سوريا والنقابات العمالية في "مناطق النظام"... أداة للقمع والسيطرة

سيكون بناء منظمات نقابية مستقلة في المستقبل ضرورياً لتحسين ظروف معيشة السوريين

Shutterstock
Shutterstock
القطاعات الانتاجية في سوريا تفتقد الى نقابات تحميها

سوريا والنقابات العمالية في "مناطق النظام"... أداة للقمع والسيطرة

تؤدّي النقابات العمالية في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري دوراً في الهيمنة على الطبقة العاملة في البلاد وقمعها، ما يمنع العاملين من أي تنظيم ذاتي بغرض الدفاع عن مصالحهم. تشكل النقابات جزءا من شبكات السلطة التابعة للنظام التي يستخدمها لفرض سلطته على السكان. بعد الانتخابات التي جرت أخيراً لمختلف اللجان والقيادات النقابية على مستوى المحافظات، فلنلقِ نظرة على واقع النقابات العمالية في سوريا.

تعود أصول النقابات العمالية التي تعمل كأداة لسلطات النظام إلى ما بعد انقلاب البعثيين عام 1963. نفّذ حزب البعث، ولا سيما في عهد صلاح جديد الممتد بين عامي 1966 و1970، سياسات مثل الإصلاح الزراعي والتأميم وتعزيز القطاع العام، قلّلت في شكل كبير التفاوت الطبقي. كذلك أنشأ نظاماً للضمان الاجتماعي، وخدمات حكومية مجانية، وإسكاناً مدعوماً، وتعليماً مجانياً، ورعاية صحية عامة. استفادت قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة وصغار الفلاحين من هذه الإجراءات وشهدت تحسناً في ظروفها المعيشية. ومع ذلك، قُمِعت بعنف أي استقلالية للحركة العمالية وأي شكل من أشكال المعارضة اليسارية والتقدمية البديلة.

وبدأ النظام الجديد بمهاجمة أي توجه نضالي داخل النقابات العمالية، وأي معارضة للنظام البعثي في ستينات القرن العشرين. لم تُمنَح الطبقة العاملة تمثيلاً سياسياً مستقلاً في ظل النظام البعثي ومُنِعت من المشاركة في عملية اتخاذ القرارات السياسية. ولتحييد النقابات العمالية المشاكسة، بنى النظام قطاعه العام على غرار النموذج المصري، إذ شكّل هيئات تسيطر عليها الدولة، تُسمَّى "مؤسسات عامة" للإشراف على الإنتاج في قطاعات محددة. ولتمتين السيطرة على العاملين، أُجبِرت النقابات العمالية كلها بالقانون على الانتظام داخل الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1968.

النظام برئاسة حافظ الأسد، حدد رسمياً في مؤتمر الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1972 الغرض من النقابات العمالية بأنه "سياسي". بعبارة أخرى، بات أي دور سياسي مستقل للنقابات مقيداً إلى حد كبير

أنهى انقلاب حافظ الأسد عام 1970، و"الحركة التصحيحية" التي تلته، السياسات الاجتماعية والاقتصادية الراديكالية السابقة، وبدأ عملية تدريجية من التحرير الاقتصادي البطيء لكن التدريجي. ومن بين العديد من الدوافع، جرى ذلك أيضاً بهدف كسب النظام دعم قطاعات في الطبقة البرجوازية الدمشقية. هذا التطور في مسار النظام الاقتصادي السياسي، رتّب أيضاً تداعيات على النقابات العمالية، التي شهدت القضاء على معارضي النظام جميعاً داخلها في السنوات التالية.

النظام برئاسة الحاكم الجديد حافظ الأسد حدد رسمياً في مؤتمر الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1972 الغرض من النقابات العمالية بأنه "سياسي". بعبارة أخرى، بات أي دور سياسي مستقل للنقابات مقيداً إلى حد كبير، وباتت أي مطالب مادية، ثانوية إزاء الالتزام الأعلى بزيادة الإنتاج المحلي والمساعدة في "النضال من أجل التحرير وبناء الأمة".

الاتحاد العام لنقابات العمال
اجتماع أعضاء الاتحاد العام لنقابات العمال في دمشق.

