لماذا ينهار نظام الأسد بهذه السرعة؟

فيما لم يكن أحد يلقي بالا كان النظام السوري ينهار من الداخل

أ ف ب
أ ف ب
ينزل الناس إلى شوارع حماة للترحيب بمقاتلي الفصائل المسلحة بعد أن سيطروا على المدينة الواقعة في وسط غرب سوريا، 5 ديسمبر

لماذا ينهار نظام الأسد بهذه السرعة؟

على مدار الأسبوع الماضي، أصبح مستقبل نظام بشار الأسد موضع تساؤل مباشر. فقد شن تحالف من الفصائل المسلحة هجوما في شمال سوريا، واستولى على نحو 250 مدينة وبلدة وقرية وسيطر على أكثر من ضعفي مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها. ومن بين تلك المدن، كانت حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، وقد سقطت في غضون 24 ساعة، وانهارت خطوط النظام السوري الأمامية الواحدة تلو الأخرى. وسوف تغير هذه التطورات الدراماتيكية قواعد اللعبة، بعد ما يقرب من خمس سنوات من تجميد خطوط السيطرة على الأراضي في جميع أنحاء البلاد.

ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون في ذلك مفاجأة بالكامل. فالأسد لم يعجز فقط عن تحقيق انتصار في حرب بلاده الأهلية، بل إن حكمه كان يضعف منذ بعض الوقت، وبات موقفه أكثر ضعفا من أي وقت مضى.

فعلى مدى سنوات، كان الاعتقاد السائد في سوريا أن الأزمة هناك قد جُمِّدت، وأن الأعمال العدائية باتت من الماضي، وأن نظام الأسد هو المنتصر الحتمي. ونتيجة لذلك، تراجع الاهتمام الدولي، وتوقفت الدبلوماسية الموجهة نحو سوريا تقريبا، وبدأت الحكومات تدريجيا تحول مواردها بعيدا عن السياسات المتعلقة بسوريا نحو تحديات عالمية أخرى. وفي الوقت نفسه، وبينما كانت الأوضاع في سوريا تزداد سوءا، اتخذت الحكومات العربية خطوة لإعادة التواصل الجماعي مع الأسد اعتبارا من عام 2023، ما أدى فعليا إلى تطبيع وضعه في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

أما صناع القرار في الولايات المتحدة، فوجدوا في تولّي الجهات الإقليمية مسؤولية الملف السوري إشارة مشجعة ومصدر ارتياح لهم. وفي الآونة الأخيرة، وبفعل معارضتهم لسياسة الاتحاد الأوروبي الساعية إلى عزل الأسد، واعتقادهم بانتصاره وترسيخ حكمه، انضمت مجموعة من 10 دول أوروبية بقيادة إيطاليا إلى جهود تهدف إلى إعادة التواصل مع نظام الأسد وتقصي سبل دبلوماسية لإعادة اللاجئين إلى سوريا.

كانت جميع هذه التطورات تستند إلى افتراض مفاده أن الأوضاع في سوريا، على الرغم من سوئها، كانت أزمة مجمدة ويمكن احتواؤها، وأن الأسد لم يكن فقط يحافظ على موقعه، بل كان يرسخه أيضا. سوى أن هذا الافتراض كان في غير محله.

مع تدني إرادة العالم وقدرته على تقديم المساعدة، تزداد معاناة الشعب السوري بشدة، وإدراكا من السوريين بأن لا أمل في الأفق، فقد عادوا إلى الشوارع مطالبين بسقوط الأسد

فقد كان الاقتصاد السوري في حالة فوضى منذ سنوات وحين تحقق وقف إطلاق النار الذي اتفقت عليه تركيا وروسيا– أي الداعمين الرئيسين لطرفي النزاع– في أوائل عام 2020، كان الدولار الواحد يساوي نحو 1150 ليرة سورية، ولكنه، مع بدء هجوم المعارضة قبل أسبوع، كان يساوي 14750 ليرة سورية. وفي 4 ديسمبر/كانون الأول، بعد أسبوع من تجدد الأعمال العدائية، انهار إلى 17500.
وبدلا من أن يحقق تجميد القتال الاستقرار في البلاد ويمنح المدنيين السوريين بعض الراحة بعد ما يزيد على عقد من الحرب، تفاقمت الأزمة الإنسانية في سوريا منذ التوصل إلى الاتفاق في عام 2020، حيث أفادت الأمم المتحدة بأن ما لا يقل عن 90 في المئة من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر. وفي حين أن احتضان النظام للجريمة المنظمة يحقق أرباحا لا تقل عن 2.4 مليار دولار سنوياً من بيع نوع واحد فقط من المنشطات الاصطناعية، فإن أيا من تلك الأرباح لم ينعكس إيجابا على حياة الشعب السوري، بل على العكس، خفضت الحكومة دعم الدولة للوقود والغذاء بشكل كبير في السنوات الأخيرة.

