الحرب وإصلاح المنظومة العسكرية في السودان

أصبحت القاعدة أن السلاح هو أداة الممارسة السياسية التي تعترف بهاالدولة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جنود من الجيش السوداني خلال دورية في منطقة في الخرطوم بحري في 3 نوفمبر 2024

الحرب وإصلاح المنظومة العسكرية في السودان

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، أصبحت قضية هيكلة وإصلاح المنظومة العسكرية والأمنية هي الأكثر إلحاحا في المشهد السياسي السوداني. فالحرب المستعرة حالياً ليست سوى انعكاس مباشر لأزمة تعدد القوات العسكرية الرسمية وشبه الرسمية وتشابكاتها السياسية ومساحات تأثيرها على جهاز الدولة. وبشكل مباشر كانت قضية دمج "قوات الدعم السريع" في الجيش السوداني المحور الأساسي في تفجير فتيل الحرب.

وبالرغم من أن إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية كان أحد الأهداف الأساسية والجوهرية لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، فإن تجاهل التعامل الجاد مع تحقيقه بل تعطيل الخطوات العملية للسعي من أجل ترجمته على أرض الواقع بالإضافة إلى طموح بعض القوى والشخصيات السياسية للاستفادة والاستثمار في التحالف مع القوى حاملة السلاح، ساهمت في إشعال نيران الحرب، ما أعاد إلى الواجهة ضرورة التفكير الجاد في إصلاح وهيكلة المؤسسة العسكرية السودانية كخطوة حاسمة نحو تحقيق الاستقرار.

وقد بات واضحا من تاريخ الثورات الجماهيرية والانقلابات العسكرية، أن استدامة أي نظام ديمقراطي في السودان مرهونة بتحقيق إصلاح جذري للمؤسسة العسكرية، يشمل إعادة هيكلتها وتأهيلها لتؤدي دورها الوطني بعيدا عن السياسة والاقتصاد. غير أن التباطؤ والمماطلة في تنفيذ هذا الإصلاح أفضى إلى المأساة الدموية التي تشهدها البلاد اليوم، والتي لا تهدد بدمار البلاد وتشريد وعذابات أهلها فحسب، بل إنها قتلت الممارسة السياسية جراء الاستقطابات الحادة والانحيازات غير المبدئية التي تسعى إلى تسلق مقاعد السلطة بالاستناد إلى نفوذ السلاح في السياسة حتى ولو جاء ذلك على حساب الحرب وبكلفة حياة ومعاش وأمان السودانيين.

إفساد ذو وجهين

لم تكن جذور الخلل في المنظومة الأمنية والعسكرية في السودان وليدة اللحظة، بل هي نتاج عقود من التداخل المعيب بين الأيديولوجيا والمؤسسة العسكرية خلال حقبة الرئيس عمر البشير. ومنذ انقلاب الإسلاميين في يونيو/حزيران 1989، حكم السودان تحالف بين الجبهة القومية الإسلامية (بتنويعات أسمائها المختلفة من لدن جماعة "الاخوان المسلمين"، و"جبهة الميثاق"، و"الجبهة القومية الإسلامية". ومن ثم المؤتمر الوطني بانشطاراته المتعددة) ومؤسسة العسكر السودانية بتنشئتها ذات الطبيعة المعهودة في دول ما بعد الاستعمار، والتي تفترض أن دورها يعلو على جهاز الدولة ويفوقها. ولاحقا أدت تخوفات البشير من تقلبات هذا التحالف إلى سعيه لإنشاء ميليشيات حماية خاصة به، وتخضع له بشكل مباشر بعيدا عن مركزية قيادة الجيش، لحماية مقعد حكمه، وتمظهرت في "قوات الدعم السريع" التي صعد نجمها سريعاً كجيش مواز.

في دول الجنوب العالمي، ومنها السودان، تبلورت أوهام الاستحقاق العسكري نتيجة للدور المركزي الذي لعبته الجيوش في معارك الاستقلال

وقد عزز التحالف بين الإسلاميين والعسكر أيديولوجيا قائمة على الإقصاء والعنف، وأنتج نظام حكم طابعه الفساد والاستبداد، أدى إلى إضعاف مؤسسات الدولة وإفساد المؤسسة العسكرية نفسها. وهذا التحالف لم يكن مجرد شراكة سياسية، بل كان منظومة متكاملة تم دمج المؤسسة العسكرية فيها كجزء من مشروع أيديولوجي يهدف إلى السيطرة على الدولة وإعادة تشكيلها وفق رؤية استبدادية.

