تاريخ حماة السياسي في القرن العشرين... من آل العظم إلى "تحرير الشام"

أكثر ما عرفت حديثا بشلالات الدم في شوارعها عام 1982

أ ف ب
أ ف ب
مقاتلون مناهضون للحكومة يركبون دراجة نارية بجوار معدات ومركبات عسكرية تابعة للجيش السوري تم التخلي عنها على الطريق السريع إلى دمشق، أثناء وصولهم إلى بلدة صوران شمال مدينة حماة، 3 ديسمبر

تاريخ حماة السياسي في القرن العشرين... من آل العظم إلى "تحرير الشام"

عرف العالم الحديث مدينة حماة السورية ليس لأي إنجاز علمي أو ثقافي، ولا لأي مؤتمر دولي، وإنما بسبب شلالات الدم التي سالت في شوارعها سنة 1982، يوم وقوع المواجهات الدامية بين الرئيس السوري حافظ الأسد و"الإخوان المسلمين".

وبعد تدمير جزء كبير من أحياء المدينة، غابت حماة عن التداول الجمعي العالمي، لتعود مع مظاهراتها الضخمة المطالبة بإسقاط النظام سنة 2011 واليوم بعد سقوطها بيد "هيئة تحرير الشام" وإخراج حكم حزب "البعث" منها والمستمر منذ سنة 1963. تطوي حماة صفحة أخرى من صفحات تاريخها الطويل العائد إلى ما قبل الميلاد، ويتوقع كثيرون أن يزورها زعيم "الهيئة" أبو محمد الجولاني، كما زار حلب قبل أيام، وفي الأوساط المؤيدة له يشبهون دخوله حماة "فاتحاً" بدخول أبو عبيدة بن الجراح إليها في عصر الفتح الإسلامي.

حماة وآل العظم

تعاقب على حماة حكام كثر وصولاً إلى العثمانيين الذين احتلوا سوريا سنة 1516 واعتمدوا على عائلة العظم الحموية لحكمها في القرن الثامن عشر. أشهرهم وأقواهم كان أسعد باشا العظم، والي دمشق في السنوات 1743-1757.

من أشهر أبنائها محمد فوزي باشا العظم، الوزير في الدولة العثمانية ورئيس المؤتمر السوري الأول (البرلمان السوري) سنة 1919

أنشئ قصر العظم في مدينة حماة القديمة سنة 1742، وقصر العظم بدمشق سنة 1749، قبل إنشاء خان أسعد باشا سنة 1753. وأصبحت الأسرة العظمية هي الأقوى والأكثر نفوذاً في سوريا من يومها وحتى مجيء حزب "البعث" سنة 1963، يوم صودرت أملاكهم وتم إقصاؤهم عن المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي. ومن أشهر أبنائها كان محمد فوزي باشا العظم، الناظر (الوزير) في الدولة العثمانية ورئيس المؤتمر السوري الأول (البرلمان السوري) سنة 1919. ثم جاء حقي العظم رئيساً للحكومة السورية سنة 1932، تلاه خالد العظم، رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ سوريا الذي شكل خمس حكومات وكان أحد أقطاب السياسة السورية في خمسينات القرن العشرين. وهو آخر رجل من الأسرة يحكم في سوريا قبل بداية الحكم البعثي سنة 1963 وقد عرف بثقله الاقتصادي، أي إن مجرد تسميته رئيساً للوزراء كانت كافية لجلب الاستثمارات، واستقرار سعر الصرف، وارتفاع أسهم الشركات الصناعية في سوق البورصة السورية.

