الفرنسية لور غوتييه تبدّد ظلمة المستقبل بعصا جنيةhttps://www.majalla.com/node/323377/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%88%D8%B1-%D8%BA%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%8A%D9%87-%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D9%91%D8%AF-%D8%B8%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A8%D8%B9%D8%B5%D8%A7-%D8%AC%D9%86%D9%8A%D8%A9
حين يكتب شاعر رواية، لا يسعه أحيانا، لحسن الحظ، الخروج من الحالة الشعرية التي تلفّه تلقائيا ما أن يجلس للكتابة، فيضفي على نثر روايته، من دون قصد، نفسا وإيقاعا ونبرة، نادرا ما تتوافر في أعمال الروائيين الذين لا يكتبون الشعر. ينطبق هذا الأمر على الفرنسية لور غوتييه التي، بعد وضعها ست مجموعات شعرية فرضت فيها صوتها الخاص، خطّت رواية بعنوان "ميلوزين مستعادة"، صدرت حديثا عن دار " كورتي" العريقة، وعلى الرغم من عدد صفحاتها القليل (مائة صفحة)، حصدت "جائزة الرواية الأولى" في باريس، وهو تتويج يعود إلى جملة أسباب، أبرزها طبيعة هذا النصّ المكثّف الذي يُقرأ مثل قصيدة نثر طويلة، صاعقة.
"مبلبِلة ومغناطيسية"، كتب أحد النقاد في معرض وصفه هذه الرواية الفريدة التي تلامس، بخطابٍ تارة مرح، وطورا قلِق، أنواعا أدبية عدة، وتؤدّي دور البطولة فيها شخصية أسطورية قديمة ومتعدّدة في تجسّداتها ورمزيتها، ميلوزين. جنّية تمنحها غوتييه وجها جديدا، فتتجلّى لنا سياسية، نسوية، مدافعة عن البيئة، وخصوصا مصمّمة على عدم البقاء مجرّد عابرة صامتة.
عالم مصطنع
أحداث الرواية تدور في عالمنا، لكن في مستقبل قريب. عالم مقلِق، مصطنع، تخضع كل حركة فيه للمراقبة، وتظهر ميلوزين داخله بصفة مجهولة أولا، في مدينة معقّمة تخفي الصور الملتقطة في أرجائها، في كل مناسبة، واقعا جافا، مشاعر ملجومة وطبيعة في حالة احتضار. عالم يموت من تعقيده الزائف، من تلوّثه بنفايات حقيقية وافتراضية، وتتراوح جغرافيته بين أحياء هامشية، بائسة على كل المستويات، ومناطق مركزية مخصصة للسياح، وغابات لم يعد يسكنها سوى القراد وقواقع عملاقة وحفنة عصافير صغيرة على وشك الانقراض. ونظرا إلى طبيعة النظام الذي يتحكّم بمصير هذا العالم ــــ طبيعة "أورويلية" إلى حد ما ــــ يتكلم سكانه لغة هزيلة تطغى عليها ألفاظ مختصرة بحروفها الأولى، بينما تسهر لجان رسمية لا تحصى على صون ظاهره بغية جذب السيّاح. من هنا عودة ميلوزين بجلد مناضلة رؤيوية لا تلبث أن تقترح ممارسات جديدة، حلولا بديلة، ضفافا أخرى صالحة للسكن والحياة.
عالم يموت من تعقيده الزائف، من تلوّثه بنفايات حقيقية وافتراضية، وتتراوح جغرافيته بين أحياء هامشية ومناطق مركزية مخصصة للسياح
المدينة التي تظهر فيها هذه الجنية في مطلع الرواية تستحضر باريس في العديد من خصائصها. مدينة لم يعد أبناؤها يعرفون معنى السعادة، وباتت مكتباتها تدين في ديمومتها للدعم الرسمي، الذي غايته ليست تشجيع القراءة، التي لم يعد أحد يمارسها، بل عدم حرمان السيّاح، المولعين بالتقاط صور ذاتية، من التصوّر أمام واجهات هذه المكتبات، ومن إمكان شراء بعض الكتب القليلة المختارة بعناية، لا سيما رواية "نادجا" لذلك "الشاعر الذي لم يكن بريتونيا إلا بالاسم فقط" (أندره بروتون). مدينة يتقاضى فيها عشرة شعراء مكافأة لابتكار "محتوى يخرج عن المألوف"، بينما يعيش الشعراء الآخرون في الضواحي الفقيرة على أمل اختيارهم يوما لأداء هذه المهمة، حين لا يدفعهم اليأس إلى الانتحار. وخارج مساحة هذه المدينة، التي يسيطر النظام على كل شاردة وواردة فيها، تنتشر مناطق مخفية عن الأنظار لأنها لا تستحق أن تُرى، ويمكن أحيانا أن تكون خطيرة. مناطق انحطاط لا تلبث أن تخرج من كبوتها بفضل همّة ميلوزين وعشيقها ريموندان، اللذين تعيد غوتييه كتابة قصة حبّهما الأسطورية في ضوء الواقع المقارَب.
