عن الليلة 351... مساهمة بورخيس في "ألف ليلة وليلة"

تقنية الحلم روحا شعرية

Bassouls/Sygma -Getty Images)
Bassouls/Sygma -Getty Images)
خورخي لويس بورخيس.

عن الليلة 351... مساهمة بورخيس في "ألف ليلة وليلة"

لطالما غذّت الثقافة الشرقية، وبشكل خاص العربية والإسلامية، الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وأمدته برؤى فلسفية وإبداعية، فعمل على مجاراتها، متصلا بها عبر أكثر من معلَم من معالم هذه الثقافة، حدّ التماهي بها. أتناول في هذا المقال مساهمة بورخيس بنصيبه في صنع لياليه الخاصة، في كتاب "ألف ليلة وليلة".

إن النظر إلى بورخيس ككاتب له حصته من "الليالي" يتماهى والنزعة البورخِيسية في اختراع حكايات ومؤلفين وهميين وكتابة مراجعات نقدية لكتب لا وجود لها. وقد يكون، أيضا، وهو الخبير الذي لا تفوته شاردة أو واردة في عالم التأليف، قد نفذ إلى حكايات "ألف ليلة وليلة" من الثغرة أو الاستنتاج القائل بأن هذا الكتاب هو صنيع مجموعة من المؤلفين، ليكون هو بدوره واحدا من صانعي هذا الكتاب. إنّ أمرا كهذا ينسجم ونظرة بورخيس التي ترى في "الليالي" كتابا لا يني يتكامل مع الزمن، أي أنه عمل غير نهائي، وهو ما ينطبق، وفقا لفلسفته، على الكتب عامة، فجميع الكتّاب لا يكتبون في الحقيقة سوى كتاب واحد. مضافا إلى ما تقدم شغفه الأسطوري به، فهذا الكتاب يحوز في رأيه، الزمن كله والثقافات كلها واللغات كلها. وبورخيس المؤرّق بالخلود والأبديات، على الأقل في نطاق ما هو أدبي، ليس أدعى له لوصل اسمه بذلك من كتاب كـ "ألف ليلة وليلة"، فهو أيضا "سليل الأبدية". ومما يترجم هذا الشغف المتصل، أنه كان يصطحب معه في سفره إلى الأماكن التي يطول فيها مكوثه مجلدات "ألف ليلة وليلة"، في نسختها الإنكليزية بترجمة ريتشارد بيرتون، المكوّنة من سبعة عشر جزءا.

الانتماء إلى "ألف ليلة وليلة"

تُرجم الانجذاب البورخيسي إلى "الليالي" والشغف الطاغي بها عبر أكثر من صلة أقامها الكاتب معها.وهذه الصلة ذات شقين، وكلاهما ينطلق من "الليالي" ذاتها ويصبّ فيها، بمعنى الانتماء إليها.

يرى بورخيس في "الليالي" كتابا لا يني يتكامل مع الزمن، أي أنه عمل غير نهائي، وهو ما ينطبق، وفقا لفلسفته، على الكتب عامة

تتمثل الصلة الأولى عبر اقتباس حكايتين منها وإعادة كتابتهما، وهما "غرفة التماثيل" و"قصة الحالمَين" المأخوذتين عن الليلتين 272 و351، وهما منشورتان في كتابه "التاريخ الكوني للعار". باعتماد نسختها العربية ضمن مجلد الأعمال القصصية، لبورخيس ـ الجزء الأول، بترجمة إدريس المزواري، وقد أعطاها عنوان "قصة الإثنين اللذين حلُما". أما الصلة الثانية فتتمثل في محاولة بورخيس "دس" حكاية مخترعة ونسبتها إلى "الليالي"، تحديدا، الليلة 602، وهي مما لا يسع المجال هنا للتفصيل فيها، لكن يمكن اختزالها واختزال المنطلق الفني لها، حيث يجد الملك شهريار نفسه في مواجهة حكايته هو، ينطق بها فم شهرزاد. وهو شغف بورخيسي معهود في اعتماد تقنية البناء المَتاهي، الدائري، كما في الكثير من نصوصه السردية أو في تنويهاته عن هذه التقنية في نصوصه النقدية والتنظيرية، كتشبيهه تقنية "الليالي"، بالدمى الروسية، لطبيعة توالد الحكايات وتفرّعاتها.

