فنانون تشكيليون لبنانيون يواجهون مآسي الحرب بالجمال

البحث عن واقع مضادّ وسط الخراب

 Axel Rangel Garcia - Al Majalla
Axel Rangel Garcia - Al Majalla
رسامون لبنانيون يوثقون لحظة الحرب.

فنانون تشكيليون لبنانيون يواجهون مآسي الحرب بالجمال

يصطدم الفنانون خلال فترات الحروب والأزمات بأسئلة الجدوى والمعنى، إضافة إلى إشكالية التعامل مع مشاعرهم الخاصة وإدارتها في عالم مضطرب يعادي في ما يبثه من مشهديات وقيم ومنطق، حساسياتهم التي تلاحق الجمال وترصده.

يتعامل التشكيليون اللبنانيون مع مواضيع أعمالهم بوصفها انعكاسا لسيرتهم الخاصة، ويعبرون من خلالها عن مشاعرهم ومواقفهم. ومع ذلك، لا يمكنهم الانعزال الكامل عن الواقع أو فصل دواخلهم عما يحدث من حولهم، بل يلتقطون أصداء ما يجري وينقلونها إلى أعماقهم، ليعيدوا إنتاجها وفق قراءاتهم وتفسيراتهم الخاصة.

يجيب فنانون التقتهم "المجلة" عن أسئلة الفن والمشاعر وسط عالم الخراب الذي يعصف بلبنان خلال الحرب الأخيرة وبعدها. يرصدون العلاقات المعقدة بين الشخصي والعام وكيف يشتغل الفن كوسيلة قراءة للحدث وآثاره التي قد تدفع البعض إلى اليأس بينما قد يرى فيها آخر فرصة للدفاع عن الأمل والحب. كتلة المواقف والخيارات والمشاعر ترصدها المقابلات الموجزة التي تلتقط كيفية تلقي تشكيليين لبنانيين من مدارس متباينة وأهواء شخصية وفنية مختلفة، الحرب وأهوالها.

بيتينا خوري: ملاحقة التفاصيل الصغيرة

تتبنى الفنانة بيتينا خوري بدر أسلوبا فنيا يميل إلى تجريدية مركبة مبنية على مشاهد واقعية. تجد نفسها أسيرة حالة نفسية تدفعها أكثر من أي زمن مضى إلى الغوص أكثر فأكثر في عوالم الطبيعة وعناصرها بعيدا من بشاعة الحاضر.

من الضروري العودة إلى التفاصيل الطبيعية الآسرة التي أهملها الإنسان المعاصر وصار جزءا من ماكينة الدمار والقتل 

بيتينا خوري

تشير  خوري إلى أنها، منذ انتشار وباء كوفيد19مرورا بالأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان حتى اليوم وانفجار المرفأ في 4 أغسطس/آب 2020 وصولا إلى الحرب الأخيرة، تعيش "في إطار ذهني معتم. فالمستقبل لا يبدو مشرقا  في بلد يبدو أنه يسير وحده دون وجهة محددة ودون رعاية. هذه الرؤية الضبابية للمستقبل جعلتني أكتشف أهمية العيش في اللحظة وتثمين جماليات الحاضر".

تتعاطى مع لحظة الحرب بوصفها مسارا فعّل الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة والعابرة التي تزخر بها الطبيعة وقدرتها على بناء عالم بديل وآمن.

AFP
نازح عائد يقرأ القرآن في منزله في حارة حريك.

تروي تجربتها: "صرت أجمع التفاصيل البصرية الجميلة وأقتنصها من صلب الواقع، وأحولها إلى نص بصري يميل إلى السردية. من بين تلك الأعمال المنجزة، أذكر مجموعة تتناول مراحل شروق الشمس، وأخرى تتابع حركة القمر من لحظة ظهوره حتى اختفائه. إنه العالم الذي أجد فيه واحتي الخاصة بعيدا من قلق الحاضر والمستقبل. إضافة إلى ذلك جعلتني الحرب الأخيرة واثقة بأن كل شيء إلى زوال حتى القوة المطلقة، وبأن من الضروري العودة إلى التنبّه إلى التفاصيل والظواهر الطبيعية الآسرة التي تحتفظ بوهجها والتي أهملها الإنسان المعاصر وصار جزءا من ماكينة الدمار والقتل".

شارل خوري: طرد الشياطين من اللوحات

لم يكن للفنان شارل خوري موقف أقل ذهولا إزاء ما يحدث في البلاد من موقف الفنانة بيتينا خوري بدر. خوري كان عايش الحرب اللبنانية وله مواقف تعبيرية تميل إلى الابتعاد عن المباشرة نحو الانشغال باختلاق عوالم خيالية مستقاة من حاضر يغصّ بسلسلة من الحروب المتكررة.

