منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، أصبحت قضية هيكلة وإصلاح المنظومة العسكرية والأمنية هي الأكثر إلحاحا في المشهد السياسي السوداني. فالحرب المستعرة حالياً ليست سوى انعكاس مباشر لأزمة تعدد القوات العسكرية الرسمية وشبه الرسمية وتشابكاتها السياسية ومساحات تأثيرها على جهاز الدولة. وبشكل مباشر كانت قضية دمج "قوات الدعم السريع" في الجيش السوداني المحور الأساسي في تفجير فتيل الحرب.
وبالرغم من أن إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية كان أحد الأهداف الأساسية والجوهرية لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، فإن تجاهل التعامل الجاد مع تحقيقه بل تعطيل الخطوات العملية للسعي من أجل ترجمته على أرض الواقع بالإضافة إلى طموح بعض القوى والشخصيات السياسية للاستفادة والاستثمار في التحالف مع القوى حاملة السلاح، ساهمت في إشعال نيران الحرب، ما أعاد إلى الواجهة ضرورة التفكير الجاد في إصلاح وهيكلة المؤسسة العسكرية السودانية كخطوة حاسمة نحو تحقيق الاستقرار.
وقد بات واضحا من تاريخ الثورات الجماهيرية والانقلابات العسكرية، أن استدامة أي نظام ديمقراطي في السودان مرهونة بتحقيق إصلاح جذري للمؤسسة العسكرية، يشمل إعادة هيكلتها وتأهيلها لتؤدي دورها الوطني بعيدا عن السياسة والاقتصاد. غير أن التباطؤ والمماطلة في تنفيذ هذا الإصلاح أفضى إلى المأساة الدموية التي تشهدها البلاد اليوم، والتي لا تهدد بدمار البلاد وتشريد وعذابات أهلها فحسب، بل إنها قتلت الممارسة السياسية جراء الاستقطابات الحادة والانحيازات غير المبدئية التي تسعى إلى تسلق مقاعد السلطة بالاستناد إلى نفوذ السلاح في السياسة حتى ولو جاء ذلك على حساب الحرب وبكلفة حياة ومعاش وأمان السودانيين.
إفساد ذو وجهين
لم تكن جذور الخلل في المنظومة الأمنية والعسكرية في السودان وليدة اللحظة، بل هي نتاج عقود من التداخل المعيب بين الأيديولوجيا والمؤسسة العسكرية خلال حقبة الرئيس عمر البشير. ومنذ انقلاب الإسلاميين في يونيو/حزيران 1989، حكم السودان تحالف بين الجبهة القومية الإسلامية (بتنويعات أسمائها المختلفة من لدن جماعة "الاخوان المسلمين"، و"جبهة الميثاق"، و"الجبهة القومية الإسلامية". ومن ثم المؤتمر الوطني بانشطاراته المتعددة) ومؤسسة العسكر السودانية بتنشئتها ذات الطبيعة المعهودة في دول ما بعد الاستعمار، والتي تفترض أن دورها يعلو على جهاز الدولة ويفوقها. ولاحقا أدت تخوفات البشير من تقلبات هذا التحالف إلى سعيه لإنشاء ميليشيات حماية خاصة به، وتخضع له بشكل مباشر بعيدا عن مركزية قيادة الجيش، لحماية مقعد حكمه، وتمظهرت في "قوات الدعم السريع" التي صعد نجمها سريعاً كجيش مواز.