تعد شبه الجزيرة العربية التي تمثل المملكة العربية السعودية الجزء الأكبر منها اليوم، واحدة من أبرز المناطق ذات الثراء التاريخي والمعرفي، والإنساني، لما تمتعت به على مر القرون من موقع استراتيجي وموروث ثقافي، إضافة إلى كونها مهداً لآخر الرسالات السماوية، وموطناً للغة البشرية الإعجازية الوحيدة التي تحداها كتاب سماوي.
لهذا وبفضل موروثها الثقافي الذي تزخر به في عصرها الحاضر، يمكنها أن تكون مرجعًا معرفيًا وفكريًا ومصدرًا للإلهام المعبّر عن العربي الأصيل والحديث، يكفي أنها شهدت نشأة اللغة العربية وتنوع علومها المتطورة، واحتضانها لأول تعبير فني مكتمل الإبداع في عاطفته وتأثيره.. هو الشعر الجاهلي.
كما تجسد جزيرة العرب رمزًا أصيلًا للحضارات والتقاليد والأعراف الاجتماعية العريقة. ففي العصر الجاهلي كان الشعر يعبّر عن قيم الأخلاق، والفخر، والبطولات، والشجاعة، ويصفها في أبدع الصور والأخيلة كأعظم لوحات تعبيرية أبرزها "المعلقات" التي تعد من عيون الأدب العربي، والتي من عظمتها بقيت عالقة في الأذهان والعقول إلى يومنا هذا، مما يدل على المكانة البالغة التي كانوا يولونها لأدبهم وشعرهم وتوريثه من جيل لآخر، معتمدين على الرواية الشفهية المؤكدة لقدرة الحفظ والعبقرية لديهم.
ومع ظهور الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، استمرت أهم مناطق شبه الجزيرة العربية "مكة" في مركزيتها الروحية. وزاد من روحانيتها نزول الوحي فيها على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لتغدو بعد ذلك موطنًا للتوحيد الذي غيّر مسار التاريخ البشري وتطوره.
ولم يكن الإسلام يومذاك، مجرد دين جديد خُصت به "مكة" وحدها، بمقدار ما كان تحولًا ثقافياً واجتماعياً شمولياً أعاد لها هيبتها ومركزيتها، كما حوّل قرية عادية اسمها "يثرب" بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليها لعاصمة دينية فسياسية، أطلق عليها "المدينة المنورة" وانطلقت منها الفتوحات، وصارت مركزاً قيادياً لم يخل من الجوانب المعرفية والفنية، لتستمر هاتان المدينتان المزدهرتان منذ ظهور الإسلام، ثم انتشاره منهما لقرون عديدة، نقطتي جذب للرحالة والمستشرقين، ومركزين للبحث والتنقيب عن موروثهما وتاريخهما الغني.
إن الرمزية المرتبطة بالجزيرة العربية في عصرنا الحاضر، تعد مصدراً مهماً للتسويق الثقافي، يمكّن السعودية بوزاراتها وهيئاتها وجامعاتها ومؤسساتها الربحية وغير الربحية، الاستفادة من تاريخها العريق وثقافتها الغنية، عبر التوسع في تطوير مشاريع سياحية مبنية على ثقل هذه الرمزية الثقافية، كتوسيع رقعة المواقع ذات المرجعية التاريخية، لإقامة مهرجانات دولية دائمة، واختيار مقراتها الرئيسة، ما يساهم في إحياء ذاكرتها، وتوسيع ربطها بالعالم وثقافته المتنوعة مثل ما فعل "طريق البخور" قديماً.
إضافة إلى توسيع نطاق التوثيق الدولي للموروثات غير المادية كالفولكلور الشعبي، والأساطير، والعادات، والموسيقى، والحرف اليدوية القديمة، التي تم اكتشافها خلال العقود الماضية، إلى جانب المحلية الحديثة التي لا بد وأنها مرتبطة مكانياً بالأصل، الذي نشأ قبل قرون، ولا يزال محافظا عليه كما هو، باعتباره لم يخضع للاستعمار منذ طليعة التاريخ، مما يسهم في تسويق المملكة العربية السعودية كمحور ثقافي دولي له ثقله ومرجعيته.
نظرا للقيمة التاريخية التي تقدمها الحِرف اليدوية، باعتبارها أول الفنون، وحفاظًا على هذه الصناعة الأزلية الإبداعية والموثقة لأسلوب حياة الأمم السابقة اختارت السعودية تسمية عام 2025 عاماً للحرف اليدوية
كما أن مضاعفة التعاون المستمر مع المنظمات والمراكز العالمية المهتمة، سيسهم بشكل متسارع في ترسيخ صورة التراث المكاني، الذي يحتفظ بالعديد من النقوشات والرسومات، والمنسوجات ذات التعبير الثقافي، ما يسرّع تقديمه بشكل ابتكاري وجذاب، في عددٍ من المحافل المحلية والعالمية، يشهد على ذلك مؤتمر الفن الإسلامي الذي أقامه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) والذي اختار له شعارًا غاية في الوفاء والاحتفاء بدور الحرفيين بشتى أنحاء العالم، عرض خلاله الكثير من الحِرف اليدوية الإسلامية القديمة والمعاصرة.
وللقيمة التاريخية التي تقدمها الحِرف اليدوية، باعتبارها أول الفنون، وحفاظًا على هذه الصناعة الأزلية الإبداعية والموثقة لأسلوب حياة الأمم السابقة اختارت السعودية تسمية عام 2025 عاماً للحرف اليدوية لتأكيد الإبداع المجتمعي، الذي ورثه سكّان هذه المنطقة الثرية، ودعماً للتراث المحلي ولمضاعفة مكانته.
ولأجل هذا الموروث العربي الزاخر، ليس بالسعودية وحدها بل بجميع الدول العربية والإسلامية الحاضنة للإرث المعرفي بشتى المجالات، يتوجب إعادة تعريفه وتصديره للعالم من خلال ترجمته، وإعادة نشره بمختلف الوسائل الإعلامية الدولية، التي يمكنها الإسهام في جذب المهتمين والباحثين عن هذه العوالم، التي حافظت على جوهرها، وبقيت صامدة أمام الصراعات والتغيرات والحروب المحيطة بها.