سقوط الحكومة الفرنسية... باب أزمات مفتوحة

تزامنت عودة ترمب مع عدم الاستقرار السياسي داخل أوروبا

سقوط الحكومة الفرنسية... باب أزمات مفتوحة

في وقت يُنتظر فيه من الديمقراطيات الرائدة في العالم إظهار إحساس مشترك بالهدف، يُعتبر الانهيار الدراماتيكي للحكومة الفرنسية مؤشرا جديدا يعزز التصوّر بأن هذه الديمقراطيات تفتقر إلى الجاهزية لمواجهة التحديات المستقبلية.

التهديدات المتزايدة من الأنظمة الاستبدادية القوية في موسكو وبكين تشكّل تحديا جديدا ومهماً للهيمنة التي تمتعت بها الديمقراطيات الرائدة على الساحة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. ومع ذلك، بدلا من إظهار العزيمة المطلوبة للحفاظ على النظام العالمي القائم، تُظهر التطورات السياسية الأخيرة أن حكومات ديمقراطية كثيرة منشغلة بقضاياها الداخلية، ما يجعل من الصعب تقديم جبهة موحدة لمواجهة هذه التحديات المتزايدة.

في الولايات المتحدة، أُثيرت مخاوف بشأن احتمال عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهو أمر قد يؤدي إلى اتجاه واشنطن نحو مزيد من الانعزالية، خاصة في علاقاتها مع حلفائها الغربيين. ويشمل ذلك حديثا عن انسحاب محتمل للولايات المتحدة من حلف "الناتو"، وهو إجراء قد تكون له تداعيات عميقة على قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها في مواجهة التهديدات المستقبلية.

علاوة على ذلك، تزامنت عودة ترمب المرتقبة مع فترة من عدم الاستقرار السياسي الشديد داخل القوى الأوروبية الكبرى، ما يعني أن دول كثيرة أصبحت تركز بشكل متزايد على قضاياها الداخلية بدلا من التحدي الأوسع المتمثل في أمن أوروبا.

على سبيل المثال، أدى انهيار الحكومة الائتلافية في ألمانيا الشهر الماضي إلى انشغال برلين بالانتخابات العامة المقبلة بدلا من الأزمة الأوكرانية، وسط توقعات بأن حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) اليميني المتطرف سيحقق مكاسب كبيرة.

لا تزال احتمالات معاناة فرنسا من اضطرابات سياسية أكبر قائمة بعد أن ردت النقابات على انهيار الحكومة بالدعوة إلى إضرابات ومظاهرات في جميع أنحاء البلاد، مما قد يؤدي إلى شلل تام

كما أن الأزمة السياسية في فرنسا، التي أدت إلى انهيار الحكومة الفرنسية، تعني تقويض قدرة فرنسا وألمانيا، باعتبارهما أبرز القوى داخل الاتحاد الأوروبي، على التأثير في الشؤون العالمية بسبب أزماتهما الداخلية. ويُعد سقوط الحكومة الفرنسية مقلقا بشكل خاص نظرا لأن الجيش الفرنسي هو الأقوى داخل الاتحاد الأوروبي، كما أن فرنسا هي العضو الوحيد في الاتحاد الذي يمتلك أسلحة نووية. قدم رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه استقالته للرئيس إيمانويل ماكرون بعد خسارته تصويتا بحجب الثقة، قدمه سياسيون معارضون من اليمين واليسار بشأن مقترحات ميزانيته.

وشهد التصويت في "الجمعية الوطنية" الفرنسية إقصاء بارنييه بأغلبية 331 صوتا من أصل 577 نائبا، بعد محاولته تمرير ميزانية تقشفية لمعالجة العجز المتزايد في فرنسا. وتُعد هذه الواقعة أقصر فترة ولاية لأي رئيس وزراء فرنسي في تاريخ الجمهورية الخامسة، كما أصبح بارنييه أول رئيس وزراء يُقصى من منصبه من قبل البرلمان الفرنسي منذ عام 1962. وقد ترك رحيل بارنييه الرئيس إيمانويل ماكرون يواجه أزمة سياسية أكبر، في الوقت الذي يسعى فيه للعثور على خليفة قادر على التعامل مع المشكلات المالية المتزايدة في البلاد.