KHALED DESOUKI -AFP

ثمة الكثير مما يمكن الوقوف عنده على هامش الحكاية المخترعة، هذه، وهو ما ليس مجاله هنا. مثلما أن هذا المقال سيتعرض إلى قصة/ حكاية واحدة من حكايات بورخيس الثلاث على ضوء الليلة الأصل التي ترد فيها الحكاية.

الليلة 351

لا بد في البداية من إيراد ملخص للحكاية كما سُردت في الليلة المذكورة. وهي ترد ضمن حكايتين قصار أو ثلاث، تتناول كلها موضوعة الافتقار بعد الغنى ومن ثم استرداد حالة الغنى، أي أن الحكايات ذات موضوع واحد. تتحدث الحكاية عن رجل بغدادي امتلك مالا كثيرا إلا أنه فقد ثروته، فيحلم ذات ليلة، بعد ان ينام مقهورا مغموما، بمن يخبره أن رزقه بمصر وعليه أن يتبعه. فيسافر إلى مصر، ويبيت ليلته في مسجد بعد أن يدركه الليل، وصادف أن بيتا جوار المسجد هاجمه لصوص، مرورا بالمسجد، فاستغاث أصحاب البيت فأغاثهم الوالي بأتباعه، ودخل المسجد مفتشا عن اللصوص، فوجد البغدادي نائما، فقبض عليه وأوسعه ضربا حتى أشرف على الهلاك، حسب وصف الحكاية، ثم سجنه ثلاثة أيام وأحضره بعدها للاستجواب، فقص البغدادي حكايته وكيف أن هاتفا في المنام أخبره بالتوجه إلى مصر لتحصيل رزقه، لكن يبدو أن الرزق، يقول البغدادي، بظرف، هو السياط التي نالها منه. فيضحك الوالي بعمق لهذه المفارقة، ثم يصفه بالأحمق، لأنه هو نفسه حلم ثلاث مرات بمن يصف له بيتا في بغداد، ويطالبه بالسفر إلى هناك، ساردا بالتفصيل الدقيق كيفية الوصول إلى البيت، كاشفا له أن في حديقة الدار يوجد مال عظيم، تحت فسقية (نافورة)، لكنه لم يفعل، لأنه لم ير في ذلك سوى أضغاث أحلام. ثم يعطي البغدادي بعض الدراهم تعينه على العودة إلى بلده. وما كان الوالي يصف في الحقيقة سوى بيت الرجل نفسه الذي جاء مصر من أجل المال. ويقفل البغدادي عائدا وقد أدرك أن الحلم الذي رواه له الوالي، إنما هو هبة وهبها له القدر. فيعمل على استخراج المال كما وصف له الوالي ويكون في ذلك رزقه وسعة عيشه.

الملمح الحاسم الذي يدمغ بعض مقاطع حكاية بورخيس بطابعه الشخصي، هو رؤية الحالم شخصا مبللا يُخرج من فمه عملة ذهبية


على الرغم من أن مضمون الحكاية التي يسردها بورخيس والعناصر الرئيسة لها تتطابق مع الحكاية الأصل في "الليالي"، إلا أن ثمة ما يمكن عده طابعا بورخيسيا خالصا، وسَم الحكاية. فعدا عن التغييرات التي أجراها بورخيس، من ذلك إبراز قيمة العمل لدى بطله القاهريّ، وإن كان مجبرا، في التفاتة خالف فيها الصفة المبهمة وغير المؤكدة لعمل البطل في نص "الليالي"، سوى بالإشارة إلى أنه "لا ينال قوته إلا بجهد جهيد". كذلك عمد إلى تغيير جغرافيا الحكاية، فحلت القاهرة محل بغداد، وأصفهان محل القاهرة. ففي نص الحكاية الأصل، يسافر البطل من بغداد إلى القاهرة، فيما يكون السفر في نسخة بورخيس من القاهرة إلى أصفهان، هذه التي يبقى فيها القاهري يومين موقوفا، أما في "الليالي"، فيقضي البطل ثلاثة أيام في السجن. وتحل في نص بورخيس تسمية رئيس الحرس بدلا من الوالي. وعلى ما تبدو عليه مثل هذه التفاصيل من بساطة أو لا أهمية، إلا أنها تأتي ضمن التكييفات المقصودة التي أجراها بورخيس على النص، ليأخذ طابعا بورخيسيا صرفا، بدءا من الاستهلال، وإن حاول بذلك تقليد الصياغات التراثية العربية المعهودة في مقدمات الكتب، والتي تسمّى بخطبة الكتاب، إلا أن لمثل هذا التقليد بُعدا مضادا هنا، قد يبطن السخرية.