قد لا يروق لبعض القراء رفع الشاعرة صرح روايتها على كتفيّ شخصية واحدة فقط، ميلوزين. لكن لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك في العالم الذي تصوّره. عالم توارى الكلام فيه، ولم يعد سكانه الغارقون في كآبة صمتهم يعيشون إلا من خلال الصور البكماء التي يلتقطونها لأنفسهم وما يحيط بهم. ولذلك، بعد تأملها في هذا العالم المحتضر، تعتزم هذه الجنية، التي تتحول إلى ثعبان كل يوم سبت، وفقا للأسطورة، وهي علامة على التصاقها الحميم بالأرض، التحرّك بغية تصحيح مسار البشرية. وتنجح في ذلك بفضل زواجها من ريموندان الأريستوقراطي والنافذ سياسيا.
إبطاء الحياة
أول قرار تتخذه ميلوزين هو إبطاء الإيقاع المحموم والقاتل للحياة في هذا العالم. كيف؟ بإضافتها يوم إجازة آخر في الأسبوع، غير يوم الأحد، كي ينعم الناس بقليل من الوقت للتفرّغ لذواتهم وإعادة اكتشاف ملذاتهم، "حتى لو أن ذلك يعني الترحيب بالفوضى العابرة، فهذه الأخيرة، في الطبيعة كما في الثقافة، هي جروح حيّة، فِتَن أفضل من السهول الرتيبة الكئيبة". ولا عجب في هذا القرار وسائر القرارات الحكيمة الأخرى التي ستتبعه، فميلوزين شخصية واقية وبنّاءة، وفقا لأسطورتها، شرط احترام سرّ طبيعتها البشرية ـــ الثعبانية. شخصية حساسة لكل المصائب التي تحيط بها: "من بعيد، تسمعين الصرخة المكتومة للمزارع الذي يبكي أمام بستانه الذي أتلفته آلاف القواقع العملاقة"؛ حساسة تجاه كل الكائنات، وحتى الجماد: "كيف يمكنكِ التحرر من الضوضاء المنظَّمة لسماع الصوت البسيط للعالم على جلدك؟ (...) كيف يمكن تحسس ألم الجميع في نشيد كل فرد، من دون نسيان ألم الحجر وثعلب الماء؟".
إنه فضاء يمكن التعرّف إليه، وأيضا فضاء يعبّر عن الطبيعة الديستوبية لهذه السردية، فيعكس شكلا من أشكال السلطة والمجتمع
وهذا ما يفسر اختيار غوتييه لها، علما أنها تمدّها بخصائص أكثر معاصَرة وإنسانية، فتجعلها تختبر الإجهاض، وحتى الموت في النهاية، وبدلا من تشييد القصور والكنائس، تحولها إلى ناشطة تهجس بمعالجة تداعيات إتلافنا بيئتنا الطبيعية، لإنقاذنا: "اسمحي، أيتها الحياة، بهذا الجهد الأخير! بأن أحيا بقليل من القوة وأتمكن من العثور على منابع مفقودة ودروب غير متوقعة". وبذلك، تخرجها من نطاق أسطورتها التي تخضع منذ فترة لاستثمار سياحي رخيص في مدن ومناطق فرنسية عدة.
وهذا يقودنا إلى حقيقة فضاء هذه الرواية، الذي هو في الواقع متعدد، ملتبس عن قصد، كما أصاب أحد النقاد في ملاحظته ذلك: "إنه فضاء يمكن التعرّف إليه، وأيضا فضاء يعبّر عن الطبيعة الديستوبية لهذه السردية، فيعكس شكلا من أشكال السلطة والمجتمع، لا يتوافق مباشرة مع أي جغرافيا معروفة. إنه أيضا فضاء افتراضي، فضاء رحلة ميلوزين، الفضاء الذي لا ينفصل الدرب فيه عن وجودها، والفضاء الذي تفعل فيه وتغيّره. (...) بالتالي، ما يحدده هو تعدديته، بعده السياسي والخرافي، وكون مسيرة ميلوزين هي درب عابرة له بقدر ما هو يعبر بنفسه أنواعا عدة من الفضاءات، معاني عدة للفضاء: فضاء سياسي، فضاء خرافة علمية، فضاء حكاية جنّ...".
