لقرار المعارضة وبمبادرتها الخاصة. وفيما أكد علاقات تركيا مع المعارضة، نفى أي تدخل تركي في العملية.

ولكن المعلوم، على الرغم من هذا وذاك، أن الأزمة السورية تدخل في صلب الاهتمامات التركية، وبالتالي فإن من العبث الاعتقاد أن تركيا غير متورطة فيها وأنها تتابع التطورات عن بعد، فحسب.

وقد ألقى كل من الرئيس أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان المسؤولية في هذه العملية على سياسات الأسد. والحق أن الأسد عندما عاد إلى جامعة الدول العربية والعالم العربي، تصرف كما لو أن جميع المشاكل قد حُلت.

لقد تآكل النظام في سوريا بشكل كبير نتيجة للأزمات الاقتصادية وتداعي البنية التحتية، إلى جانب الفساد المستشري والأنشطة غير القانونية الواسعة النطاق. ويكافح السوريون من أجل البقاء على قيد الحياة بمبلغ لا يتجاوز 10-15 دولارا شهريا، مما يعكس الظروف المعيشية القاسية في البلاد.

الطريق الأكثر جدوى للمضي قدما هو السعي إلى حلّ سياسي مستدام يعتمد على قرار مجلس الأمن 2254، الذي أيده جميع الأطراف بما في ذلك روسيا والأسد، وإن كان تحت الضغط

إن التراجع السريع لقوات النظام لا يعود فقط إلى التحسن الكبير في تنظيم الفصائل المسلحة، بل أيضا إلى الإرهاق وانخفاض معنويات مؤيدي الأسد. وبينما ازدهر تجار الحرب، تعيش غالبية قاعدة الأسد الشعبية في حالة من الفقر. وقد تكبدت الأقلية العلوية– التي تشكل الداعم الأساسي للأسد– خسائر كبيرة، ما قلل من قدرتها على تحمل المزيد. وإذا استمرت هذه المجموعة في القتال، فمن المحتمل أن يكون ذلك بدافع الخوف من الانتقام من قبل "الفصائل الجهادية" داخل المعارضة أكثر من الولاء لحكومة دمشق.
وفي الوقت نفسه، لم يعد يخفى على أحد الانقسامات بين شركاء منصة آستانه– روسيا وإيران وتركيا. ففي مؤتمر صحافي مشترك مع هاكان فيدان في أنقرة الأسبوع الماضي، وصف وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي العملية بأنها هجوم نفذته "مجموعات تكفيرية" يُزعم أنها مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل. واتهم المسؤول الإيراني، الذي كان قد اجتمع مع الأسد في دمشق، تركيا بشكل غير مباشر بالتعاون مع هذين البلدين والمساهمة في تحقيق أهدافهما.

أ ف ب
وزير الخارجية التركي حقان فيدان ووزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي بعد اجتماعهما في أنقرة، 2 ديسمبر

وعلى الرغم من هذه التوترات، من المتوقع أن يجتمع شركاء منصة آستانه الثلاثة على هامش منتدى الدوحة بين اليوم وغدا 8 ديسمبر/كانون الأول، على مستوى وزراء الخارجية، كجزء من مناقشات منصة آستانه.
وجنبا إلى جنب، برزت على السطح جهود دبلوماسية موازية، حيث من المقرر، وفقا لتقارير صحافية، أن يجتمع وزراء خارجية الدول العربية في القاهرة بدعوة من سوريا، بينما عقد اجتماع آخر في بغداد بين إيران وسوريا والعراق.
وعلى الأرض، تتقدم القوات المناهضة للأسد باتجاه حمص، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية لوقوعها عند تقاطع الطريق الرئيس بين دمشق والساحل. كما تظل حمص نقطة توتر طائفي بين السنة والعلويين، حيث إنها ذات غالبية سنية مع وجود نسبة كبيرة من السكان العلويين.
وفي المراحل الأولى من الحرب الأهلية، شهدت المدينة مواجهات عنيفة وجرائم متبادلة. ورغم أنه كان من المتوقع أن تدافع قوات الأسد بقوة عن حمص، تشير التقارير إلى أنها تنسحب لإعادة تنظيم صفوفها وتأسيس خط دفاع رئيس حول دمشق.
وصرح الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد صلاة الجمعة في 6 ديسمبر في إسطنبول، قائلاً: "إدلب، حماة، حمص، وبالطبع دمشق هي الأهداف. نأمل أن تستمر مسيرة المعارضة دون أي عقبات."
وفي المقابل، يُرجح أن تكثف روسيا استخدام قواتها الجوية لوقف تقدم الفصائل نحو دمشق. ولكن في حال تفاقمت الانقسامات الداخلية داخل حكومة دمشق، وتفكك الجيش، وتمكنت الفصائل من إشعال انتفاضة شعبية في دمشق، فقد تتغير الديناميكيات بشكل كبير.
ويبقى الطريق الأكثر جدوى للمضي قدما هو السعي إلى حلّ سياسي مستدام يعتمد على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2254، الذي أيده جميع الأطراف في ذلك الوقت، بما في ذلك روسيا والأسد، وإن كان تحت الضغط.
أما أسوأ السيناريوهات فهو أن تنتشر الحرب الأهلية مرة أخرى في جميع أنحاء البلاد، وتستخدم حكومة دمشق الأسلحة الكيماوية مرة أخرى، ويحدث تدفق جديد للاجئين، وتنقسم البلاد.