ونتج عن ذلك اختلال مزدوج. فمن جهة، فقدت الأيديولوجيا ركائزها الفكرية عندما تحولت أدواتها إلى القمع المستند على قوة واستبداد السلاح بدلاً من أدوات الفكر والجدل والحجة والإقناع، فأنفذت سياساتها بعنفوان البندقية وأصبحت أطروحاتها تتنزل من علو زائف يعتلي برج الدبابة، وأهملت تطوير مكوناتها الفكرية والجدلية بعد أن أخذتها سكرة التفوق على الآخر، بينما هي خاوية من الداخل. وتحولت تلك الأيديولوجيا إلى محض وعي زائف بالواقع. فتحولت أيديولوجيا الإسلاميين السودانيين حينها إلى محض مرآة تستعيض عن التطور الموضوعي بقراءة متغيرات الواقع وتحليلها بالنظر إلى الذات والإعجاب بها.

أ.ف.ب
قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان في مؤتمر صحافي عقده في بورتسودان في 24 أغسطس

ومن جهة أخرى، أضرت هذه العلاقة الشائهة، بالمؤسسة العسكرية عبر تسييسها وتحويلها إلى أداة لحماية النظام الحاكم ونزعها عن أداء دورها المهني المنوط بها في تركيبة الدولة الحديثة، كمدافع عن الأمن والبلاد ولها مهمة خدمية مقدرة ومحترمة في الدفاع عن مواطنيها- كل مواطنيها- بشكل محايد ومتكامل، ليحولها إلى منظومة سياسية تتدافع مع القوى السياسية الأخرى في التنازع على ميادين السياسة والاقتصاد والشؤون الاجتماعية، وتدخل جراء ذلك في تحالفات سياسية- فما الحراك السياسي سوى الصراع بين التحالف والتحالف المضاد- تنزع عنها صفة الحيادية، وتجعلها متحيزة بشكل يفقدها شرعيتها وشرعية احتكارها لممارسة العنف القانوني بسلاح الدولة.

وقد انعكست عواقب ذلك فيما شاهدناه من تاريخ الحروب الأهلية المبنية على المظالم الاجتماعية في السودان خلال عهد البشير. فبين انتشار رقعة حرب الجنوب إلى اندلاع حرب دارفور، أصبحت القاعدة أن السلاح هو أداة الممارسة السياسية التي تعترف بهاالدولة. وحينها لم يعد ممكنا على الدولة أن تنكر على حركات الكفاح السياسي أن تستخدم نفس الأداة للانتصار لأطروحاتها السياسية. ففي غياب القاعدة الملزمة للجميع- وخصوصا صاحب القوة- يصبح محاكاة الخصم واستعارة وسائله بغض النظر عن صحتها هي القاعدة، والدولة أولى بما لها من سيادة على الآخرين بالتزام القواعد والقوانين واتباعها. 

وتفشى هذا الداء بشكل أكثر جموحا، حين أصبح حمل السلاح والارتزاق العسكري محض وسيلة لكسب العيش عبر حصد النفوذ السياسي وتسخيره في حصد المغانم الاقتصادية. فظهرت "قوات الدعم السريع"، التي كونها البشير كاداة عنف وطغيان لا تهدف إلى غير حماية حكمه وتفتقد إلى أساس سياسي أو اجتماعي يبرر وجودها، لتصبح لاعباً أساسياً في ميدان السياسة والاقتصاد في السودان.

وهم الاستحقاق والتفوق العسكري

في دول الجنوب العالمي، ومنها السودان، تبلورت أوهام الاستحقاق العسكري نتيجة للدور المركزي الذي لعبته الجيوش في معارك الاستقلال. تلك المعارك بطبيعتها العسكرية حكمتها نظم إدارة يعلو فيها صوت الأوامر والقرارات الأحادية والثقة العمياء في حكمة القيادة على صوت المشاركة الواسعة في صناعة القرار. وبعد نيل الاستقلال الوطني، افترضت تلك القيادات والنخب العسكرية في نفسها الاستحقاق لإدارة أوطانها كطليعة، وكونها قادت معارك التحرير بالوسائل نفسها التي أدارت بها حروب الاستقلال. ولعل أخطر ما خلفته هذه الأنظمة العسكرية هو طغيان ثقافة الطاعة العمياء وإقصاء التفكير النقدي، ليس فقط داخل المؤسسات العسكرية، بل في المجتمع ككل.