أسطورة الجنية الهجينة
باختصار، "ميلوزين مستعادة" هي، في الوقت نفسه، قصة نسوية، ديستوبيا بيئية وحكاية مستقبلية، تعيد غوتييه فيها ابتكار أسطورة الجنية الهجينة بهدف كشف صورة عالمنا داخل مرآة مكبّرة ومشوِّهة، ومن خلال ذلك، تعرية واقعنا الراهن، السياسي والاقتصادي والصناعي والبيئي والثقافي وحتى السيكولوجي. لكن قيمتها لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضا في الربط الحاذق والمبتكر فيها بين الخرافة العلمية وحكاية من القرون الوسطى، بغية شقّ طريق خلاص ممكن للبشرية. ربط يتجلى منذ عنوانها (Mélusine reloaded) الذي يستحضر بلا مواربة عنوان الجزء الثاني من فيلم "ماتريكس" الذي يصوّر عالما مزوّرا يعيش البشر فيه داخل مصفوفة (matrix) لا يراها معظمهم، وتبقيهم على قيد الحياة فقط لاستخدامهم كمصدر طاقة.
لكتابة هذه الرواية، تشحذ غوتييه لغة شعرية مكثّفة، لكن شديدة الحيوية، يحملنا إيقاعها الموسيقي حتى نهاية نصها من دون أن نشعر بكلل أو ملل. لغة تتراوح بين وصف بارد ودقيق لما تشاهده ميلوزين من وقائع وإجراءات قبيحة وفظة توقّع الحياة اليومية لقاطني هذا العالم المستقبلي، الوشيك، وسرد غنائي يلتهب بالإشراقات والتأملات الباهرة في موضوعات كثيرة، عامة أو ساخنة. وإذ لا مجال هنا للخوض فيها، نكتفي بذكر بعض ما تقوله الشاعرة في الحب على لسان ميلوزين: "الحب المشترك لا يلهم أحدا. يكون ببساطة. يمتد لفترة ويترك بصمة، صلبة مثل رذاذ. حين يرحل، نجد أبواغه على نسيج الذكرى". وأيضا: "أن نحب هو أحيانا أن نلتصق بجلد العالم". وأيضا: "الحب يحفر اللغة حتى الصمت الذي هو مرادف متغيّر للحوار. (...) كل الأفعال المكتومة تصرخ في عروق العاشقَين. حين يتحابان، تتحرك الأفعال مثل الدراويش داخلهما، فيكون للصمت جسد، جسد دوّار، وللعالم قوام".
تشحذ غوتييه لغة شعرية مكثّفة، لكن شديدة الحيوية، يحملنا إيقاعها الموسيقي حتى نهاية نصها من دون أن نشعر بكلل أو ملل
ولأن نثر هذه الرواية مشدود نحو الشعر، فإن لغته تبتعد كل البعد عن اللغة المبتذلة ولغة التمثيل، وتشكّل في طبيعتها خير نقيض للغة السلطة الشمولية، التي "تنتقدها غوتييه بشدة وتهزأ منها بسبب بساطتها التي تمنع التعبير المعقّد عن العالم، الوعي المعقّد للعالم، وتختزله في مجموعة من العناصر والأطر والمسميات، فلا يعود ثمة حاجة إلى معرفة كيفية الكلام، إذ تكفي التعتعة، ولا يعود هنالك حاجة للتفكير، إذ يكفي استخدام تلك الرموز المختزلة، الجاهزة سلفا"، كما كتب ناقد آخر. ولهذا السبب، تتطلّب مطالعة هذا النص جهدا، للعثور على المسافة الصحيحة منه، أو بالأحرى على إيقاع القراءة الذي يسمح بالتقاط كل ما تقوله ميلوزين لنا فيه، وبعدم تفويت أي واحدة من اللقيات الشعرية المنيرة التي تضعها غوتييه على لسانها.
وسواء بما تقوله أو بما تفعله، تتمكن ميلوزين من إثارة انفعالات وأفكار جمّة ومتضاربة داخلنا، نظرا إلى تناقضات شخصيتها الأسطورية، ومقاومتها أي تعريف مبسّط لها. وباستثمارها الحاذق هذه التناقضات في روايتها، وعبر التصاقها بجلد العالم، مثل بطلتها، تنجح غوتييه في إسقاط نور داخل عتمة مستقبلنا. وبشحن نصّ هذه الرواية بحيوية ميلوزين وقدرتها على التحول، تنجح أيضا في طرح شروط لغزها، لا بهدف حلّه، بل لجعله يطفر ويغيّر جلده تحت أنظارنا، مثل ثعبان، ولتصوير هذه الجنية الساحرة على صورتنا، "هشّة، لكن بتلك الهشاشة التي هي أيضا قدرة. قدرة على التأثر، والشعور، والتشبث بالحياة".