واعتُبِرت الحركات كلها التي تعبّر عن "مطالب" أو "مظالم"، ولا سيما في ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، حركات تؤدي إلى نتائج عكسية في ظل ما يُسمَّى بالنظام "الاشتراكي" الحاكم في سوريا، وشكلاً من أشكال "تخريب" المسار الاشتراكي. علاوة على ذلك، بحلول أبريل/نيسان 1980، كان النظام السوري قد فكّك النقابات المهنية كلها (بما في ذلك تلك التي تمثّل المهندسين والمحامين والأطباء)، وأنشأ نقابات مهنية جديدة تسيطر عليها الدولة، وعيّن قادتها.

نقابات الفلاحين مع وراثة الأسد الإبن

بعد تولي بشار نجل حافظ الأسد السلطة عام 2000، ترسّخت الطبيعة الوراثية للدولة في يد عائلة الأسد وأقاربها في شكل كبير، من خلال عملية تسريع تنفيذ سياسات نيوليبيرالية، وإحلال أقارب لبشار الأسد أو أفراد مقربين منه محل الحرس القديم. وفي الوقت نفسه، تم تقويض النظام القديم الخاص بالتنظيمات السلطوية، بما في ذلك النقابات العمالية (إلى جانب الاتحاد العام لنقابات العمال) ونقابات الفلاحين التي منحت سابقاً النظام علاقات وبعض الحضور داخل المناطق الريفية والطرفية. على النقيض من ذلك، تم تعزيز الأجهزة الأمنية في هذه المناطق. واعتبر بشار الأسد هذه الهياكل والتنظيمات عقبات في طريق الإصلاح الاقتصادي النيوليبيرالي.

عشية الانتفاضة الشعبية عام 2011، تحول الاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية جماعياً إلى أدوات سلطوية في يد النظام السوري

عشية الانتفاضة الشعبية عام 2011، تحول الاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية جماعياً إلى أدوات سلطوية في يد النظام السوري. فقد سيطر حزب البعث عليها وتحكّم بها إلى حد كبير. كان الرؤساء والغالبية العظمى من القادة الآخرين للاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية – ولا يزالون – خاضعين دائماً إلى اختيار منهجي من قبل كبار الأعضاء في حزب البعث. وجّه الاتحاد العام لنقابات العمال سلوكه وسياساته في العقود القليلة الماضية بهدف تعبئة أعضائه لمواصلة الجهود الإنتاجية، والترويج لسياسات النظام في صفوف الطبقة العاملة، حتى عندما تتعارض تلك السياسات مع مصالح هذه الطبقة، والعمل كدرعٍ واقية للنظام نفسه عند الحاجة. مثلاً، لم يعارض الاتحاد العام لنقابات العمال إصلاحات قانون العمل الصادر عام 2010 في القطاع الخاص والقطاع العام-الخاص والقطاع التعاوني، وهي إصلاحات جعلت فصل أصحاب العمل للعاملين أسهل وأرخص تكلفة.

النقابات العمالية بعد عام 2011 لخدمة مصالح النظام

عند اندلاع الانتفاضة الشعبية في منتصف مارس/آذار 2011، لم يكن لدى الاتحاد العام لنقابات العمال أو التنظيمات السلطوية الأخرى القدرة على حشد أعضائها نتيجة للتهميش السياسي الذي عانت منه في العقد السابق. بعد عام 2011، أعاد النظام السوري تقييم أدوار التنظيمات السلطوية "الشعبية"، مثل الاتحاد العام لنقابات العمال، وتلك التابعة لحزب البعث. ساعد الاتحاد العام لنقابات العمال، إلى جانب اتحاد الشباب الثوري، وهو المنظمة الشبابية لحزب البعث، والتنظيمات السلطوية "الشعبية"، مثل الاتحاد العام للفلاحين، في قمع الحركة الاحتجاجية والسيطرة في شكل عام على المجتمع. وبالمثل، طلبت أجهزة أمن النظام من النقابات المهنية استبعاد الأعضاء الذين شاركوا في الاحتجاجات جميعاً. 

قبل عام 2011، ضمّ الاتحاد العام لنقابات العمال ما يُقدَّر بنحو 1.2 مليون عضو، وهو ما يقرب من مجموع العاملين في القطاع العام. عام 2018، أعلن رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال أن عدد الأعضاء قد تقلص إلى نحو 950 ألف عضو، في حين قدرت صحيفة "قاسيون" التابعة لحزب الإرادة الشعبية المرضي عنه من النظام والذي أنشأه النائب والوزير السابق قدري جميل – عدد الأعضاء بنحو 600 ألف عضو.