لا يقتصر الحديث عن الإصلاح والتحديث على المؤسسة العسكرية فحسب. بل إن مجمل جهاز الدولة بشقيه المدني والعسكري يحتاج إلى إعادة إصلاح وهيكلة شاملة

وفي السودان، كان الوضع مختلفاً بعض الشيء. إذ إن الاستقلال تحقق عبر عملية سياسية قادتها المؤسسات المدنية مثل مؤتمر الخريجين والأحزاب الوطنية. بيد أن ضعف النخب السياسية وافتقارها للخبرة وانخراطها في الاعتراك السياسي المفصول عن ضروريات إدارة الواقع، سرعان ما أتاح للمؤسسة العسكرية أن تستغل هذا الفراغ لفرض هيمنتها. هكذا، وُئدت مبادئ الإشراف المدني على الجيش، وتحولت المؤسسة العسكرية إلى لاعب سياسي ينازع القوى السياسية على السلطة وإدارة جهاز الدولة، بدلا من طبيعته كجزء من هيكلة هذا الجهاز.

كلفة الانقلابات العسكرية

منذ أول انقلاب عسكري قاده الفريق إبراهيم عبود عام 1958، دخل السودان في دوامة الانقلابات العسكرية، حيث باتت المؤسسة العسكرية وسيلة للوصول إلى السلطة. انقلاب عبود جاء نتيجة صراع سياسي استعانت أطرافه بالجيش لحسم النزاع. ورغم محاولات عبود النأي بنفسه عن الأيديولوجيا، فإن نظامه أسس لهيمنة المؤسسة العسكرية عبر فرض رؤى مركزية تنطلق من دائرة ضيقة، بعيدًا عن المشاركة الشعبية.

أ.ف.ب
حفل تخرج لجنود في الجيش السوداني في مدينة القضارف بشرق البلاد في 5 نوفمبر 2024

لم يكن انقلاب عبود سوى البداية. فقد شهد السودان انقلابات عسكرية أخرى ذات طابع أيديولوجي، مثل انقلاب جعفر نميري في 1969 وتقلباته يساراً ويميناً وانقلاب الجبهة القومية الإسلامية بقيادة البشير في 1989، وانقلابات أخرى (خالية من الأيديولوجيا) مثل انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021. هذه الانقلابات لم تُحدث فقط دمارًا سياسيًا واقتصاديًا، بل تركت إرثًا مؤلمًا من الصراعات المسلحة، أسوأها الحرب الحالية مع ميليشيا "الدعم السريع".

وخلال فترة حكم البشير، تعرضت المؤسسة العسكرية لعملية أدلجة ممنهجة جعلت الولاء للنظام بديلا عن الكفاءة. ولم تعد مهمة الجيش حماية البلاد من التهديدات الخارجية، بل تحولت إلى حماية النظام الحاكم وقمع المعارضة ولاحقاً بحث نظام البشير في تخوفاته للمحافظة على الحكم عن بدائل أخرى لحمايته بأساليب الحديد والنار نفسها. هذه السياسة قوضت حيادية الجيش وأضعفت قوته ومهنيته.

واليوم، أبرزت الحرب الحالية بين الجيش و"قوات الدعم السريع" الضعف الذي أورثته هذه التركة للمؤسسة العسكرية السودانية والكلفة الغالية لتداعيات تسييسها على مدى العقود الماضية. ومع ذلك، يجد السودانيون في معركة الجيش الحالية وقتاله ضد الميليشيا، بكل الانتهاكات البشعة التي ارتكبتها ضد أبناء الشعب السوداني، بارقة أمل في استعادة الجيش لدوره الوطني ومهامه الأصلية في الحماية عوضاً عن الوصاية. ولم تكن القوات المسلحة السودانية في تاريخها أقرب لمزاج السودانيين وعاطفتهم منها في هذا اليوم. وهذا الموقف الشعبي يُبرز الحاجة الملحة لبدء عملية إصلاح وتطوير وتحديث شاملة تُعيد للمؤسسة العسكرية مهنيتها وحياديتها.

الإصلاح: أولوية لا تحتمل التأجيل

في ظل الانتقال السوداني بعد نظام البشير، لا يقتصر الحديث عن الإصلاح والتحديث على المؤسسة العسكرية فحسب. بل إن مجمل جهاز الدولة بشقيه المدني والعسكري يحتاج إلى إعادة إصلاح وهيكلة شاملة. ولكن التفكير في إصلاح المؤسسة العسكرية أصبح لا يحتمل التأجيل، وفي الحين ذاته لا ينبغي الدفع به كغرض سياسي واستعجاله بشكل منفصل عن الواقع المعاش. ما نحتاجه كسودانيين هو التوافق على رؤية عملية وقابلة للتطبيق لتنزيله على أرض الواقع. فالإصلاح المنشود لا يقتصر على إعادة الهيكلة أو تحديث القدرات، بل يتطلب إعادة تعريف دور الجيش كجزء من جهاز الدولة، خاضع للإشراف المدني لقيادة الدولة ومحايد تجاه القوى السياسية. ويجب أن يتضمن هذا الإصلاح إبعاد الجيش عن السياسة والاقتصاد، وتأهيله للقيام بدوره في حماية البلاد ضمن إطار دولة حديثة تُحكم بالقانون والمؤسسات.

