عندما قامت ثورة 26 سبتمبر/ أيلول بمساعدة مصر، كان تأثير مصر الثقافي على اليمن الشمالي كبيرا. فالإذاعة تقدم أغانيَ ومسلسلات مصرية، والمكتبات تبيع كتب يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ، وأيضًا المدارس كانت تدرّس المنهج المصري، وتم استقطاب مدرسين مصريين، وحتى أغاني طفولتنا كانت مصرية، ولكن ذلك تغير مع السنوات بحسب التغيرات السياسية.
عندما كنت أدرس في اليمن أتذكر جيدا التغيرات التي حدثت في فترة التسعينات، أي بعد حرب الوحدة والتي انتصر فيها علي عبدالله صالح وتحالف وقتها مع الجماعات الإسلامية لمحاربة جنوب اليمن، وكانت مكافأة الجماعات الإسلامية في هذه الحرب إعطاءهم سيطرة أكبر في مؤسسات الدولة مثل التعليم والإعلام ومجلس النواب وغيرها.
عندما كنت في الابتدائية في الثمانينات كانت الموسيقى مسموح بها في المدارس الحكومية، وكان هناك مسرح وحفلات، وأتذكر جيدًا مدرستي الحكومية "شهداء السبعين" عندما كان لدينا حفل نهاية العام، وكنا نتعلم الأغاني، وكان هناك معلمتان تلبسان ملابسَ ملونة، وليس "العباية السوداء"، ثم تغير كل هذا في التسعينات.
وعندما قامت حرب الوحدة في صيف 1994 أتذكر منها فقط مضادات الطيران وأنا في بيتنا في صنعاء أتفرج من الشباك، وأمي تصرخ خائفة قائلة: "ابتعدي عن الشباك". أعجبتني الألوان التي تشبه الألعاب النارية، وكان هذا الشيء الوحيد الذي شعرت به خلال هذه الحرب، فبعد ذلك هربنا لمدينة إب، وقضينا العيد هناك، وكان هناك هدوء وسكينة.
في عام 2010 عندما كانت هناك محاولات لتغيير القانون اليمني ليمنع زواج الصغيرات، خرج الزنداني مع مجموعة كبيرة من نساء حزب "الإصلاح" معترضين على هذا القانون
بعد الحرب وانتصار علي صالح تغير الكثير. تم إلغاء حصص الموسيقى والفن، لا حفلات مسرح، حتى المعلمات اللواتي كن يلبسن الألوان أصبحن منتقبات. معلمتي التي كانت تدرّس العربية، وكنت أحب دروسها أصبحت تتحدث بلغة مفخمة، وتتحدث من أنفها، وتغير تعاملها معنا، فأصبحت جافة وشديدة التدين.
تمت إضافة كتاب للمواد الإسلامية، وهو كتاب "التوحيد" الذي كتبه الشيخ عبدالمجيد الزنداني، هذا الكتاب درسته في المدرسة، وبإمكانكم أن تجدوه عند البحث في الإنترنت. في هذا الكتاب يتم تفسير كل شيء بطريقة دينية بعيدة تمامًا عن العلوم الطبيعية. فنزول الأمطار سببه الله... وماذا بعد؟ لا شيء. فقط الله هو السبب، وهذا ما يجب أن تعرفه. تغير الجو من بارد لحار أو العكس سببه الله، علوم البحار سببها الله... إلخ. الكتاب ببساطة يلغي العلوم، ويجعل كل التفسيرات دينية غيبية، وكأن العالم لم يستكشف بعد كيفية حدوث هذه الظواهر.
لم يكن هذا فقط تأثير هذه الجماعة في اليمن، حيث كان للشيخ الزنداني وحزب "الإصلاح" لاحقا دور في استمرار زواج الصغيرات، ففي عام 2010 عندما كانت هناك محاولات لتغيير القانون اليمني ليمنع زواج الصغيرات، خرج الزنداني مع مجموعة كبيرة من نساء حزب "الإصلاح" معترضين على هذا القانون، وحاملين لافتات كُتب عليها أن هذا ضد الشريعة، وضد الدين... إلخ. ما زال هذا الخبر موجودا لمن أراد أن يبحث.
ماذا عن التعليم اليوم في مناطق سيطرة الحوثيين؟ في أحد الأيام فكرت أن أبحث عن مدرستي على "فيسبوك" وليتني لم أفعل. رغم أن مدرستي في التسعينات لم تكن أفضل حالا ولكنها اليوم أسوأ. صور وفيديوهات للطالبات يرفعن أيديهن، ويصرخن بشعارات الصرخة والموت التي يرددها الحوثيون. الجدران كلها صور لقتلى الحروب. المنهج أيضا تغير، فأصبح المثل الأعلى للأطفال هو الطفل الذي يقاتل ويموت في ساحة القتال، إذ إن هاني طومر الطفل الذي قُتل وهو يحارب في صفوف الحوثيين، هو المثل الأعلى لأطفال اليمن اليوم ويدرسون عنه في المدارس. هذا هو مستقبل أطفال اليمن. مستقبلهم هو القتال والموت.
اليمن عانت من الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وتأثير ذلك على أجيال من الأطفال والشباب، وتحويلهم لقنابل قابلة للانفجار، ومقاتلين جاهزين لأن يكونوا مرتزقة في أي بلد فيها حروب. لا أرى أي نور أو أمل في مستقبل أفضل ما دامت جماعات الإسلام السياسي هي التي تحكم. الأمل سيكون موجوداً فقط عندما يأتي اليوم الذي نفصل فيه السياسة عن الدين، وتكون المواد التعليمية مواد علمية بحتة، ولا تُفسرُ دينيا. وبالتأكيد يتعلم الأطفال عن الأديان المختلفة بشكل محايد، قد يبدو هذا بعيدًا، ولكنه بدأ يظهر في بعض الدول العربية، وبالتأكيد سيحدث في اليمن يوما ما.