ويكبيديا
الرئيس السوري أديب الشيشكلي والرئيس المصري محمد نجيب عام 1951

الرئيس الشيشكلي

انتفضت حماة ضد الانتداب الفرنسي وحمل أبناؤها السلاح في الثورة السورية الكبرى سنة 1925، وقد ظهر اثنان من أعيانها في قيادة الحركة الوطنية السورية، وهما الدكتور توفيق الشيشكلي والآغا نجيب البرازي. وفي نهاية مرحلة الانتداب، لمع نجم الضابط الحموي الشاب أديب الشيشكلي، الذي انشق عن الفرنسيين وقاد عصياناً مسلحاً في حماة سنة 1945. وانتسب إلى "الحزب السوري القومي الاجتماعي" المنادي بسوريا الكبرى وكان أحد مؤسسي الجيش العربي السوري في 1 أغسطس/آب 1945، ثم بعد سنتين تطوع في جيش الإنقاذ وخاض معارك في فلسطين، قبل أن يدخل أرض المعركة مع الجيش العربي السوري سنة 1948. وشارك في انقلاب سوريا الأول في 29 مارس/آذار 1949 وفي انقلابها الثاني ضد سامي الحناوي في 14 أغسطس من العام نفسه، قبل أن يقود انقلابه الأول– وهو الثالث لعام 1949– في 19 ديسمبر/كانون الأول 1949.

كان أبناء الأسر التقليدية يملكون قرى بأكملها، بما فيها ومن فيها، وفي مرحلة الأربعينات ظهر أكرم الحوراني لمنازعتهم على ملكهم وملك أجدادهم

كان الشيشكلي ثاني رئيس عسكري في سوريا بعد حسني الزعيم، وأول وآخر حموي يصل إلى سدة الرئاسة في دمشق. جاء انقلابه الأول اعتراضاً على مشروع وحدة مع العراق كان زعماء "حزب الشعب" الحلبيون يريدون إقامتها مع بغداد. نصب الشيشكلي نفسه رئيساً لأركان الجيش وفي يوليو/تموز 1953، انتخب رئيساً للجمهورية. عرف عهده القصير بالانفتاح الاقتصادي والعلاقات الجيدة مع العرب، ويعتقد أن انقلابه الناجح وانقلاب حسني الزعيم من قبله كان لهما دور في إلهام الضباط الأحرار في مصر على القيام بانقلابهم سنة 1952. ولكن عهد الشيشكلي لم يستمر طويلاً وسقط عسكرياً وشعبياً في فبراير/شباط 1954. استقال الشيشكلي من منصبه "حقناً للدماء" واغتيل على يد مواطن درزي في البرازيل يوم 27 سبتمبر/أيلول 1964، بعد عشر سنوات من خروجه من الحكم. وقد جاء اغتياله انتقاماً لقصف الشيشكلي لجبل الدروز أثناء فترة حكمه، وقوله الشهير: "احذروا الجبلين" في إشارة إلى جبل الدروز في جنوب سوريا وجبل العلويين في المنطقة الساحلية.

أ ف ب
سوريون يتظاهرون ضد الحكومة بعد صلاة الجمعة في حماة في 29 يوليو 2011

أكرم الحوراني و"البعث"

كان الشيشكلي ابن عائلة إقطاعية معروفة وثرية، تقاسمت أراضي حماة الزراعية الخصبة مع آل البرازي والعظم والبارودي وغيرهم. كان أبناء تلك الأسر التقليدية يملكون قرى بأكملها، بما فيها ومن فيها، وفي مرحلة الأربعينات ظهر أكرم الحوراني لمنازعتهم على ملكهم وملك أجدادهم، هو ابن عائلة ثرية أضاعت ثروتها وجعلته ناقماً على الأغنياء والمالكين القدامى. بعد دراسته الحقوق وانتسابه إلى القوميين السوريين انتخب نائباً عن حماة عام 1943 على قائمة ترأسها أحد الإقطاعيين الكبار. ثم انقلب على هؤلاء الإقطاعيين ودعا إلى مصادرة أرزاقهم ومعاقبتهم تطبيقاً للفكر الاشتراكي الذي كان يؤمن به.  أسس "الحزب الاشتراكي العربي" سنة 1951 وكان مسانداً لانقلاب الشيشكلي الأول والثاني، ولكنه أقصي عن العمل السياسي في عهده وهرب إلى لبنان، حيث تحالف مع قادة حزب "البعث" ودمج حزبه بحزبهم ليصبح اسمه "حزب البعث العربي الاشتراكي".
كان لأكرم الحوراني اليد العليا في إيصال الفكر البعثي إلى الريف السوري، بعد أن كان حزباً لأبناء الطبقة المدنية الوسطى في دمشق منذ تأسيسه سنة 1947. عقد سنة 1950 أول مؤتمر جماهيري للعمال والفلاحين في حلب، رافعاً شعار: "الأرض لمن يعمل بها". وانتخب رئيساً لمجلس النواب بعد سقوط الشيشكلي وكان من أشد المتحمسين للرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي عينه نائباً له في الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958.