إصلاح المؤسسة العسكرية ليس مجرد استحقاق دستوري، بل هو ضرورة لبقاء الدولة نفسها واستقرارها.وهذه الضرورة لا يجب أن يتم استخدامها في إطار الكيد السياسي أو تصفية الحسابات

إن الإصلاح العسكري يجب أن يتم كأحد مكونات مشروع سياسي شامل يعالج أوجه الخلل في بنية الدولة السودانية. فالدولة الحديثة تقوم على عقد اجتماعي يضمن حياد مؤسساتها واستقلاليتها، ويُقر باحتكارها للعنف الشرعي من أجل حماية المواطنين جميعًا، دون انحياز لأي فئة أو جماعة. وأي انحراف عن هذا المبدأ يُفقد الدولة شرعيتها ويُحول مؤسساتها إلى أدوات قمع واستبداد.

ليس السودان فريدا من نوعه في هذا السياق. فحول العالم، وفي مختلف تجارب الانتقال من فترات شمولية طويلة، كانت عملية الإصلاح الأمني والعسكري أحد عوامل صناعة الاستقرار. فعلى سبيل المثال، ظل الجيش الإسباني إحدى أهم ركائز نظام حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو (1939-1975). ولعبت المؤسسة العسكرية دورًا بارزًا في السياسة والمجتمع، مع ولاء كامل للنظام الديكتاتوري. ومع انقضاء عهد فرانكو وانتقال السلطة إلى الملك خوان كارلوس الأول، وفتح المجال للتحول الديمقراطي، ظل الجيش يشكل تهديدًا لأي إصلاح سياسي بسبب النفوذ الكبير الذي كان يتمتع به.

أ.ف.ب
جندي من الجيش السوداني يراقب خط المواجهة باستخدام منظار في الخرطوم في 3 نوفمبر 2024

وفي عام 1981، شهدت إسبانيا محاولة انقلاب عسكري بقيادة أنطونيو تيخيرو (محاولة انقلاب 23 فبراير/شباط)، وكان ذلك اختبارًا كبيرًا للديمقراطية الإسبانية الناشئة. كما شهدت رواندا بعد الإبادة الجماعية عملية شاملة لإعادة بناء الجيش بغرض المصالحة عبر ضمان الإشراف المدني على المؤسسة العسكرية، وقامت كولومبيا بجهود هائلة لإعادة بناء جيشها ونزع سلاح المجموعات المسلحة، بعد اتفاق السلام مع "القوات المسلحة الثورية الكولومبية"(FARC) عام 2016.

ولكن كل هذه التجارب تشير إلى أن الإصلاح العسكري والأمني في البلدان التي كانت خاضعة للأنظمة الشمولية هو ضرورة لا مناص عنها، وقد يتطلب وقتًا طويلًا وجهودًا كبيرة، وغالبًا ما يتطلب موازنة بين الحفاظ على الاستقرار وتحجيم نفوذ المؤسسة العسكرية بما يتماشى مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن لا يمكن تجاهله من أجل تحقيق الاستقرار.

ومع استمرار الحرب، تظل الحاجة ملحة إلى نقاش وطني شامل حول مستقبل الجيش في السودان. وهذا النقاش يجب أن يتجاوز الحلول الجزئية إلى رؤية متكاملة تُؤسس لجيش مهني ووطني، يعمل ضمن إطار الدولة وليس فوقها.

إن إصلاح المؤسسة العسكرية ليس مجرد استحقاق دستوري، بل هو ضرورة لبقاء الدولة نفسها واستقرارها.وهذه الضرورة لا يجب أن يتم استخدامها في إطار الكيد السياسي أو تصفية الحسابات أو محاولة تحقيق مكاسب صغيرة هنا وهناك بل هو ركن أساسي في صناعة استقرار السودان الذي يكون فيه الحكم للناس والمجتمع وليس البندقية الأقوى أو الحربة الأطول كما كان تاريخ السودان السياسي منذ غزو محمد علي باشا.

font change

مقالات ذات صلة