رويترز
مقاتلون من الفصائل المسلحة أمام مبنى محافظ حماة، 5 ديسمبر

بيد أن الأسد لم يعد لديه من ينقذه من إفلاس الدولة، فالاقتصاد الروسي تضرر بشدة نتيجة حربه في أوكرانيا، وكذلك حال الاقتصاد الإيراني المتدهور.
لم يكن الأمر ليصل إلى هذا الحد بالضرورة، فلو أن الأسد تفاعل بشكل بناء مع الحكومات الإقليمية التي أعادت تطبيع علاقاتها مع سوريا في عام 2023، ولو استجاب لانفتاح تركيا على التطبيع معه في وقت سابق من هذا العام، لكانت سوريا في وضع مختلف تماما اليوم.
ومع تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد إلى أسوأ حالاتها على الإطلاق، ومع تدني إرادة العالم وقدرته على تقديم المساعدة إلى أسفل درك، تزداد معاناة الشعب السوري بشدة. وإدراكا من السوريين بأن لا أمل في الأفق، فقد عادوا إلى الشوارع مطالبين بسقوط الأسد.
وقبل بضعة أشهر، بدأ مقاتلون سابقون من المعارضة، كانوا قد "تصالحوا" مع الحكومة بموجب اتفاق قبل ست سنوات، في تحدي قوات النظام مرة أخرى، وحققوا بعض الانتصارات.
وفي تلك الأثناء، وسط الانهيار الاقتصادي في سوريا، كان اقتصاد الجريمة المنظمة وإنتاج المخدرات على مستوى صناعي وتهريبها يتغلغل إلى قلب الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد. ولعل نظام الأسد هو الآن، في حقيقة الأمر، أكبر دولة مخدرات في العالم في إنتاج الأمفيتامين المعروف باسم "الكبتاغون".

أظهرت الأحداث الأخيرة أن استثمار روسيا على مدى ثماني سنوات في إعادة بناء الجيش التابع لنظام الأسد كان له تأثير ضئيل في قدرته على القتال بفعالية تحت الضغط

تدار تجارة المخدرات من قبل الفرقة الرابعة النخبوية (التي يقودها ماهر الأسد، شقيق بشار)، ولكن شبكتها امتدت إلى كل زاوية تقريبا من الجيش السوري وشبكات الميليشيات الموالية. ونتيجة لذلك، أدت الجريمة المنظمة وسيطرة أمراء الحرب إلى تقويض ما تبقى من تماسك الدولة الأمنية السورية.
وفي الوقت ذاته، صرفت حرب روسيا في أوكرانيا، إلى جانب التوترات الإقليمية التي دفعت إسرائيل إلى مواجهة إيران وشبكاتها من الوكلاء منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، انتباه روسيا وإيران بعيدا عن محاولة ربط الجهات الأمنية السورية ببعضها. كانت كل من روسيا وإيران، إلى جانب "حزب الله" اللبناني، موجودة على الخطوط الأمامية عندما بدأ هجوم المعارضة في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وقد تكبد الثلاثة خسائر مبكرة.