بدأت الأزمة السياسية والاقتصادية في فرنسا تؤثر على منطقة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، مع مخاوف من احتمال تعرض البلاد لأزمة ديون سيادية، مما قد تكون له عواقب بعيدة المدى على الاستقرار الاقتصادي للمنطقة بأكملها. وأفادت تقارير بأن البنك المركزي الأوروبي يستعد لاتخاذ إجراءات طارئة في حال عجز الحكومة الفرنسية عن السيطرة على تكاليف الاقتراض.

ولا تزال احتمالات معاناة فرنسا من اضطرابات سياسية أكبر قائمة بعد أن ردت النقابات على انهيار الحكومة بالدعوة إلى إضرابات ومظاهرات في جميع أنحاء البلاد، مما قد يؤدي إلى شلل تام. وفي ظل معاناة كل من ألمانيا وفرنسا من الاضطرابات السياسية الداخلية، تثار تساؤلات حول قدرة القوى الكبرى في أوروبا على إظهار التضامن في مواجهة العدوان الروسي في أوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، تفاقمت الأزمة السياسية الأوروبية بسبب اندلاع اضطرابات مفاجئة في كوريا الجنوبية، التي تُعد لاعبا رئيسا في جهود احتواء التهديد الصيني الشيوعي. وجاءت هذه الأزمة إثر محاولة الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، إعلان الأحكام العرفية، وهي خطوة أوقفتها المعارضة بالإجماع. وقد برر يون خطوته بأنها ضرورية لحماية البلاد من "القوى الشيوعية الكورية الشمالية" و"القضاء على العناصر المعادية للدولة". وفي المقابل، بدأ السياسيون المعارضون إجراءات لعزله، مما يضمن استمرار الأزمة السياسية في البلاد في المستقبل المنظور.

ومجمل هذه التحديات السياسية التي تواجه الديمقراطيات الكبرى تثير تساؤلات جدية حول قدرتها على مواجهة التحديات المتزايدة من الأنظمة الاستبدادية مثل روسيا والصين، في وقت تبدو فيه هذه الأنظمة الاستبدادية أكثر وضوحا وثباتا في أهدافها. 

في روسيا، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين صراحة عن رغبته في توسيع نفوذ بلاده على حساب المناطق التي يعتبرها الكرملين "الجوار القريب"، بما في ذلك أوكرانيا، بغض النظر عن المخاطر الناجمة عن مواجهة الغرب. بينما لم يُخفِ الرئيس الصيني شي جين بينغ طموحه لفرض هيمنة بكين على منطقة المحيط الهادئ، وسط مخاوف متزايدة من أن الصين عازمة على استعادة السيطرة على تايوان، مما قد يؤدي إلى صراع مباشر مع الولايات المتحدة. 

وإذا ما أضفنا إلى هذه الصورة المقلقة التهديد الذي تمثله دول مثل إيران وكوريا الشمالية، يتضح أن على الحكومات الديمقراطية أن تُظهر عزيمة ووحدة في الهدف للتغلب على التحدي الذي تمثله هذه الأنظمة الاستبدادية. وكما حذر الأدميرال سير توني راداكن، رئيس أركان القوات المسلحة البريطانية، في خطاب رئيس ألقاه في لندن هذا الأسبوع، فإن العالم يواجه الآن "العصر النووي الثالث". حيث انتهى الاستقرار الذي تحقق بعد الحرب الباردة. 

وفي ظل هذه الظروف، يصبح من الواضح أن الدول الديمقراطية لم تعد تملك ترف الانشغال بالصراعات السياسية الداخلية، إذ إن التهديدات المتزايدة التي تمثلها القوى الناشئة، مثل روسيا والصين، تشكل خطرا وجوديا على النظام العالمي القائم.

font change