شهدت مدينة حماة أول انتفاضة شعبية ضد حزب "البعث" والتمدد العلوي في الجيش السوري في أبريل/نيسان 1964

كان الحوراني صاحب مشروع الإصلاح الزراعي الذي أطلقه عبدالناصر وصادر بموجبه أراضي كل الملاك القدامى في حماة وغيرها من المدن الكبرى، تشفياً وانتقاماً من الإقطاعيين القدامى وفي مقدمتهم آل البرازي والعظم والبارودي الحمويين. وعلى الرغم من انتمائه الحزبي، فإن البعثيين كانوا أول من غدر به بعد وصولهم إلى السلطة في 8 مارس 1963. اعتقل الحوراني ثم أفرج عنه ونفي خارج سوريا حيث توفي سنة 1996. 

حماة و"البعث"

شهدت مدينة حماة أول انتفاضة شعبية ضد حزب "البعث" والتمدد العلوي في الجيش السوري في أبريل/نيسان 1964. وظهر في حماة يومها مروان حديد مؤسس الطليعة المقاتلة لـ"الإخوان المسلمين". نصبت حواجزها في حماة وصارت توقف المارين وتسألهم عن هويتهم ومذهبهم، وعند العثور على علوي أو مسيحي يتم اعتقاله أو تصفيته. قُتل ضابط من الحرس القومي وسحل في شوارع حماة، واعتصم 70 شخصاً من الجماعة في جامع السلطان، مطالبين بإسقاط حكم "البعث". أمر رئيس الدولة أمين الحافظ بقصف الجامع وقتل 40 شخصاً من المعتصمين في داخله. 

أ ف ب
مقاتل من الفصائل السورية يطلق النار في الهواء احتفالا بالسيطرة على مدينة حماة في 6 ديسمبر

هدأت حماة قرابة 12 سنة، مع معاقبتها على تمردها بحجب المشاريع العمرانية والتنموية عنها، وفي سنة 1976 اغتيل أحد رجالات الاستخبارات السورية فيها وقتل الطبيب الحموي عبد الستار عدي، واعتقل في المقابل مروان حديد ومات في السجون في يونيو/حزيران 1976. استمرت اغتيالات "الإخوان المسلمين" وفي سنة 1979 كانت حادثة مدرسة المدفعية الشهيرة في حلب شمالي سوريا، التي قتل على أثرها قرابة 80 طالباً معظمهم من العلويين. وفي 26 يونيو 1980 حاولوا اغتيال حافظ الأسد في دمشق، ورد الأسد في حماة بعد أن دعا "الإخوان" من مساجدها إلى "جهاد مقدس" ضده سنة 1982. قتل عدد كبير من "الإخوان"، ومن أهالي حماة والوافدين إليها، وقد تراوح عدد القتلى ما بين 10-35 ألف شخص، ودمرت أحياء بأكملها. 
غيّر النظام بعدها من تركيبة حماة الديموغرافية، وأدخل إليها أعداداً كبيرة من المسيحيين والعلويين، لكي لا تبقى مدينة سنية بالكامل. كما أزال الكثير من الممرات الضيقة القديمة واستبدل بها شوارع أعرض للسماح للدبابات والمدرعات بالدخول للقضاء على أي تمرد قد يحصل في المستقبل.

font change

مقالات ذات صلة