رويترز
مقاتل من الفصائل المسلحة يطلق النار بعد السيطرة على مدينة حماة في وسط سوريا، 5 ديسمبر

ولكن مع تمركز الجهات الخارجية على الخطوط الأمامية، كانت قدرة داعمي النظام السوري على منع قواته من الانزلاق إلى الفوضى محدودة للغاية. وما كان لأحد أن يفاجَأ بالهجوم بحد ذاته، إذ كانت خطط ميليشيا "هيئة تحرير الشام" معروفة منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول، ولكن تركيا تدخلت في محاولة لوقفها، ما دفع روسيا إلى شن عدة أيام من الغارات الجوية المكثفة ردا على ذلك.
لقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن استثمار روسيا على مدى ثماني سنوات في إعادة بناء الجيش التابع لنظام الأسد كان له تأثير ضئيل في قدرته على القتال بفعالية تحت الضغط. وعلى الرغم من أن الجهود الروسية قد عززت بعض الكفاءات داخل وحدات عسكرية مختارة مثل الفرقة 25 للمهام الخاصة، فإن القوات المسلحة السورية ككل لا تزال مشتتة وضعيفة التنسيق. وأصيبت الآلة العسكرية للنظام، في معظم نواحيها، بحالة من الركود في السنوات الأخيرة، حيث راحت تتآكل من الداخل وتتفتت من الخارج. ويمكن القول إن شبكة غير متماسكة من الميليشيات الموالية توفر قدرة عسكرية تفوق قدرة الجيش نفسه. أما الإضافة النوعية الوحيدة التي قدمتها روسيا للجيش السوري في السنوات الأخيرة فكانت استخدام الطائرات المسيرة الانتحارية التي تعطي بثا مباشرا، ومع ذلك، فقد تفوقت عليها بشكل كبير وحدة الطائرات المسيرة التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" (كتائب الشاهين)، التي كشفت مؤخرا عن استخدامها مئات الأجهزة ضد مواقع النظام على الخطوط الأمامية والدبابات وقطع المدفعية والقادة العسكريين البارزين خلال الأسبوع الماضي.

استشرافا للمستقبل، يواجه نظام الأسد معركة شاقة تهدد وجوده نفسه، مع استمرار الهجوم الذي تقوده "هيئة تحرير الشام" بالتقدم جنوبا

ويسلط ذلك الضوء على التباين الكبير على الجانب الآخر من الجبهة، حيث عملت "هيئة تحرير الشام" وجماعات المعارضة المسلحة الأخرى بشكل مكثف منذ عام 2020 لتعزيز قدراتها. وعلى وجه الخصوص، أنشأت "هيئة تحرير الشام" وحدات جديدة بالكامل استطاعت أن تغير مسار المعارك بشكل لافت في الأيام الأخيرة. وكانت وحدة النخبة الخاصة التابعة لها، والمعروفة باسم "العصائب الحمراء"، رأس الحربة في العمليات النهارية، بينما حققت "سرايا الحراري" مكاسب ملحوظة في القتال الليلي طوال أسبوع، حيث يحمل مقاتلوها البالغ عددهم نحو 500 مقاتل أسلحة مزودة بمناظير للرؤية الليلية، وفقا للمجموعة.
وفي حين تمكنت "كتائب الشاهين" من القضاء على أسلحة النظام الثقيلة على طول الخطوط الأمامية. واستخدمت "الهيئة" أيضا صواريخ كروز محلية الصنع، تعادل قوتها التدميرية قوة شاحنة انتحارية متفجرة. ومع أساطيل الطائرات المسيرة الاستطلاعية التي تعمل على مدار الساعة، تفوقت "هيئة تحرير الشام" وحلفاؤها بشكل كامل على الجيش السوري.
واستشرافا للمستقبل، يواجه نظام الأسد معركة شاقة تهدد وجوده نفسه، مع استمرار الهجوم الذي تقوده "هيئة تحرير الشام" بالتقدم جنوبا على محورين على الأقل في محافظة حماة الوسطى. كما أن الافتقار الحاد للنظام للشعبية في جميع أنحاء سوريا والتقدم الكبير للمعارضة ألهم الفصائل المسلحة في جميع أرجاء البلاد للتعبئة والتحرك. ففي درعا جنوبا، وحمص في الوسط، ودير الزور شرقا، تتعرض بلدات النظام وخطوطه الأمامية للتحدي.
وفي آخر مرة واجه فيها الأسد تحديات متزامنة لسيطرته الإقليمية– في عام 2015– كان نظامه على وشك الانهيار، واضطرت روسيا للتدخل عسكريا لإنقاذه. أما اليوم، فليس ثمّة منقذ مماثل.

font change

مقالات ذات صلة