حين يكتب شاعر رواية، لا يسعه أحيانا، لحسن الحظ، الخروج من الحالة الشعرية التي تلفّه تلقائيا ما أن يجلس للكتابة، فيضفي على نثر روايته، من دون قصد، نفسا وإيقاعا ونبرة، نادرا ما تتوافر في أعمال الروائيين الذين لا يكتبون الشعر. ينطبق هذا الأمر على الفرنسية لور غوتييه التي، بعد وضعها ست مجموعات شعرية فرضت فيها صوتها الخاص، خطّت رواية بعنوان "ميلوزين مستعادة"، صدرت حديثا عن دار " كورتي" العريقة، وعلى الرغم من عدد صفحاتها القليل (مائة صفحة)، حصدت "جائزة الرواية الأولى" في باريس، وهو تتويج يعود إلى جملة أسباب، أبرزها طبيعة هذا النصّ المكثّف الذي يُقرأ مثل قصيدة نثر طويلة، صاعقة.
"مبلبِلة ومغناطيسية"، كتب أحد النقاد في معرض وصفه هذه الرواية الفريدة التي تلامس، بخطابٍ تارة مرح، وطورا قلِق، أنواعا أدبية عدة، وتؤدّي دور البطولة فيها شخصية أسطورية قديمة ومتعدّدة في تجسّداتها ورمزيتها، ميلوزين. جنّية تمنحها غوتييه وجها جديدا، فتتجلّى لنا سياسية، نسوية، مدافعة عن البيئة، وخصوصا مصمّمة على عدم البقاء مجرّد عابرة صامتة.
عالم مصطنع
أحداث الرواية تدور في عالمنا، لكن في مستقبل قريب. عالم مقلِق، مصطنع، تخضع كل حركة فيه للمراقبة، وتظهر ميلوزين داخله بصفة مجهولة أولا، في مدينة معقّمة تخفي الصور الملتقطة في أرجائها، في كل مناسبة، واقعا جافا، مشاعر ملجومة وطبيعة في حالة احتضار. عالم يموت من تعقيده الزائف، من تلوّثه بنفايات حقيقية وافتراضية، وتتراوح جغرافيته بين أحياء هامشية، بائسة على كل المستويات، ومناطق مركزية مخصصة للسياح، وغابات لم يعد يسكنها سوى القراد وقواقع عملاقة وحفنة عصافير صغيرة على وشك الانقراض. ونظرا إلى طبيعة النظام الذي يتحكّم بمصير هذا العالم ــــ طبيعة "أورويلية" إلى حد ما ــــ يتكلم سكانه لغة هزيلة تطغى عليها ألفاظ مختصرة بحروفها الأولى، بينما تسهر لجان رسمية لا تحصى على صون ظاهره بغية جذب السيّاح. من هنا عودة ميلوزين بجلد مناضلة رؤيوية لا تلبث أن تقترح ممارسات جديدة، حلولا بديلة، ضفافا أخرى صالحة للسكن والحياة.