تجدر الاشارة إلى أنه على الرغم من فارق التجربة الفنية بينه وبين بيتينا خوري بدر، فإنه أيضا  قد بلور رد فعل على الواقع المؤلم يتمثل في المزيد من الغوص في عوالمه الخاصة بحثا عن الجمال.

 يعرض شارل خوري تجربته قائلا: "الحرب اللبنانية تركت أثرا كبيرا في نفسي، وما حدث أخيرا من فظائع ارتكبت في حق الإنسانية أراه امتدادا وتبلورا هائلا للتوحش البشري. منذ بدايتي الفنية، أي في منتصف تسعينات القرن الفائت، ظهر الإنسان في لوحاتي بشكل حشرة أو حيوان غرائبي مفترس أو كريه. ما أنجزته حينها كان بمثابة رد فعل على الحرب وتعبيرا عن نظرتي إلى الإنسان الذي جردته الحرب من إنسانيته وحّولته إلى وحش".

دور الفنان اليوم هو محاربة هذه الوحشية التي يراها في العالم، بإنتاج الجمال والحفاظ على ما تبقى منه 

شارل خوري

يسرد مسار اصطدام الخيال الفني بفظاعة الواقع: "مع مرور السنوات تغيرت رؤيتي إلى الأمور، وانعكس هذا التبدّل على نتاجي الفني، إذ أدركت أنني لن استطيع الاستمرار وفق المنطق نفسه الذي أسس لأعمالي. طردت كل الشياطين التي سكنت روحي ولوحاتي منذ التسعينات. أعتقد أن الحروب التي نشهدها حاضرا وكل الحروب الأخرى التي تحدث في العالم المعاصر، تجاوزت في فظاعتها حدود الخيال الفني. من هنا أرى أن دور الفنان اليوم هو محاربة هذه الوحشية التي يراها في العالم بإنتاج الجمال والحفاظ على ما تبقى منه. لم أعد أريد أن تكون أعمالي مسكونة بهول المآسي والوحوش الكاسرة".

تغريد درغوث: الفن سبيل للنجاة

بينما يهجس الفنان شارل خوري بتطويع عالمه الفني وتحميله أبعادا جمالية متحررة من الكوابيس، تهتم الفنانة التشكيلية تغريد درغوث بأن يكون فنها حمّالا للأفكار وللمواقف الشخصية الواضحة بعدما كان في بدايته "عن دمى ليس لديها ما تقوله أمام ما يحدث لها من مواقف، وليس لها آراء خاصة بها، ويمكنك تفكيكها وإعادة تركيبها على النحو الذي تريده، كما يمكنك التخلص منها إن أحببت".

تستطرد درغوث: "كنت أشعر انني مثل هذه الدمى لا أستطيع الإمساك بزمام أموري ولا أستطيع أن أختار نمطا لحياتي كما يحلو لي ولا أعرف إن كنت سأموت بشكل مأسوي لأنني في لبنان، بلد الحروب، حيث كل ضروب الموت ممكنة".

AFP
مشاهد الدمار في صور.

تضيف الفنانة: "مع الوقت أدركت أن اللغة التي بدأت في امتلاكها تريد أن تعبر عن أفكار وأن تدافع عنها. وهذا التوق إلى جلب المواقف وأشياء العالم المقلقة إلى عالمي الفني وإبراز موقفي منها وتسليط الضوء عليها، لا سيما حين تكون متخفية خلف أقنعة زائفة، هو ما أريده. لا أنفي أن هذه الممارسة الفنية كانت سابقا ولا تزال فعلا يحميني نفسيا ويجعلني قادرة على الاستمرار وسط هذا الجنون الفاحش".

وتستطرد: "أذكر أنني في بداية مراهقتي كنت أعتقد أن الحرب العالمية الثانية التي درسناها في الكتب المدرسية لقّنت البشر دروسا قاسية ستمنعهم من تكرار التقاتل وتجبرهم على العيش بسلام. لكنني بسذاجتي كنت مخطئة. شيئا فشيئا مع مرور الوقت استوعبت فكرة أن حياتي وحياة الناس من حولي ليست سوى سلسلة من الحروب المتتالية وتبعاتها".

ولعل أهم ما وصلت إليه "أن ماكينة الحروب الشرسة تقتل البشر وتجرح وتدمر الحجر وتحرق الأشجار ولكنها لن تتمكن من قتل الأفكار. الفن يستطيع حماية هذه الأفكار حتى بعد موتنا جميعا".