BERTRAND GUAY- AFP
صورة من كتاب "ألف ليلة وليلة".

إن الملمح الحاسم الذي يدمغ بعض مقاطع حكاية بورخيس بطابعه الشخصي، هو رؤية الحالم شخصا مبللا يُخرج من فمه عملة ذهبية، وهو مما لا أثر له في نسخة "الليالي"، مخاطبا إياه بأن ثروته في بلاد فارس، في أصفهان، وعليه أن يذهب للبحث عنها. وصف كهذا لا يخبر إلا عن سمة أسلوبية لبورخيس تذكّر قارئه بأجواء "كتاب الرمل"، وسوى ذلك من قصص وحكايات عديدة له يكون الحضور فيها لشخصيات تنتمي إلى الحلمي والوهمي، أكثر من انتمائها إلى الواقع.

Eduardo Comesaña -GettyImages
بورتريه لبورخيس.

الأحلام وصناعة الخيال

 من هنا يمكن التيقّن من أن ما جذب بورخيس في هذه الحكاية عنصر جوهري، وهو العمود الفقري لها وسر إدهاشيتها، ألا وهو الحلم، ليعلن انتماءه اليها. والعكس أيضا يصح، معيدا كتابتها وفق رؤيته. في هذه الحكاية يكون اعتماد تقنية الحلم هو الروح الشعرية لها، وذروة الشعري في الحكاية كلها هو تبادل الأحلام، ففي حين قصّ القاهري على رئيس الحرس حلمه الذي وجهه بالسفر إلى أصفهان، فإن رئيس الحرس روى له في المقابل، حلمه وكأنه كان عين حلم القاهري، لكن معكوسا، أي أنه كان تفسيرا مباشرا لمغزى حلمه وإيذانا ببدء تحققه.

النص هو نص بورخيسي يتواءم مع فلسفته في استثمار وتسخير الأحلام أدبيا بعد الانشغال والافتتنان بها حياتيا


لعبة الحلم هذه هي لعبة بورخيسية باحتراف، وإن لم يكن هو الوحيد من أدباء العالم الذي أولى اهتمامه بها، لكن لديه تكون الأحلام مادة رئيسة في صناعته الخيالية، مثلها مثل التقنية التضليلية التي يعتمدها في خلط كتّابٍ حقيقيين بآخرين متوهَمين، مثل ما أسند حكايته هذه ومنذ مستهلها إلى المؤرخ العربي الإسحاقي، دون أي سند في الحقيقة.

 JUAN MABROMATA - AFP
كتب تحتوي على ملاحظات وتعليقات بخط بورخيس.

 إن تذييل بورخس حكايته بـ"ألف ليلة وليلة" والرقم 351، كمصدر أو مرجع، لن يغير من حقيقة أن النص هو نص بورخيسي يتواءم مع فلسفته في استثمار وتسخير الأحلام أدبيا بعد الانشغال والافتتنان بها حياتيا.

هذا هو دأب بورخس، وليست "قصة الإثنين الذين حلُما" سوى مثل من أمثلة كثيرة نهج بها بورخيس الأسلوب أو بالأحرى المنطلق نفسه. ففي قصته المعروفة "بيار مينار مؤلف دون كيخوته"، يصطنع بورخيس كاتبا فرنسيا متخيلا يقرر كتابة رواية ثربانتس الشهيرة ومطابقتها تماما مع الرواية الأصلية دون نسخها، وإن بدا هذا مستحيلا (يُنظر خورخي لويس بورخيس حكايات، ترجمة عبد السلام باشا). مع ذلك فإنه ينم عن طبيعة نزعة بورخيس وتركيبية تفكيره الأدبي، ونهجه الكتابي.

font change

مقالات ذات صلة