لا احتجاجات عمالية لذوبان القوة الشرائية لليرة السورية

لم يعرب الاتحاد العام لنقابات العمال عن أي معارضة عملية أو رسمية للديناميكيات الاقتصادية والسياسية الحكومية. بل على العكس تماماً: داخل الاتحاد العام لنقابات العمال، لا يُسمَح بأي نوع من المعارضة. ويُعاقَب على أي شكل من أشكال النقد أو التحدي للنظام ولحزب البعث. وفي هذا السياق، تُعَدّ أشكال المعارضة داخل الاتحاد شبه معدومة.

لا يستطيع معظم السكان العاملين في الدولة وفي القطاع الخاص تغطية معظم احتياجاتهم الشهرية. يبلغ جدول الرواتب الحالي لموظفي الخدمة المدنية ما بين 280 و336 ألف ليرة سورية (ما يعادل 22 و26 دولارا)

ولم يشارك الاتحاد العام لنقابات العمال في أي حملة لتحسين الظروف المعيشية لأعضائه، أو لعموم السكان، بما في ذلك ما يتعلق بزيادة الرواتب إلى مستوى يواكب معدلات التضخم، ومعالجة فقدان القوة الشرائية، ومعارضة إجراءات التقشف وخصخصة أصول الدولة، وما إلى ذلك. ولم يفِ رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال جمال القادري، منذ عام 2015 والعضو في حزب البعث، بالالتزامات التي تعهد بها في بداية ولايته، بما في ذلك رفع الرواتب بالقيمة الحقيقية، أو الحفاظ على القطاع العام الحكومي، أو النضال ضد إجراءات التقشف.

الرواتب الشهرية لموظفي الدولة... "مهزلة"

لا يستطيع معظم السكان العاملين في الدولة وفي القطاع الخاص تغطية معظم احتياجاتهم الشهرية برواتبهم. يبلغ جدول الرواتب الحالي لموظفي الخدمة المدنية ما بين 280 ألفاً و890 ليرة سورية و336 ألفاً و348 ليرة سورية (ما يعادل 22.2 دولارا و26.6 دولارا على التوالي بسعر الصرف الرسمي البالغ 12 ألفاً و625 ليرة سورية للدولار). ليست رواتب كهذه كافية إلى حد كبير لإعالة عائلة. في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ووفق تقديرات صحيفة "قاسيون"، بلغ متوسط تكلفة المعيشة لعائلة سورية مكونة من خمسة أفراد في دمشق 13.6 مليون ليرة سورية (سجل الحد الأدنى للتكلفة 8.5 مليون ليرة سورية) (أي ما يعادل ألف و77 دولاراً و673 دولاراً على التوالي).

.أ.ف.ب
الليرة السورية، ورق بلا قيمة شرائية

يدفع هذا الوضع معظم موظفي الخدمة المدنية والجنود وغيرهم من الموظفين في المؤسسات السورية إلى البحث عن وظائف إضافية ويجعلهم أقل مناعة أمام الأنشطة الاقتصادية غير القانونية، بما في ذلك الفساد، في كل مرحلة من مراحل الإدارة الحكومية والقطاع العام. بالإضافة إلى ذلك، تنتشر موجات كبيرة من الاستقالات في القطاع العام نتيجة لانخفاض الأجور.

"نقابات العمال" مع الخصخصة!

في القطاع الخاص، تختلف الرواتب في شكل كبير بحسب القطاع الاقتصادي. وفق دراسة أُجرِيت خلال صيف 2024، تتراوح رواتب العاملين في القطاعات الصناعية والتجارية والصيدلانية والخدمية بين 900 ألف ليرة سورية (71 دولاراً) للموظفين الأساسيين و10 ملايين ليرة سورية (792 دولاراً) للمديرين الماليين الكبار.