في عام 2015، أنقذت روسيا الأسد، لكن احتمالية أن يتمكن الأسد من جديد من دحر الفصائل المسلحة وإنقاذ الموقف الآن تكاد تكون معدومة

لقد وضعت عملية "ردع العدوان"، "هيئة تحرير الشام" في الواجهة، وهي مدرجة على قائمة الأمم المتحدة للمنظمات الإرهابية منذ عام 2018، وتم تصنيفها كذلك من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والكثير من الدول والمنظمات الأخرى.
وفي الأشهر الأخيرة، كثرت النقاشات حول فرضية أن "هيئة تحرير الشام" قطعت جميع روابطها مع الماضي، بما في ذلك ارتباطها بتنظيم "القاعدة"، وتحولت إلى منظمة إسلامية معتدلة. وتتردد شائعات بأن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى كانت على اتصال بـ"هيئة تحرير الشام" لبعض الوقت، ومصادر هذه الشائعات موثوقة. وتوّج ذلك بمقابلة أجرتها قناة "CNN" الأميركية الخميس مقابلة مع أبو محمد الجولاني، زعيم "هيئة تحرير الشام"، الذي كانت الحكومة الأميركية قد وضعت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
وفي هذه المقابلة، قدم الجولاني مرة أخرى رسائل معتدلة ومصقولة، مشيرا إلى أنهم يعتزمون إنشاء حكومة في سوريا تعتمد على المؤسسات ومجلس منتخب شعبيا.

أ ف ب
زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني في ريف إدلب، 7 شباط 2023

ويبقى التخوف من احتمال ظهور ترتيب شبيه بنموذج طالبان في سوريا، مشابها لما حدث في أفغانستان. فمن الجلي أن "هيئة تحرير الشام" تسعى لتأمين دور لها في حكم سوريا المستقبلي، بل لعلها تطمح لتولي قيادة الإدارة. قد تحل نفسها أو تعيد تنظيمها تحت اسم جديد، تماما كما فعلت "وحدات حماية الشعب" بناء على نصيحة من الولايات المتحدة.
وبالنسبة لروسيا وإيران، وكذلك اللاعبون الإقليميون الآخرون مثل الإمارات، يُنظر إلى تراجع النفوذ الإيراني في سوريا على أنه تطور إيجابي. ومع ذلك، فإن ازدياد قوة "هيئة تحرير الشام" والمنظمات ذات الأيديولوجيا المشابهة يشكل مصدر قلق لهم.
أما إسرائيل، فتُرحب بضعف النفوذ الإيراني في سوريا ويسرها أن الفصائل السورية غير مهتمة بسياسات إسرائيل وصراعاتها. بيد أن التصرفات الحالية لهذه الجماعات لا تقدم أي ضمانات بشأن سلوكها المستقبلي.

ماذا نتوقع الآن؟

في عام 2015، أنقذت روسيا الأسد، لكن احتمالية أن يتمكن الأسد من جديد من دحر الفصائل وإنقاذ الموقف الآن تكاد تكون معدومة. وإذا تحقق هذا الاحتمال الضئيل بطريقة ما، فستكون هناك الكثير من العواقب السلبية على تركيا، ليس أقلها مواجهة تدفق جديد للاجئين السوريين يعادل العدد الحالي الموجود على أراضيها.
أما السيناريو الأفضل فهو أن تخلق هذه العملية فرصة للأطراف المتنازعة للجلوس إلى طاولة المفاوضات. وربما تكون العملية العسكرية قد مهدت الطريق لذلك.

يعتمد ما سيحدث في سوريا على عوامل شتى، بينها ما إذا كانت الأطراف المتصارعة على الأرض ستتصرف بعقلانية

ومع ذلك، بغض النظر عن كيفية تطور الأحداث في سوريا، سيكون هناك، على الحدود الجنوبية لتركيا، الكثير من الهياكل المسلحة ("وحدات حماية الشعب"، "هيئة تحرير الشام"، "الجيش الوطني السوري")، والتي يُقدر عدد مقاتليها بحوالي 200 ألف أو أكثر، وينبغي أن نضيف مقاتلي "داعش" إلى هذا العدد. 
"وحدات حماية الشعب" هي امتداد لمنظمة "حزب العمال الكردستاني"، ولكن الغرب يعتبرها شريكا وحليفا في محاربة "داعش"، على الرغم من تمسكها بأجندتها الخاصة. وليس من المستغرب أن تكون "وحدات حماية الشعب" قلقة بشأن الخطوات التي قد تتخذها تركيا وتشعر بالقلق وعدم اليقين من مدى وثوقها بالولايات المتحدة، خاصة في ظل إدارة دونالد ترمب.
ويتضح، إلى ذلك، أن هناك نوعا من الاتصال والتعاون بين وحدات "حماية الشعب" وحكومة الأسد، وهو أمر اعتدنا رؤيته منذ بداية الأزمة. وغالبا ما تترك قوات الأسد المواقع التي تتخلى عنها لـ"وحدات حماية الشعب".
وعلى الرغم من أن تركيا تقول إنها مستعدة لمواجهة تهديد من "وحدات حماية الشعب" وغيرها من المنظمات، فإن بعض السياسيين والمحللين الأتراك قلقون من أن تؤدي، التطورات التي تُعتبر حاليا مكاسب، إلى تحفيز وتسريع مسار يفضي لإنشاء "هيكل كردي" في المنطقة على المدى المتوسط والطويل.
وليست هذه المخاوف بلا مبرر، ولا سيما مع احتمال وجود حوار مع عبد الله أوجلان على الأجندة في ظل البيئة السياسية الحالية والاضطرابات.
وأخيرا، يعتمد ما سيحدث في سوريا على عوامل شتى، بينها ما إذا كانت الأطراف المتصارعة على الأرض ستتصرف بعقلانية. ولعل واحدة من أكثر العوامل الحاسمة ستكون المفاوضات والمساومات التي تجري وراء الكواليس، والتي ربما لم نشهدها علانية، ولكن لا ينبغي الشك في أنها تحدث وراء الأبواب.

font change

مقالات ذات صلة