أشعر أمام ذروة شراسة القتل أن الفن أمر تافه ولا أهمية له وهو في أوج عجزه أمام هذا الكم من الكراهية والإجرام 

تغريد درغوث

لكن المأساة الكبرى بعنفها وضراوتها، تضع الفن أمام سؤال الجدوى والعجز. تعترف درغوث بأنها طرحت على نفسها هذا السؤال القاسي. تشرح كيف تعاملت معه: "أشعر اليوم، وفي أحيان كثيرة، أمام ذروة شراسة القتل، أن الفن أمر تافه ولا أهمية له وهو في أوج عجزه أمام هذا الكم من الكراهية والإجرام الذي نعيش قسما منه ونرى القسم الآخر منه على الشاشات التلفزيونية وصفحات التواصل الاجتماعي. ثم بعد حين لا ألبث أن أعود عن أفكاري هذه مقتنعة بأنه وحده القادر على التفوق على الحقد المستشري والإجرام المطلق، فالفن الحقيقي عنيد وصبور ومن خلاله نستطيع الاستمرار في إنتاج الأفكار الناجية من الموت".

أدهم دمشقي: جدال الفن والانتهازية

يعتبر الفنان والشاعر أدهم دمشقي من جهته أن التعبير عن الحرب "يولد أفكارا متناقضة قد لا يستطيع الفنان في أحيان كثيرة تحملها. ويصف الفنان في حديثنا معه تلك المشاعر مؤكدا أنها "تتسم بالثنائية القطبية المرهقة. فأمام القتل والتدمير أعيد النظر في علاقتي مع العالم ومع ذاتي، وعلى الصعيد الشخصي أشعر تارة أنني أريد أن أحول البشاعة إلى جمال، وتارة أخرى أتساءل إن كنت قادرا فعلا على ذلك".

Mahmoud ZAYYAT -AFP
مشاهد الدمار في النبطية بعد الغارات الإسرائيلية.

 وغالبا ما تولدت من هذا  التساؤل وفق دمشقي "أسئلة خطيرة من الناحية النفسية والوجودية أهمها: هل أنا شخص انتهازي أستغل آلام ومصائب الآخرين كي أصنع فنا؟ هل صرت مثل الفطريات التي تتغذى على أجساد الكائنات الاخرى وموتها؟ هذا الموقف المتشظي دفعني إلى مراجعة تاريخي الفني الذي يمتد لما يقارب 10 سنوات، وإلى إعادة النظر في كل الصدمات التي تعرضت لها والمواقف القاسية التي اختبرتها وحولتها إلى أعمال فنية. وحتى في هذه المراجعة أجد نفسي حائرا. صحيح أن تحويل الصدمات إلى أعمال فنية جعلني رجلا أقوى من السابق، ولكن ذلك لم يمنعني من التساؤل: هل كان ضروريا أن أمرّ بكل التجارب الصعبة التي مررت بها لأصبح فنانا؟ ألم يكن أفضل لو كانت حياتي بسيطة وعادية جدا وأن لا أكون فنانا؟".

هل كان ضروريا أن أمرّ بكل التجارب الصعبة التي مررت بها لأصبح فنانا؟ ألم يكن أفضل لو كانت حياتي بسيطة وعادية جدا وأن لا أكون فنانا؟ 

أدهم دمشقي

يخلص الفنان من هذه الدوامة إلى استناج مفاده "أن الإبداع هو نتيجة هذا التناقض في الذات، خصوصا في هذه الأيام التي أستبيحت فيها كل حقوق الإنسان. من وجوه هذا التناقض أنني، أحيانا كثيرة، كنت أشعر بالذنب عندما أجد في المباني المدمرة جمالية ما، فهي أمكنة قُتل وجُرح فيها مئات الأشخاص، بغض النظر عما إذا كانوا من أقربائي أو من مواطني بلادي".

AFP
زحمة النازحين العائدين على طريق صيدا.

يضيف: "مثال أخر على هذا التناقض الذي لا ينفك ينهشني هو حين أجد نفسي أقتصد لأوفر المال كي أبتاع الألوان وقماشا للرسم في حين يبحث الكثير من الناس عن لقمة عيشهم بصعوبة كبيرة. اخيرا أرسل اليَّ صديق قصيدة حزينة كتبها أحدهم بعدما دُمّر منزله بالكامل فكان رد فعلي الأولي 'ما أجملها!'. فجأة انتبهت... وقلت في نفسي كم أنا إنسان حقير!".

لكنه يتدارك قائلا: "أستطيع أمام الدمار والموت، كالكثير من الفنانين الاخرين، أن أجد مبررات تُبقيني ناشطا على المستوى الفني كالقول ؟إن هدف الفن هو تحويل البشاعة إلى جمال، أو رؤية الجانب المشرق من أي تجربة مؤلمة وتظهيره، لكنني لم أنجح تماما في تبني هذا النوع من المنطق".

font change

مقالات ذات صلة