لم يعارض الاتحاد العام لنقابات العمال سياسات الخصخصة المستمرة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك خصخصة الشركات الحكومية التي تراكم أرباحاً على غرار تحرير تجارة التبغ

وبالمثل، دأب الاتحاد العام لنقابات العمال بقيادة القادري على الترويج للخطاب النيوليبيرالي التقليدي، لجهة الحاجة إلى تعزيز كفاءة الشركات المملوكة للدولة والمؤسسات العامة، من خلال تعزيز المرونة وتحسين آليات العمل، وإعادة النظر في التشريعات التي تعمل بموجبها. وذكر القادري أن أهم إجراء يجب اتخاذه في أي إصلاحات مقبلة هو القضاء على "الروتين البيروقراطي" في قطاع التصنيع المملوك للدولة، لتمكين الإصلاح المالي للشركات والتعامل مع كل وحدة إنتاجية كإدارة مستقلة ذات حرية في اتخاذ القرارات، مع المطالبة في الوقت نفسه بالمساءلة عن نتائجها. وأضاف أيضاً أن برامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص تشكّل حلاً إيجابياً للشركات الخاسرة. ولهذا السبب لم يعارض الاتحاد العام لنقابات العمال سياسات الخصخصة المستمرة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك خصخصة الشركات الحكومية التي تراكم أرباحاً على غرار تحرير تجارة التبغ الذي أُعلِن في مايو/أيار 2024 أو خصخصة الخطوط الجوية السورية في يوليو/تموز 2024.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أعلن وزير الصناعة محمد سامر الخليل تكبد عدد كبير من الشركات والمؤسسات والمصانع التابعة للوزارة خسائر كبيرة جداً، تثقل كاهل خزينة الدولة. ومن أجل إيجاد حل لهذه المشكلة، دافع عن بيع هذه الشركات إلى القطاع الخاص. 

ويشجع رئيس الوزراء الجديد محمد غازي الجلالي سياسة الخصخصة المستمرة لأصول الدولة، وأوضح أن انتقال الدولة من التوظيف إلى التنظيم لا يعني تراجعاً في دور الدولة، بل يعني تطوير دورها ونقله إلى صيغة أكثر واقعية وإنتاجية.

تُعتبَر قوانين العمل التي تنظم التوظيف العام في الدولة (قانون العمل الرقم 50 الصادر عام 2004) أكثر ملاءمة من قوانين العمل التي تنظم القطاع الخاص لجهة الرواتب والحوافز، بما في ذلك بدلات الوجبات، والنقل المجاني، والتأمين الصحي والاجتماعي، والمعاشات التقاعدية، ومعدات الحماية الشخصية.

يؤدي الاتحاد العام لنقابات العمال دوراً كأداة للسيطرة والقمع في يد النظام، ويدافع عن سياساته على حساب مصالح قطاعات كبيرة من الطبقات العاملة

إلى جانب هذه الديناميكيات، دعم الاتحاد العام لنقابات العمال استخدام النظام التوظيف في الخدمات العامة كأداة لتعزيز الطاعة وفرضها ومكافأة الأفراد والمجتمعات المحلية التي تُعتبَر موالية. يعكس العديد من المراسيم والقوانين التي أصدرتها الدولة في السنوات القليلة الماضية هذا التوجه. في ديسمبر/كانون الأول 2014، مثلاً، أصدرت الحكومة قراراً يقضي بتخصيص 50 في المئة من فرص العمل الجديدة في القطاع العام لعائلات "شهداء" الجيش العربي السوري. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2018، حرم إجراء اتخذه مجلس الوزراء الذين لم يؤدوا الخدمة العسكرية أو الاحتياطية جميعاً من الحق في التقدم إلى التوظيف العام.

.أ.ف.ب
سوريون في مدينة السويداء يتظاهرون احتجاجا على الوضع الاقتصادي، 29 أغسطس 2023.

تسبب القمع التاريخي الذي نفذه النظام السوري في العقود الماضية بحق مساعي النقابيين المشاكسين والجهات الفاعلة السياسية اليسارية المشاكسة إلى تعزيز مصالح الطبقة العاملة، إلى جانب سياسات السيطرة على الاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية وتحويلها إلى أداة في يده، بإعاقة شديدة لأي تعبئة عمالية محتملة وعمل جماعي محتمل في أعقاب اندلاع الانتفاضة في مارس/آذار 2011. يؤدي الاتحاد العام لنقابات العمال دوراً كأداة للسيطرة والقمع في يد النظام، ويدافع عن سياساته على حساب مصالح قطاعات كبيرة من الطبقات العاملة.

سيكون بناء منظمات عمالية مستقلة وجماهيرية في المستقبل في سوريا ضرورياً لتحسين ظروف معيشة السكان وعملهم، وللنضال في شكل عام من أجل الحقوق الديمقراطية.

font change

مقالات ذات صلة